الدراما المصرية بين سيف الرقابة ونار الازدواجية!
نظرة واحدة عابرة للأفلام والمسلسلات التي تعج بها المنصات والفضائيات غير العربية يمكن أن تبين الهوة الواضحة التي تفصل العالم العربي عن بقية العالم كله، حتى البلاد التي كانت إلى وقت قريب في مثل تخلفنا أو تزيد.
لا أحد يريد أن يواجه هذه المشكلة، أو يعترف بها، وهناك خطابات “أخلاقية” كاملة تم نسجها وتعليبها وصبغ هالة من القداسة الدينية والوطنية عليها لإغلاق باب المناقشة في هذه القضية المفصلية.
نار الازدواجية
يشعر الإنسان العربي بازدواجية حادة، لا أتصور أن أي مواطن آخر في الكوكب يعاني من مثلها، إذ يتاح له الآن أن يطلع على أي مواد بصرية أو لغوية في العالم، بدون أي نوع من الرقابة، ولكنه من جهة أخرى لا يستطيع الحديث علنا، وبالأخص فيما ينتج من أفلام ومسلسلات، عن شيء مما يعتمل في رأسه، أو مما يراه ويسمعه على الإنترنت والفضائيات.
هناك بالطبع رقابة على المصنفات الفنية لديها محاذير وممنوعات صارمة فيما يتعلق بأي شيء يمس التابوهات الثلاثة: الدين والجنس والسياسة، علما بأن هذه التابوهات كانت، ولم تزل، الموضوعات الأساسية للدراما منذ أن ظهرت الدراما في شكل الحكايات والأساطير الشعبية القديمة.
لكن الأمر لا يتعلق بالرقابة على المصنفات كهيئة حكومية تابعة لوزارة الثقافة شكليا ولوزارة الداخلية والجهات الأمنية عمليا. جهاز الرقابة، في البداية والنهاية، هو نتاج مجتمعي خاضع للظروف السائدة في وقت ما، ولذلك تتغير حدود المحاذير الرقابية دائما مثل “الأستيك” المطاطي، أو كما اعتاد أن يقول الرقيب الراحل علي أبوشادي: “قوانين الرقابة يمكن أن تسمح بمرور جمل ويمكن أن تمنع مرور نملة”!
سيف الرقابة
من الصعب إذن أن نتخيل أن جهاز الرقابة هو المسؤول الأوحد عما نراه من عقم وجدب في الأفكار والموضوعات المطروحة في السينما والدراما التليفزيونية على مستوى العالم العربي كله.
حتى ما يطلق عليه “الرقابة المجتمعية”، التي لم تعد تتمثل فقط في المؤسسات الدينية والسياسية والمهنية مثل الأزهر والكنيسة والبرلمان والنقابات.. ولكن في قائمة أخرى طويلة من الكيانات التي تبدأ بوسائل الإعلام وبعض المحامين الباحثين عن دور، وأبناء وأقارب المشاهير الذين تجسد شخصياتهم في الأعمال الفنية، كما باتت تتمثل أيضا في كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين ينصبون أنفسهم رقباء وحماة للوطن والدين والأخلاق. ويمكن أيضا إضافة كيانات جديدة غريبة، مثل لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى للإعلام، أو صفحات الفيسبوك و”تويتر” “المدفوعة” لشن الهجمات ضد، أو للدفاع عن أفكار وشخصيات بعينها. وجرب مرة أن تنتقد رجل أعمال فاسد أو مغني معروف، لكي تجرب النهش الذي ستتعرض له من قبل اللجان الإلكترونية لرجل الأعمال أو المغني!
إن نظرة عابرة لأسماء الأعمال التي أثارت الجدل خلال السنوات السابقة مثل مسلسلات “سابع جار” أو “ليه لأ” أو “الطاووس” أو “ملوك الجدعنة” أو “نسل الأغراب” – وهي أعمال “أليفة” و”محافظة” بمعايير السينما والتليفزيون المصرية على مدار القرن الماضي-، إنما تعكس حالة الازدواجية التي يعاني منها كثير من المواطنين والإعلاميين، حيث يتربصون بأي شيء “عربي” “مسلم”، فيما يتقبلون، بل وأحيانا يمتدحون، أفلام ومسلسلات العالم. ولاحظ أنني قلت “العالم” وليس “الغرب” “الملعون” الذي يقرن اسمه عادة بالحريات، لأن ما نطلق عليه “الغرب” أصبح معظم بلاد العالم غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، فيما يتعلق بحرية التعبير في مجالي السينما والدراما.. إذا استثنينا البلاد العربية وإيران (وإن كانت إيران حالة مختلفة لا ينطبق عليها الكلام السابق، لأن مبدعيها الكبار يكسرون كل التابوهات على طريقتهم!).
حين أقول البلاد العربية هناك أيضا فوارق ودرجات لا بد من تأملها. لبنان وتونس والمغرب بهم قدر من الحريات لا تتوفر في بقية البلاد، ودول الخليج مثل السعودية والإمارات تشهد انفتاحا متزايدا ومساحة متزايدة من الحريات لم تكن مسموحا بها منذ سنوات قليلة، وبلد كان في القاع مثل السودان يشهد تحولات جذرية أثمرت بعض الأعمال الفنية الجريئة، حتى لو كانت صناعها يعيشون خارج السودان حاليا. أما مصر، الرائدة، فتزداد انكماشا بشكل ملحوظ. وهو أمر خطير ليس فقط على مصير السينما والدراما، ولكن على العقل المصري بشكل عام.. ببساطة لأن هذه الازدواجية التي ترفض المواجهة أو التصالح لا يمكن أن ينتج عنها فكرة سليمة في أي مجال من مجالات الحياة، ولعل الخرافات التي انتشرت وسادت حول فيروس كوفيد 19 المستجد أكبر مثال على ذلك.
هذه الازدواجية لا تتعلق بالرقابة الرسمية أو الأمنية، بقدر ما تتعلق بمستوى الثقافة والتعليم والصحة النفسية للمواطنين، وهو موضوع يستحق مقالا آخر.
اقرأ ايضا
في البحث عن كيان لإنقاذ السينما والدراما: الرقابة على الإبداع.. أم صناعته؟!
تعليق واحد