بناء على طلب الآثار: القصة الكاملة لهدم قصر أندراوس بالأقصر
بعد معركة استمرت 13 عاما، وعشرات اللجان التي أشارت إلى أهمية المبنى وتاريخه ودوره في الحركة الوطنية المصرية، فضلا عن تقارير هندسية أكدت إمكانية ترميم المبنى والاستفادة منه. رغم كل هذا صدر القرار، عكس كل التوقعات والأمنيات. حيث بدأت أمس عملية إزالة قصر توفيق باشا أندراوس بالأقصر أحد أبرز القصور ذات الطراز المعماري المتميز في صعيد مصر. من صاحب القرار؟، ولماذا تم اتخاذه؟
حاول «باب مصر» الوصول إلى الحقيقية. في البداية نفي مسؤولين في وزارة الآثار معرفتهم ببدء عملية إزالة القصر، وأن ما يحدث عبارة عن إزالة الركام المحيط بالقصر تمهيدًا لافتتاح طريق الكباش بالأقصر، وبعد هذه المحاولة حاولنا التواصل مع الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، فلم نتلق أي رد على اتصالاتنا، فحاولنا الوصول إلى مسؤولين في محافظة الأقصر.
مجلس مدينة الأقصر
أكد العميد طارق لطفي، رئيس مجلس مدينة الأقصر، لـ«باب مصر» صحة قرار الهدم موضحا: “تم اتخاذ القرار نتيجة مذكرة تم رفعها من وزارة الآثار لمحافظ الأقصر، أكدت أن القصر مهدد وبه شروخ، وأنه يقع في أرض ضمن حوزة الآثار، لذلك طالبوا في المذكرة باستقدام لجنة لمعاينته، وبالفعل اهتم المحافظ بالأمر وشكل العديد من اللجان وآخرهم لجنة المنشآت الآيلة للسقوط، وقد أقرت اللجنة أن القصر معرض للهدم، بسبب قدمه وعدم ترميمه لسنوات، لذلك اتخذت اللجنة قرار الإزالة، وتم رفعه والتصديق عليه من جانب المحافظ، وتكليف أحد المقاولين بعملية الهدم”.
وأضاف: «البلاغ الذي تقدمت به الآثار جاء بسبب أن القصر يقع داخل حرم معبد الأقصر، وبالتالي يحجب بانوراما المعبد من الجانب الغربي ناحية النيل، لذلك استجابت المحافظة لطلب الآثار، وبدأت أعمال الإزالة منذ أمس الأحد، ولن تستغرق العملية أكثر من ثلاثة أيام على أقصى تقدير، وقد تم تشكيل لجنتين؛ الأولى لجرد محتويات القصر، والتي كانت عبارة طاقم أنتريه قديم، وثلاجة، وغسالة وأشياء أخرى تم التحفظ عليها في مخازن المدينة لحين وصول الورثة، لتسليمها إليهم. أما اللجنة الثانية فهي معنية بمباشرة الأعمال الجارية من قبل المقاول أثناء عملية الهدم».
وتابع: كان من الصعب إعادة ترميم القصر فنحن استقدمنا العديد من اللجان وجميعهم أكدوا استحالة الأمر، فتركه بهذا الشكل قد يؤدي لحدوث كارثة، نظرًا لأنه يطل على الناحية الشرقية من ممشى الكورنيش، لذلك اتخذنا إجراءات سريعة لعملية الهدم.
ذاكرة وطنية
كانت تلك الوقائع الذي ذكرها رئيس مجلس مدينة الأقصر هي الحلقة الأخيرة من سلسلة معارك بدأت منذ أكثر من 13 عامًا حينما حاول البعض هدم القصر، إذ إنه في عام 2009 كلف وزير الثقافة فاروق حسني، لجنة فنية لمعاينة مسكني “أندراوس باشا” و”ويسي أندراوس” بالأقصر، وذلك بعد وجود مطالبات عدة لهدمهما وضمهم لحرم معبد الأقصر، وقد رفض وقتها الدكتور صابر عرب رئيس اللجنة الأمر، واقتبس إحدى العبارات التي تبرز دور أندراوس باشا في الحركة الوطنية وكتب: “فهتف سعد زغلول يحيي توفيق أندراوس”، وتحدث عن دعم توفيق أندراوس للحركة الوطنية المصرية الذي كان قصره بمثابة بيت للأمة في مدينة الأقصر، وتساءل عرب وقال: «لماذا حافظنا على مسجد أبو الحجاج، بينما نقرر إزالة منزل أسرة أندراوس؟»
وأضاف في قرار الرفض أنه لا يصلح بأي حال من الأحوال أن نزيل مبنى يعد بمثابة الذاكرة الوطنية للمدينة، وهناك أكثر من حل للإبقاء على المبنيين، إذ أنه لا يحدث في أي بلد يحافظ على تاريخه أن يقدم على إزالة مبني له هذه رئيس اللجنة.
مخالفة الدستور
الدكتورة سهير حواس، أستاذ العمارة والتصميم العمراني بجامعة القاهرة، والتي كانت عضوة ضمن اللجان التي عاينت القصر قالت في حديثها لـ«باب مصر»: حين عاينا القصرين كان أحدهما يستخدم كمقر للحزب الوطني، والثاني عاش بداخله بنات أندراوس، وفي عهد الدكتور سمير فرج عندما كان محافظًا للأقصر كانت هناك محاولات لهدم القصرين، وذلك لاستكمال مشروع يخص تطوير المنطقة المحيطة لمعبد الأقصر، وبعد ذلك حدث اعتراضات على هدمهما، بسبب تاريخهم الطويل وارتباطهم بحقبة زمنية هامة تخص تاريخ مصر، خاصة أن سعد زغلول حين عاد من المنفى تم استقباله داخل إحدى القصرين، ودار حوله الكثير من الحكايات التي تخص أندراوس باشا وبناته، كما أن القصر كان يحوي على أثاث نادر وقطع فريدة بداخله، لذلك شكلت اللجنة واعترض وقتها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري على عملية الهدم، وكنت رئيسًا وقتها للإدارة المركزية في الجهاز، ومن ضمن أعضاء اللجنة التي شكلت لمعاينتهما، وجلست مع أبناء أندراوس، وشاهدت القصر من الداخل، وزرت القصر المجاور له، والذي استخدم مقرًا للحزب الوطني، وفي النهاية رفضت اللجنة هدم القصرين وكتبنا مبررات واضحة في التقرير، ومنها أنه لا يجوز المساس بالقصرين، لأنهما يمثلان حقبة تاريخية هامة، وبعدها تم تشكيل لجنة أخرى مع استبدال بعض أعضاءها وكنت عضوًا في هذه اللجنة أيضًا، ورفضت اللجنة عملية الهدم هي الأخرى، وبعد ذلك شكلت لجنة ثالثة، رغم أن اللجنة الثانية كانت تضم أعضاء في غاية الأهمية مثل الدكتور صابر عرب، الذي شغل منصب وزير الثقافة ودار الكتب والوثائق في وقت ما، ورغم هذا تم استقدام لجنة أخرى وتغيير جميع الأعضاء ولم أكن عضوًا فيها، ووافقت على هدم القصر الذي شغله الحزب الوطني، وخسرنا أحد أهم القصور الموجودة في الأقصر، وتركوا القصر الآخر الذي يتم هدمه في الوقت الحالي، وهو القصر الذي قتل بداخله بعد ذلك بنات أندراوس باشا، لذلك أنا اتساءل لماذا لم تتحرك الدولة لحماية القصر، الذي كان من المفترض أن يتم تطويره وإعادة توظيفه وتحويله متحف؟
دافعنا عن القصر
وتابعت حواس: أنا حزينة على ما يحدث لأننا دافعنا عن هذا القصر لسنوات والآن في طريقه للزوال هو الآخر، رغم رفض اللجان لعمليات الهدم، فأعضاء هذه اللجان لازالوا أحياء وموجدين بيننا اليوم، والتي كانت تضم الدكتور طارق والي، والدكتور صابر عرب، والدكتور مختار الكسباني، فما الذي جد لهدم القصر؟، وإذا كانت الآثار لها اليد في عملية الهدم هذه، فهم ليسوا جهة اختصاص للبت في أمر كهذا، لأن القصر مدرج في التنسيق الحضاري، وأصبح ضمن تراث المكان، مثله مثل مسجد أبي الحجاج الذي بني داخل معبد مصري قديم، ورغم ذلك تم الحفاظ عليه بهذا الشكل، لأنه يمثل تتابع للحقب التاريخية التي مرّت على مصر.
أما بخصوص أن المبنى آيل للسقوط ولا يمكن ترميمه، فعلم الهندسة لا يعرف مثل هذه الأمور، فعملية الإنقاذ لها أكثر من طريقة، لكن إذ توفرت له الإرادة الحقيقية، لكن ما حدث هو مخالفة صريحة للدستور المصري الذي جاء فيه بالمادة رقم 50 نصًا: “تولى الدولة اهتمامًا خاصًا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية فى مصر”. لذلك أنا أطرح سؤالًا: “أين هذه الحماية التي كفلها الدستور المصري؟”، وأنا أوجه سؤالًا للتنسيق الحضاري: “ماذا جرى في لجنة حصر المباني التراثية طبقًا لقانون 144 لسنة 2006 في الأقصر وهل هذه اللجنة تم تشكيلها؟”، لذلك أنا أرى أنه لطالما ظلا كلا المبنيين معرضين دائمًا للهدم لأن هذه اللجنة لا تعمل بالطبع حتى الآن.
الموافقة على الهدم!
المهندس الاستشاري طارق المري، الذي اختير ضمن اللجنة الثالثة التي عاينت القصرين في عام 2009 تحدث عن تفاصيل تلك الواقعة، إذ قال: اعترضت وقتها أنا والدكتور أحمد شعيب على قرار الإزالة حينما كنا أعضاء هذه اللجنة التي وافقت في النهاية على الهدم.
وذكر المري: في عام 2009 طلب مني مكتب السيد وزير الثقافة حضور وعضوية لجنة لمعاينة مبنيي أندراوس بالأقصر وسافر معي من القاهرة رئيس قطاع المشروعات والدكتور أحمد شعيب أستاذ الترميم بجامعة القاهرة، ووصلنا للموقع وقدم لنا محافظ الأقصر وقتها اللواء سمير فرج، الذي رأى ضرورة إزالة القصرين التاريخيين، وكان الهدف من ذلك هو أن يتمتع المشاهد برؤية معبد الأقصر من النيل، ووقتها ضمت اللجنة أعضاء من وزارة الإسكان وأعضاء من وزارة الثقافة ومنهم أنا والدكتور شعيب، ورئيس قطاع المشروعات على هلال، وبعد الزيارة اجتمعت اللجنة وبدأ الحضور في التدوين والموافقة على الهدم، لأن المباني لا قيمة لها -من وجهة نظرهم- واعترضت أنا والدكتور شعيب لعدة أسباب، منها أننا رأينا أن المنزلين يتمتعان بسمات معمارية مميزة، ترقى لأن يكونا أثرًا مسجلًا على قائمة التراث، فهما يمثلان طريقة بناء فريدة وهي البناء بالطوب اللبن على الطراز الكلاسيكي وهي سمة مميزة لمباني أثرياء الأقصر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ولا يوجد مثلها إلا أمثلة نادرة بالمدينة.
كذلك رأينا أن البيت المأهول ببنات أندراوس يحوي على لوحات فريسك في الأسقف والحوائط لفنانين إيطاليين وبألوان زاهية ودقيقة من عصر الإنشاء، وهي توضح مدى الروعة والقيمة الفنية للمبنى ومدى رقي المصمم المعماري، ورأيت أيضًا أن المبنى له قيمة اجتماعية فريدة إذ يلقب أندراوس بـ”سيد البلد” في الأقصر وهو من أعيان الأقصر التاريخيين وقد استقبل سعد زغلول عدة مرات في هذا القصر حتى أطلق عليه بيت الأمة في الأقصر مما يرفع القيمة الاجتماعية للمبنيين ويجعلهما بالإضافة لمعمارهما الفريد قيمة استثنائية يجب الحفاظ عليها.
وتابع: انتهى الاجتماع وقتها بوضع كلامنا كتحفظ، لأن باقي أعضاء اللجنة لم يعجبهم أننا فعلنا عكس ما أراده سمير بك فرج، واعترضنا على تمرير قرار هدمهما، وحين سألت عن القرار النهائي بشأن المنزلين وجدتهم قرروا أن يمسكوا العصا من المنتصف، إذ قرروا هدم الجزء المشغول بالحزب الوطني (القصر الكبير) والإبقاء على القصر الصغير الخاص بالبنات.
إعادة توظيف
أستاذ التخطيط العمراني الدكتور طارق والي، قال لـ«باب مصر»: القصر يمكن إعادة ترميمه بسهولة، وقد شكلت العديد من اللجان لمعاينته وكنت عضوًا فيها ورفضنا هدمه، لكن ما يحدث حاليًا تم بناء على طلب الآثار، لأنها رأت أن القصر يقع ضمن حرم المعبد، وما حدث اليوم يسأل فيه التنسيق الحضاري، إذ كان من المفترض أن يتم إعادة توظيفه واستخدامه بطريقة ما، لا أن يهدم، وهذا ليس أول أو أخر قصر سيتم هدمه، فنحن في أزمة حقيقية، ونحن نطالب بقوانين جديدة للتنسيق الحضاري، لأنها موجودة بالفعل، بل نحتاج لتفعيل هذه القوانين، وأنا لا أعلم كيف يضحي الجهاز بهذا القصر، لذلك ليست لدي أية إجابات لأنهم وحدهم من يملكون الرد.
تعليق واحد