وجه يمارس الحرية وآخر يطالب بالمنع!.. عن المنصات والرقابة والفضاء العام
على منصة “نتفليكس” يتصدر مسلسل أمريكي بعنوان “الحياة الجنسية” Sex/ Life قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة في مصر خلال الأسبوع الماضي.
المسلسل يتناول الخيالات الجنسية لامرأة شابة مطلقة ولديها طفلان، وهو يحتوي على الكثير من المشاهد الجنسية الصريحة.
“نتفليكس”، مثل بقية المنصات، يمكنها إحصاء عدد المشاهدات في كل بلد أو مدينة بدقة، وهكذا يفعل الإنترنت بالرغم من أنه لا يوجد مصدر مباشر يمكن الحصول منه على الأرقام بدقة، ولكن التقارير والشواهد تبين أن العالم العربي من أكثر المناطق ارتيادا للمواد البورنوجرافية والجنسية بشكل عام.
الحرية والمنع
ورغم القيود المفروضة على بعض المواقع والفضائيات يستطيع المصريون الوصول لأي مواد فنية أو معلوماتية بسهولة عن طريق بعض برامج الإنترنت أو أجهزة فك الشفرات التي يمكنها فتح أي قناة ممنوعة أو مدفوعة. وليس للرقابة على المصنفات أو الإنترنت قدرة على فرض شروطها على هذه الوسائط الحديثة أو الوصول إليها.
والخلاصة أن الحرية موجودة بالفعل على أرض الواقع، وأن أي مواطن لديه كمبيوتر أو هاتف محمول يمكنه الدخول على أي مواد في العالم.
فلماذا، إذن، هذا الجدل المثار طوال الوقت حول أي عمل سينمائي أو تليفزيوني يحتوي ولو على قدر نذير من الجرأة؟، وهو ما يذكرنا ببيت الشاعر أحمد شوقي الشهير:
إلام الخلف بينكم إلاما
وهذه الضجة الكبرى علاما؟
هذه الضجة التي تصم الآذان وتغشى العيون في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حول فستان فنانة أو عبارة قالتها إحدى الشخصيات في فيلم أو مسلسل، أو كلمة رددها مغني شعبي في أغنية ما، ما الهدف منها حقيقة؟، هل يريد أصحابها بالفعل أن يمنعوا هذه الأعمال والمشاهد والكلمات؟، وإذا منعوها فهل يعني ذلك أن المشاهد المصري لن يتعرض لأكثر من هذه المشاهد والعبارات “الخارجة عن النص الرسمي” والمواصفات القياسية للرقابة من مصادر أخرى؟
المسألة غير مفهومة بالمرة، بالنسبة لي على الأقل، خاصة أن هذه الازدواجية تزداد استقطابا مع الوقت، بدلا من أن تخف حدتها بمرور السنوات. فمنذ عشرين عاما، عندما كانت الفضائيات والهواتف المحمولة والإنترنت في بدايتها، كانت الهوة بين المسموح به رسميا والممنوع الذي يشاهده الناس بشكل غير رسمي أقل اتساعا مما هي عليه الآن. كان هناك سينما أجرأ “جنسيا” وتليفزيون أجرأ “سياسيا” وكتب ومقالات أجرأ “دينيا”، ومجال عام أكثر انفتاحا بشكل عام.
أو ربما يجب النظر للأمر من زوايا أخرى: منذ عشرين عاما كان المصريون يدخلون على المواد الإباحية أكثر مما يفعلون الآن. الانفتاح المفاجئ الذي جاءت به الفضائيات، ثم الإنترنت، ثم الهواتف المزودة بكاميرا وإنترنت أحدث هزة كبيرة، وانتشر نوع من الهوس بالصور الجنسية كرد فعل على عقود من الحرمان. أعتقد أن الأمور أهدأ الآن، ولم تعد المواد الإباحية جذابة مثلما كانت عليه منذ عقدين، ومن ناحية ثانية لم يعد للصورة العارية التأثير الصادم الذي كانت تحدثه منذ عقدين مضيا… بمعنى أن المجتمع يبدو أقل شبقا وأقل توترا تجاه الصور والأفكار الجريئة.
مع ذلك اتسعت الهوة كثيرا بين ما يسمح معظم الناس لأنفسهم بمشاهدته على الإنترنت والمنصات “الدولية”، وما يرفضونه ويهاجمونه على الفضائيات ودور العرض “المحلية”.
المنصات والقنوات الأرضية
قد يكون الأمر متعلقا بوجود جمهورين، لا جمهور واحد: جمهور منعزل في عالم الإنترنت ومواقع التواصل والمنصات، وجمهور منعزل في القنوات الأرضية والفضائيات الإقليمية فقط. هناك فوارق طبقية وثقافية وعمرية كثيرة تميز بين هذين الجمهورين، ولكن كل منهما موجود داخل كل بيت وأسرة تقريبا. وفي عالم اليوم يبدو هذا قدرا محتوما، في العالم كله وليس مصر فقط، حيث يصبح كل شخص تقريبا “جزيرة” منعزلة على نفسه داخل أجهزته الإليكترونية.
ولكن ليس هذا ما أتحدث عنه. ما أرغب في مناقشته هو الفضاء العام، لا الخاص، الذي يبدو وكأنه يحيا داخل كهف مغلق منذ قرون، لا علاقة له بالعالم المنفتح الذي نعيش فيه.. وهو أمر يزيد من عزلة المجموعات والأفراد ورفض الآخر وإنكار وجوده. والأسوأ أن يعيش المجتمع والفرد بوجهين متضادين ينكر كل منهما الآخر. في العلن يلعن الحرية وفي السر يمارسها بدون أية ضوابط.
هل المصريون الذين يقبلون على مشاهدة مسلسل “الحياة الجنسية” وغيره من الأعمال التي تبث على المنصات والقنوات المدفوعة والفضائيات الأجنبية، هو نفسه الجمهور الذي ثار ضد مسلسلات مثل “الطاووس” و”ملوك الجدعنة” و”سابع جار” و”ليه لأ؟”
وهل الجمهور الذي يستخدم الإنترنت نهارا وليلا هو الجمهور الذي يحرض الرقابة على المصنفات الفنية لمنع أفلام ومشاهد وأغاني مصرية لا يمكن أن تصل بأية حال لجرأة الأعمال الموجودة على الإنترنت؟
في غياب فضاء عام يستوعب معظم هذه التناقضات ويسعى للتقريب والتوفيق بينها، فمن المتوقع أن تزداد حدتها ووطأتها على المجتمع والأفراد، ومثل أي عصاب جماعي أو فردي لن يؤدي إلا للمرض والشلل النفسي!
اقرأ أيضا
في البحث عن كيان لإنقاذ السينما والدراما: الرقابة على الإبداع.. أم صناعته؟!
تعليق واحد