ستات البلد| هند رستم.. تأثير ما بعد الرحيل
إذا كان الموت يعني الغياب والكف عن التأثير، فهذا لا ينطبق أبدًا على الفنانة هند رستم، التي توفي جسدها قبل 8 سنوات تقريبًا، واعتزلت العمل الفني قبل وفاتها بأكثر من أربعين عامًا، ومع ذلك بقي تأثيرها مستمرًا، ولا نعني بذلك فقط تأثير أفلامها العظيمة التى وصلت إلى 125 فيلمًا، ولكن أيضًا مساحة تأثير أكبر في الحياة والفن والجمال كأيقونة مصرية، دون ابتذال أو فجاجة.
لا تزال هند رستم حاضرة وبقوة، حتى أن العام الماضي وضعت شركة جوجل صورتها على صدر صفحة بحثها الشهيرة، وفي شهر المرأة تأتي هند ضمن أبرز السيدات المصريات التي تحتفي بهن سلسلة “ستات البلد” بالتعاون مع مؤسسة المرأة والذاكرة.
ولدت هند حسين مراد رستم بالإسكندرية يوم 12 نوفمبر 1931، وهو نفس العام الذي شهد عرض أول فيلم مصري ناطق “أولاد الذوات”، نشأت الفتاة الصغيرة وسط عائلة والدها، شركسية الأصل، والتي اتسمت بالشدة والصرامة كحال الكثير من العائلات ذات الأصول التركية؛ وعلى الناحية الأخرى، كانت أسرة والدتها السيدة “نجية” تتمتع بقدر كبير من التسامح والطيبة.
هذا المحيط الأسري المتنوع، ساهم في تشكيل شخصيتها على النحو الذي عرفناها به، فنانة مرحة وجريئة، تحب الحياة والسفر، ولكنها أيضًا إنسانة مثقفة وصاحبة مواقف وطنية كبيرة، وبالإضافة لذلك كانت سيدة منزل راقية قررت أن تتفرغ لمنزلها، لتبقى شخصيتها كما هي، رقيقة لكنها لا تقبل الهزل في موضع الجد، وهذا بسبب تربيتها الأولى، تحكي عن هذه المرحلة من حياتها، في مقابلة مع مؤسسة المرأة والذاكرة، أجراها د. وليد الحمامصي، في أوائل الألفية فتقول:
“كله كله نظام…. والدتي عودتني على إن أنا أبوس إيد ستي، أبوس إيد خالتي، أبوس إيد خالي. الكبير سناً لازم ـ يعني العيلة احتراما أبوس إيدهم، وما أقدرش أقعد طبعاً لازم أقعد رجليا ملمومة، ما أقعدش مركونة على الكرسي كده، لا أقعد على الحرف، طول ما في حد كبير في الصالون، صوتي مش عالي. كل الحاجات بتاعت زمان الحلوة الجميلة، اللي أنا طبقتها على بنتي، طبقتها على ابن بنتي إلى حد ما.”
تنقل وتنوع وشخصية
ونظرًا لظروف عمل والدها ضابط الشرطة الذي كان يتنقل من محافظة لأخرى بصورة دائمة، التحقت الفنانة هند رستم في صغرها بعدة مدارس، وهذا جعلها تنال قسطًا من التعليم في المدرسة الألمانية، ثم لاحقًا مدرسة الفرنسيسكان، وقامت ببعض الأدوار الفنية في مسرح المدرسة، وأفادها هذا كثيرًا في انفتاح شخصيتها على الآخرين؛ ولكنها للأسف لم تكمل تعليمها، لأنها قررت في سن الخامسة عشر أن تسير بحياتها في اتجاه آخر لتحترف التمثيل.
كما كان متوقع، قوبلت هذه الرغبة برفض كبير من الأهل، في وقت كانت مهنة التمثيل تندرج تحت بند: مهن سيئة السمعة، وكان يطلق على من يعمل بها “المشخصاتية”، وهذا وفقًا للعرف السائد وقتها، لا يليق بأبناء وبنات العائلات الكبيرة والمحافظة؛ فهل استسلمت الفتاة الصغيرة ورضخت؟ كلنا ربما يعرف الإجابة، ولكن تفسير ذلك، ربما تحمله عبارة شهيرة للمخرج الكبير حسن الإمام عندما قال عنها لاحقًا:
“دي مش هند رستم، دي عِند رستم”.
وهكذا كان إصرارها على احتراف الفن أكبر من أي اعتبارات أخرى؛ فكانت العزيمة أشد من كل الصعوبات التي واجهتها بمفردها في بداية حياة الفن التي اختارتها، فرحلت لكي تحقق حلمها، فما كان من أهلها إلا أن قاطعوها، تعبيرًا عن رفضهم لاختيارها.
وهكذا فرق الحلم بين الفتاة الصغيرة هند وعائلتها، تقول عن هذه الفترة
“بسبب السينما افترقنا خالص، يعني بقى أهلي مايعرفونيش تقريباً، حتى لو شافوني في السكة يدوروا وشهم الناحية التانية”.
استمرت هذه القطيعة لفترة طويلة حتى تزوجت الدكتور محمد فياض، الذي كان وقتها واحد من أنجح وأشهر الأطباء في مصر.
كيف وقعت هند رستم في حب الفن؟
تحكي هند رستم عن هذه المرحلة أثناء المقابلة مع مؤسسة “المرأة والذاكرة” بمنزلها بحي الزمالك؛ في يوم عادي ذهبت هند لسينما كوزوموس لمشاهدة أحد أفلام ليلى مراد، وكان البهو المؤدي لشباك التذاكر مزدحم عن آخره، ولم يبقى إلا تذكرة واحدة في “بنوار” لفردين (هو مكان يعلو الصالة مباشرة، ومقسم لعدد من الوحدات)، هنا تقدمت سيدة منها، وعرضت أن تتشاركا ثمن البنوار، وقد كان، وخلال الفيلم توطدت العلاقة بينهما.
في الطريق لباب الخروج من السينما سألت هند الفتاة عن وجهتها التالية، فأخبرتها أنها ذاهبة لمكتب سينما “شركة الأفلام المتحدة”، فطلبت منها أن تصحبها معها لكي تشاهد الفنانين فوافقت دون تردد، تقول: “طبعا فرحت جدا بقى أنا فاهمة إن أنا حاخش المكتب ألاقي الممثلين قاعدين في المكتب”، بعد الوصول لوجهتم القريبة من سينما كوزوموس، عرفت أنه يتم عمل مقابلات للوجوه الجديدة لبعض الأدوار الثانوية، وكانوا في هذا الوقت يبحثون عن وجوه جديدة للاشتراك في فيلمهم القادم.
وشاءت الصدف أن يتواجد في المكتب وقتها، حسب ما تروي هند رستم، محمد عبد الجواد المخرج، وكان عز الدين ذو الفقار المساعد الخاص به وقتها متواجد أيضًا، ومعهم المنتج الأستاذ حسين حلمي المهندس، الذي عمل لاحقًا في الإخراج والتأليف وذاع صيته بصورة كبيرة.
في البداية اعتقد عز الدين ذو الفقار أنها فتاة أجنبية، فسألها إذا كانت تتحدث اللغة العربية، فقالت له هند رستم: “أنا مصرية”، لم يخفي سعادته، وطلب عنوانها، ولاحقًا عرض عليها دور صغير في فيلم “أزهار وأشواك“، الذي عرض في السينمات المصرية في عام 1947، وكان بطولة كوكبة من الفنانين الكبار مديحة يسري، يحيى شاهين، وعماد حمدي، حسن فايق، وحسن كامل، وقامت فيه شادية بالغناء، وكان أيضًا ظهورها الأول على شاشات السينما.
وكانت البداية
بدأت الرحلة رويدًا رويدًا في أدوار لبضعة دقائق، مثل دورها في فيلم “غزل البنات“، و”بابا أمين“، “الملاك الظالم“، ووصل الظهور البسيط لعشرة أفلام تقريبًا، كل هذا وهي تصبر وتعافر وتجتهد، حتى دارت العجلة، وانخرطت هند رستم في مجال السينما بكل قوتها، وعندما حصلت على الفرصة المناسبة تألقت، بل لمعت واستطاعت في فترة وجيزة أن تخلق لنفسها مكان ومكانة فريدة، لم ينازعها فيها أحد وقتها، وحتى الآن، وقامت بأدوار عظيمة مع مخرجين كبار، مثل المخرج الكبير حسن الأمام، ومثلت هذه الأعمال علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية، مثل: (بنات الليل – الجسد – الحب العظيم – اعترافات زوجة).
واشتركت في الكثير من الأعمال الأخرى مثل (لا أنام – رد قلبي – باب الحديد – أنت حبيبي – ابن حميدو- شفيقة القبطية – الراهبة – الخروج من الجنة – الوديعة – عجايب يا زمن –الخروج من الجنة- الجبان والحب – الزوج العازب – صراع في النيل – دماء على النيل – امرأة على الهامش – إشاعة حب – نساء في حياتي – نساء وذئاب – بين السما والأرض – أنا وبنتي والحب).
وعملت الفنانة الكبيرة هند رستم، التي يحمل كارنيه عضويتها لنقابة المهن التمثيلية الرقم (77)، مع العديد من المخرجين الكبار مثل يوسف شاهين، وفطين عبدالوهاب، وحسام الدين مصطفى، وزهير بكير، وصلاح أبوسيف، وعلي بدرخان، وحازت على جائزة أفضل ممثلة عن فيلم “الخروج من الجنة“، وعشرات من الجوائز الأخرى والتكريم المصري والعربي.
وحسب كتاب “هند رستم.. ذكرياتي“، للكاتب أيمن الحكيم، حظيت مسيرتها الفنية بإشادة محلية ودولية، من خلال الأفلام الخاصة بها والتي كانت تعرض في مهرجانات عالمية، ووصف تقرير لمجلة “هوليود ريبوتر” الشهيرة دورها في فيلم باب الحديد بقوله
“كان آدئها مميزًا دون عناء أو تكلف، ويعد واحدًا من أهم الأدوار التي تؤديها ممثلة عالية قديرة”
:وقالت المجلة التي تأسست 1930 عنها
“ممثلة واثقة من قدراتها، وموهوبة بلا حدود”.
وقال عنها الممثل الإيطالي مارتشيلو ماستروياني:
“ثلاث نساء فقط في السينما يمكن أن يكن ممتلئات بالدراما والطزاجة، منهم هند رستم”،
والشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي وصفها بأنها:
“الصورة التي لا تبارح القلب”،
ووصفتها الكثير من الصحف المصرية والعربية بـ”ريتا هيوارث مصر“، ولقبها البعض “مارلين مونرو الشرق، ولكن هند نفسها كانت تفضل الوصف الأول، لأن وجودها كان أسبق من وجود مارلين مونور، بالإضافة الي أن أدوارها كانت أكثر تنوعًا.
نظام عمل دقيق
وعن حياتها الخاصة في هذا الوقت من مسيرتها الفنية، تقول:
“كانت حياتي الخاصة في شغلي، ماكانش عندي الوقت، يعني إن أنا مثلا أعرف بني آدم في حياتي مش ممكن حاعرفه إمتى ده؟ مافيش في حياتي ده، أنا كل همي بروفاتي فساتيني لبسي، أنا كنت أحب قوي السفر بره، مع الأسف الشديد ماكانش في وقت للسفر بره… يعني ما عشتش الحياة الحلوة في سن حلو كده، لأ ما عشتهاش.. عشتها في البلاتوه في الشغل”.
والسبب كما تذكره هند رستم:
ما أقدرش أقول لك عشت شبابي المظبوط، لأ ما عشتوش، عشته بعد ما بطلت سينما، بقيت على البيت بقى ملكة”
وتضيف:
“بتاكل أكل معين على القد، دايما ماكياج دايما “ماسك” على طول، عارف الواحد زهق من الحاجات دي، ما دي كلها مش حياة طبيعية يعني أنت ماشي على وزن معين”
ورغم عشق الفنانة الكبيرة هند رستم للشيكولاتة منذ طفولتها، لكنها وضعتها من الأمور الممنوعة، حتى عندما رزقت بطفلة لاحقًا، استمرت في هذه القواعد للحفاظ على صحتها وقوامها، تقول:
“ما أقدرش آكل لأن لازم وزن معين أنا ماشية عليه، فأنا أكيلة جاتوهات وشيكولاتات جدا جدا وعندي طفلة.. محرمات في البيت هي تاخدها في المدرسة تاكلها معلش، إنما عندي في البيت ممنوع الحاجات دي تخش”.
وعلى عكس المتعارف عليه عن أهل الفن وحبهم للسهر، كانت هند رستم على غير ذلك، كما ذكرت في المقابلة:
“طول عمري مش من هواة السهر قوي إلا إذا كان عندي شغل”.
فالانخراط في العمل الفني بالنسبة لها لم يكن أبدًا نزهة، بل كان عملًا جادًا ودقيقًا، وكل خطوة في يومها كانت بحساب، فالأكل بنظام، و”الميك آب” بنظام، ومراقبة الوزن عملية مستمرة.
وتقارن بين الوضع في مجال الفن في السابق، والوضع وقت إجراء حوار مؤسسة المرأة والذاكرة معها بداية الألفية، فتقول:
” وبعدين وقت مختلف عن دلوقتي، دلوقتي مسموح الممثلة تبقى سمينة وتشتغل وكده، لأ زمان لأ، فطبيعي كان شغلتنا متعبة جدا لعلمك، متعبة قوي قوي قوي”.
وتسرد كيف كانت الأمور صعبة، وتتطلب جهدًا كبيرًا في لعب الأدوار المختلفة، وتروي أنها مرضت أثناء تصوير فيلم “الراهبة” ووصلت درجة حرارتها إلى 40، ومع ذلك استمرت في العمل، فعلى حد قولها:
“لو رقدت يوم يكلف الشركة بلاوي”.
كانت اسم هند اسما مهما بين فنانات جيلها، ومثلت مصر في مهرجانات فنية كثيرة في بلجراد وبراغ وامستردام، وفي نهاية الستينيات عرض عليها القيام بدور “مريم المجدلية” في فيلم عالمي إنتاج مشترك بين بين فرنسا وإيطاليا، ولكن تم منعها من السفر من قبل جهات غير معلومة، حسب ما ذكرته، وربما يعود ذلك للظروف السياسية التي كانت تمر بها مصر بعد نكسة 1967.
ومع انشغالها بأعمالها الفنية الكثيرة، لكن هذا لم يمنعها أن تقوم من وقت لآخر بأنشطة خيرية، منها القيام بجمع تبرعات وملابس خلال فترات الحروب التي مرت بها مصر في الستينيات، وشاركتها الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا في هذه الأنشطة، كما شاركت في تقديم العديد من الحفلات مع فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، من أجل جمع تبرعات “للمجهود الحربي”.
ولم يعرف عن الفنانة هند رستم الانشغال بالسياسة أو الانتماء لأي حزب، وإن كان والدها وفدي قديم ومعجبًا بشدة بالنحاس باشا، حسب ما أخبرت الكاتب أحمد المسلماني، ضمن لقاء معها، نشر ضمن مطبوعات مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ولكن كان يبدو عليها الاهتمام بالشأن العام، وفي السابق كانت تحب جلسات الأستاذ عباس العقاد، وظلت صديقة لأسرة الأديب الكبير إحسان عبد القدوس.
التفرغ للأسرة
احتل التمثيل ثلاثين عامًا من حياة الفنانة هند رستم، وفضلت بعده الاعتزال لما رأته من تغيير في المناخ السينمائي، ولرغبتها في تأسيس حياة أسرية هادئة تتفرغ فيها لعائلتها، وخاصةً ابنتها بسنت التي غيرت عالمها كليةً، كما تصف. ورغم أن قرار البعد عن العمل الفني ليس سهلًا، لكنها كما كانت جادة في أعمالها الفنية، كانت أيضًا جادة في قرار التفرغ لأسرتها.
وكان فيلم “حياتي عذاب” عام 1979 آخِر أفلامها، واستطاعت بعده أن تحجب حياتها الشخصية عن أعين الناس بصورة كبيرة، واعتزلت في نهاية المطاف مهنتها كممثلة مشهورة، حيث رأت أن التغيير الذي طرأ على الوسط السينمائي لا يناسب التزامها وانضباطها الذي اعتادت عليه، لتقوم بدور الزوجة والأم الذي طالما حلمت به، ولكن في الواقع وبدوام كامل. وبعد ذلك، استمتعت كثيرًا بأن تكون جدة لابن ابنتها بسنت، والذي اعتبرته صديق أكثر من كونه حفيد.