شيخ الحفارين وحيد البلقاسي: بيوت الثقافة في الأقاليم خرابات
من الموروثات الشعبية والحياة في قريته، يستمد الفنان وحيد البلقاسي، لوحاته الفنية، التي تتفرد باللونين الأبيض والأسود فقط وهو ما يعتبره سر جمالها الحقيقي.«شيخ الحفارين» هكذا يُطلق عليه الفنانين والنقاد، شارك في ما يزيد عن 150 معرضا دوليا ومحليا، كما حصد المئات من شهادات التكريم والجوائز والميداليات والدروع خلال رحلته الفنية التي بدأت من الطفولة حتى الآن.. «باب مصر» يلتقي الفنان لاكتشاف رحلته.
ماذا عن بداياتك الفنية؟ وهل لاقت موهبتك الدعم والتنمية؟
منذ الطفولة اكتشفت حبي للرسم، وفي المرحلتين الابتدائية والإعدادية كنت ألقب بفنان المدرسة، فقد كان للمدرسة وحصة الرسم أهمية كبيرة في تشكيل موهبتي، إضافة للدعم الذي قدمه لي أخي الأكبر الذي شجعني كثيرًا للمضي في طريق هوايتي، فقد كان يشتري لي الكتب والمجلات التي كانت تحتوي على الرسومات والقصص الجميلة بشكل رائع واحتفظ ببعض الأعداد من تلك المجلات إلى الآن، واستمر حبي للفن حتى قررت وعلى دون رغبة من والدي أن التحق بكلية الفنون الجميلة وتخرجت فيها عام 1986.
ماذا أضافت لك الدراسة بكلية الفنون الجميلة؟
كليات الفنون الجميلة أو الكليات الفنية لا تخرج فنان، فهي موجه فقط ناحية الفن وأصوله بشكل أكاديمي، والأستاذ ما هو إلا مرشد، لكن يجب أن يتوفر لدي الطالب في الأساس الموهبة وأن يعمل على تثقيف نفسه بالقراءة والإطلاع ودراسة مختلف الأعمال الفنية والقراءة في تاريخ الفن، فضلاً عن ضرورة أن يكون مستوعبًا للموروث الثقافي بشكل عام كي يحدد أسلوبه الخاص والمستقل في المستقبل.
ولماذا اخترت قسم الجرافيك؟ وتخصصت فيما بعد في الحفر على الخشب؟
الجرافيك عالم مختلف جذبني إليه بكل تفاصيله حتى عشقته، فهو فن مميز ويحتاج إلى رؤية بصرية مختلفة عن الرسم عكس اللوحات العادية، فيجب أن تصور اللوحة التي تنفذها بالحفر على الخشب بطريقة معكوسة حتى يتم طباعاتها بطريقة صحيحة فيما بعد، وهي عملية معقدة تحتاج إلى فنان مختلف ومتمكن، وخبرة طويلة.
أما الحفر على الخشب وغيره من خامات كالزنك والنحاس فقد كانت ضمن قسم الجرافيك، وقد فضلت الحفر على الخشب، لأن الحفر على الخشب لا يحتاج إلى مكبس مثل الزنك وغيره من خامات ويتم استخدام اليد فقط، ولأني أعشق اللونين الأبيض والأسود، فجميع أعمالي منذ الثمانينات وحتى الآن بالأبيض والأسود، كونهما في حاجة إلى إعادة رؤية لأكثر من مرة يقوم بها المتلقي، كما أني أقوم بحفر رسوماتي بشكل مباشر على اللوحة الخشبية، وبعد ذلك أقوم بطباعتها.
ماذا عن جماعة بصمات الفنانين التشكيليين العرب؟
في عام 2007، قررت التوقف عن تنظيم معارض فنية خاصة بي وتأسيس جماعة أطلقت عليها اسم “جماعة بصمات الفنانين التشكيليين العرب”، وبدأ نشاطها الفعلي في عام 2010، ومن خلالها جمعت ما يقرب من ستة آلاف فنان عربي من شتى الدول، وقمت على مدار السنوات التالية بتنظيم 20 ملتقى فني شارك معي فيه العديد من الفنانين من دول مختلفة، في العديد من القاعات والمعارض بمصر، وعلى هامش تلك الملتقيات تم تكريم بعض الشخصيات من رموز الفن والثقافة في مصر.
ومن خلال الجماعة نفذت موسوعة فنية تعرض أعمال الفنانين التشكيليين من كافة الدول العربية وأطلقت علي تلك الموسوعة اسم “معرض في كتاب”، خصص فيه لكل فنان صفحة تضم سيرته الذاتية وبعض من إنتاجه الفني، وأقوم بكتابة رؤيتي الفنية بجانب عمل كل فنان، وقد كان الإصدار الأول في عام 2014، والثاني في عام 2018.
لماذا لا يوجد فنانين في مجال الحفر على الخشب ولماذا لقبت بـ”شيخ الحفارين”؟
لقب شيخ الحفارين لقب أعتز به كثيرًا، وأطلقه علي النقاد والزملاء من الفنانين التشكيليين، وما أقوم بتنفيذه من لوحات ذات مساحات كبيرة تصل إلى المترين في بعض الأحيان، لا ينفذها أحد من الحفارين في مصر أو العالم العربي، حيث يهرب العديد من الفنانين في مصر من الحفر على الخشب، والآن لا يوجد الكثير من الحفارين لأن جميعهم اتجه إلى اللوحات الزيتية أو التصوير الزيتي، وأرى أن عزوف الفنانين عن مهنة الحفر يعود لسببين، أولهما، أن الفنان يحتاج بشكل أساسي إلى تمكن وخبرة كبيرة في امتلاك أدوات اللوحة من خطوط والتعبير عن شخصيته التي يجب أن تميزه بين الحفارين ويحتاج أيضًا لقوة عضلية وبدنية عالية، كما أن تخوف الفنانين من نظرة المتلقي إلى اللوحة على أنها نسخة وليست لوحة حقيقية وغير أصلية.
ولماذا اتجهت للنقد الفني؟
سافرت في التسعينات للعمل في المملكة العربية السعودية، وعملت في مجال الصحافة وتصميم الإعلانات الصحفية، واستهواني وقتها الكتابة عن المعارض الفنية وتغطيتها، حيث كانت الحركة الفنية التشكيلية قد بدأت لتوها في السعودية، وفي أول معرض كتبت وجهة نظري بشكل فني في المعرض، وقد أعجب رئيس التحرير بما كتبت، ووجهني إلى الكتابة في مجال النقد الفني وهو ما كان حتى الآن.
ترى ما السبب وراء مزج لوحاتك الفنية بين الموروث الشعبي والتراث الفرعوني والإفريقي في بعض الأحيان؟
هذا حقيقي، فأنا من مواليد قرية بيلا بمحافظة كفر الشيخ وأعيش فيها إلى الآن، وما المدينة إلا قرية كبيرة، تترابط مع التراث الفرعوني والإفريقي في بعض المظاهر والدلالات الرمزية، فقد شدتني الكتابة الفرعونية كثيرًا ومنها تعلمت كيفية التراص الأفقي للأشكال والعناصر المختلفة، وهي بالطبع تتناسب كثيرا مع عمل الحفار الفني، التي تحكمه خامة السطح الخشبي الصلب مثل الأحجار والجدران الفرعونية، وعن مزج التراث الإفريقي فهو محاولة للخروج عن المدارس الفنية النمطية، وخلق صورة بصرية تشكيلية خاصة وبصمة متفردة، وأنا أتبع أسلوب الحكي واختصار التفاصيل، والاعتماد على الخط الخارجي بتنوعاته، هبوطا وصعودا وليونة وسمك وتكسير حسب ما يتم رسمه، وذلك عكس الفن التشكيلي الذي يعتمد على الإضاءة والظل وهكذا.
لماذ لا يجد هذا الفن قبولًا لدى المتلقي؟
لا يتذوق الكثيرين هذا النوع من الفن، وجميع أعمالي توجد بالمتاحف فقط، لأنه فن شديد الخصوصية، ولا يتذوقه سوى من يفهمه جيدا وهذا نادر، ولا يشتري تلك الأعمال المتلقي العادي الذي يفضل شراء اللوحة الزيتية أو البورتريه والمنظر الطبيعي.
وللأسف الشديد نحن كفناني حفر أغلب جمهور معارضنا من الفنانين الأصدقاء، ولا يقبل عليها الجمهور العادي، وهو ما يدعو إلى رفع وعي الناس بالفن، وأطالب بعودة حصة الرسم وحجرة الرسم التي اختفت، وأن يأخذ الفنان التشكيلي حقه.
عملت مديرا لقصر ثقافة بيلا.. ماذا عن دور الثقافة في دعم الفنانين؟
الآن أنا على درجة مدير عام بالثقافة الجماهيرية، وكبير أخصائي فنون تشكيلية، لكن لم أرغب في ترأس أي منصب، فقد كانت تجربتي كمدير لقصر الثقافة ببيلا، سببًا في عدم الاستمرار في تقلد أي منصب، وذلك لكثرة المشاكل كما أن حال قصور وبيوت الثقافة غير مرضي، ونحن لدينا في مصر 600 قصر وبيت ثقافة تتوزع على كافة المحافظات، وتكمن أهم مشاكلهم في أسلوب الإدارة المركزية الذي يقيد المدير، فقد كنت لا أستطيع أن أصرف عشرة جنيهات دون موافقة الوزارة ورئيس الهيئة، لذلك أغلب بيوت الثقافة عبارة عن خرابات لا تتلقى الدعم الكافي لتنفيذ أنشطتها، كما أن هناك العديد من الموظفين دون عمل.
في رسالة أخيرة كيف يرى شيخ الحفارين الفنان؟
أرى أن الفنان أختزن بداخله كافة عناصر الكون، ومع اللمسة الأخيرة لأي عمل فني يظن الفنان أنه أخرج الشحنة التي بداخله، لكن طالما الورق الأبيض والمساحات الفارغة موجودة، فهناك بدايات أخرى لا نهاية لها.