أحمد أبوخنيجر في متاهة الذئب: الصحراء الشرقية ولغز الجنة الخفية
يشترك أحمد أبوخنيجر مع أبناء جيله في سمات فنية كثيرة، لكنه يتمتع بملامح خاصة، من أبرزها علاقته بالصحراء الجنوبية الشرقية، وهي علاقة قوية تدفعنا للقول بأنه يضع قدما في النيل وأخرى في أعماق الصحراء، ينحت لنفسه وجها من الطمي والصخر معا، فيه استقرار الفلاح وترحال الراعي، فيه وداعة الحمل وشراسة الذئب، فيه حلاوة التمْر ومرارة العشب الجبلي، فيه المريد التائه الحائر المتخبط وفيه الشيخ المطمئن العارف بالأحوال.
الاهتمام بالصحراء يظهر في كتابات عربية كثيرة، لكن الصحراء هنا مختلفة، صخرية وقاسية لكنها مربوطة في قدم النيل، ولهذا تبدو لينة وناعمة، ومهما ابتعدت عن النيل ترجع مرة أخرى.
في رحاب الصحراء
نظرة أحمد أبوخنيجر إلى الصحراء تعتمد على الخيال الجامح، لكنها تعتمد أيضا على الإصغاء إلى الواقع، ورصد خصوصية الصحراء الجنوبية في انفصالها واتصالها بالنيل، والتي تتجسد في السكان الذين ينتشرون في الصحراء لكنها يرتبطون بسكان الوادي من خلال صلة الدم، والعلاقات العرقية، كما هو الحال مع قبائل العبابدة والبشارية، تلك القبائل تربط الصحراء في قدم النيل من خلال تواصلهم واتصالهم الدائم مع أقربائهم.
ترتبط الصحراء الجنوبية بالنيل أيضا من خلال الرحلات المقدسة، فالصحراء هنا معبر ينتهي بالكعبة المشرفة، وقد صنع الحج تلك المراوحة الدائمة بين عالم الرمال وعالم الطمي، ورغم انتهاء طريق الحج القديم، إلا أن الجماعة الشعبية ما زالت تحافظ على تلك العلاقة من خلال حفاوتها بمقام أبي الحسن الشاذلي، وكأن الجماعة الشعبية تحافظ لا شعوريا على الصحراء بوصفها معبرا إلى المقدس.
لقد التقط أبوخنيجر هذا الخيط من الواقع، ثم راح يستوضحه جيدا قبل أن يعيد طرحه فنيا بشكل لا يتوقف فيه عند حدود الواقع، وخير دليل على ذلك كتابه “في رحاب الصحراء، مدد يا شاذلي”- رحلة في المكان و الطقوس- الصادر سنة 2012م، والذي يعتبر محاولة جادة للإصغاء إلى الواقع ورصد تجلياته.
متاهة الذئب
متاهة الذئب واحدة من آخر إبداعات كاتبنا، وتظهر فيها تلك الصلات العميقة والخفية التي تجمع بين النيل وعالم الصحراء، وتنعكس فنيا بشكل مثير.
تدور القصة حول رجل يرحل من قريته على ضفة النيل، وبعد أيام من السفر في الصحراء والتعرض لمحنة العطش، يعثر على تل مرتفع، ويشاهد في الأسفل “جنة خفية”، عبارة عن بركة ماء ونباتات، فينزل معتمدا على الصخور ليشرب ويلقي جسده في الماء، ينزل ولا يعرف كيف يصعد مرة أخرى، وأثناء ذلك يشاهد نعجة وذئبا صغيرا يعيشان معا، يندهش عندما يشاهد الذئب وهو يرضع من النعجة، وسرعان ما يرضع هو من النعجة أيضا ليصبح أخا للذئب في الرضاعة، ويستمر الأمر على هذا الحال حتى يلاحظ اختفاء الذئب عندما ينام، الأمر الذي جعله يفتل حبلا ويضعه في عنق الذئب، ويربط طرفه الآخر في يده، حتى إذا تحرك الذئب، جره الحبل من يده، وهكذا، قاده تتبع الحبل إلى متاهة تنتهي بشق في صخرة عالية، وأخيرا وجد نفسه واقفا على فوهة المدخل. عاد وأحضر مخلاته، ودفع النعجة أمامه، وانطلقت مسرعة نحو الواحة، لكنه وجد نفسه أمام قطيع من الذئاب يحيط به في نصف دائرة، ووجد الذئب الصغير يقف بين قدميه مزمجرا ومكشرا عن أنيابه اللبنية الصغيرة في وجه أمه والقطيع الذي معها، وظل الذئب الصغير مدافعا عن شقيقه في الرضاعة، حتى طأطأت الذئبة الأم رأسها واستدارت وتبعها باقي القطيع.
لا توجد شخصيات أخرى في الحكاية باستثناء شخصية الشيخ الذي يظهر ويختفي على نحو أسطوري، ليحاصر البطل بالألغاز، ورغم قلة الشخصيات والأحداث، إلا أن القصة طويلة لأن الكاتب يهتم بالوصف والتفاصيل الموحية التي تقوم بوظيفة الكلام أحيانا، خاصة وهو يعيش مع ذئب ونعجة، ويتحدث إلى نفسه داخليا ويعبر كثيرا عن مشاعره الجوانية، الأمر الذي تتوقف معه حركة الزمن، وتتحول الشخصيات والأحداث القليلة إلى رموز قابلة للاتساع كلما قمنا بتأملها.
تجاور حميم
يمكننا النظر إلى القصة باعتبارها طقسا من طقوس العبور، فحتى يرتقي البطل روحيا عليه أن يعبر متاهة الذئب، وأن يتعرض لخطر الموت في أكثر من موقف، حتى يخرج في النهاية رجلا ناضجا على المستوى الروحي.
تكشف تفاصيل القصة عن الكثير من مظاهر المراوحة التي تصنع التماثل بين عالم الصحراء وعالم الوادي رغم التباين الشديد بينهما، مثل المراوحة بين صعود النخلة والنزول من التل المرتفع إلى البركة، والمراوحة بين الجنة الصحراوية الخفية والمحمية بالصخور العالية والجنة المنبسطة التي يصنعها النيل.
يتباين عالم الصحراء عن عالم النيل، لكنهما يتناغما بشكل خفي، هما توأمان أو شقيقان في الرضاعة وبينهما قرابة قوية، هنا في الصحراء الجنوبية تتعانق المتناقضات، ويظهر التجاور الحميم بين الساطع والمبهم، بين الوحشي والإنساني، بين العادي والقدسي، وهذا التجاور الحميم ينعكس على تجربة أحمد أبوخنيجر ويساهم في صنع خصوصيتها.
اقرأ أيضا
القمص صرابامون الشايب: الشهيد ومحبة الحياة
تعليق واحد