عرض كتاب| «الرمز والأسطورة في مصر القديمة».. الديانة المصرية وعلاقتها بالفكر الصوفي
رندل كلارك، أحد الكتاب الكلاسيكيين، الذين اغرموا بدراسة الديانة المصرية القديمة، محاولا فك طلاسم رموزها من خلال ترجمة ودراسة النصوص الأصلية للأساطير المصرية القديمة، ويعد كتاب الرمز والأسطورة من أهم مؤلفات كلارك، صدر لأول مرة عام 1959، وترجمه أحمد صليحة في السبعينيات وطبع لصالح الهيئة العامة للكتاب.
يقع الكتاب في ثمانية فصول، حاول خلالها الكاتب تقديم ترجمة موضوعية لنصوص الأساطير وربطها بالطقوس الدينية التي مارسها المصري القديم، غير متقيد بحرفية النص بل مبحرا في بحار رمزية النص؛ لذلك فهو يشير صراحة في مقدمة الكتاب إلى ذلك معللا بقوله: “إن أحد أهم ما يميز الديانة المصرية القديمة اعتمادها وبشكل أساسي على الرمزية، والتي سيطرت على جميع طقوس وشعائر الديانة المصرية القديمة.
التوحيد
يطرح كلارك في كتابه سؤالا لماذا أغرقت الديانة المصرية القديمة في الرمزية؛ بالرغم من أنها لا تزيد عن كونها مجرد ديانة وثنية لا تحتاج إلى ذلك القدر من الغموض؟
ويصدمنا كلارك بالإجابة، حين يؤكد أن الديانة المصرية القديمة، لم تكن ديانة وثنية بالمعنى الدارج للكلمة، ويقرر أن الديانة القديمة كانت ديانة توحيد.
ويلمح كلارك إلى أن الأسطورة المصرية القديمة لم تكن حكاية خرافية، بل هي نسق فكري، حاول القدماء من خلاله تفسير وفك شفرة الكون، من خلال طرح نظرياتهم في الخلق والنشوء، والحياة بعد الموت، فيعبر من خلال الأسطورة عن التناقضات التي يراها.
الصور الإلهية
يلفت كلارك إلى أن تعدد الصور الإلهية في مصر القديمة لم يكن إلا محاولة للوصول إلى أنه الإله الأوحد الخالق العظيم المتفرد في كل شيء ومعطي كل شيء سبب وجوده، حاول المصري القديم أن يجسد الإله في صور اعتقد أنها تمثله وأنه هو أي الإله الأوحد ليس له شبيه، فدائما ما كانت هناك إشارات منذ بزوغ الفجر الأول للحضارة على ضفاف نهر النيل إلى الإله الواحد الأوحد، وتعددت المحاولات في الرمز إليه في صور متعددة كان أولها الشكل الهرمي، والذي ساد استخدامه في عصر الدولة القديمة، والذي هو في الحقيقة وإذا ما فلسفتنا الشكل الهرمي لوجدناه عبارة عن أربعة مثلثات يلتقون في نقطة واحدة في زاوية حادة، يشيرون جميعهم إلى السماء في إشارة إلى الخالق أو الموجد الواحد، ولكنه خفي وغير معروف الكنه، إنه المختفي أو الخفي كما عرف في العصور اللاحقة باسم آمون؛ أي المخفي أو المختفي، ثم تحول الاسم إلى آمون رع أي رع المختفي.
وتطور الشكل الهرمي في عصر الدولة الحديثة لتظهر المسلات، التي أصبحت أكثر بساطة في الرمز، فهي عمود منتصب مقمم بهريّم صغير يرمز مرة أخرى إلى رع أو آمون- رع.
دين ودنيا
وبحسب نظرية كلارك، مزج المصري القديم بين الدين والدنيا، إذ أنه كان يمارس الاثنين معا وفي نفس الوقت، فالمعابد المصرية المنتشرة على طول امتداد النيل لم تكن إلا أماكن يمارس فيها طقوس حياتية ذات معزي ديني، وأحيانا أخرى كانت تمارس طقوس دينية ذات مدلول حياتي، ومن هنا يأتي المزج بين الدين والدنيا والذي أدى إلى استخدام الرمزية العميقة للإشارة إلى ذلك المزيج المتناقض المتسق.
وفي نظرة سريعة إلى المعابد المصرية القديمة نجد أن العناصر المعمارية بها ما هي إلا رموز دينية وضعت في شكل هندسي فني؛ فمثلا نجد أن معظم الأعمدة تتخذ شكل نبات اللوتس المفتوح والمغلق، وأحيانا في شكل باقة اللوتس، وأحيانا شكل نبات البردي، في إشارة إلى أهمية اللوتس والبردي في الأسطورة المصرية القديمة، التي تتحدث عن بدء الخلق، والتي تعتبر أن الحياة انبثقت من زهرة اللوتس العملاقة، أما نبات البردي فهو من حيث الشكل يمثل الشمس الشارقة، والساق تشبه الشكل الهرمي في إشارة إلى رع إله الشمس، فهنا نجد أن المعبد أصبح يرمز إلى هذا الكون بنباته وسماءه وأيضا ماءه المتمثل في البحيرة المقدسة في المعبد.
نلاحظ كذلك أن المهندس أحيانا يستخدم الطراز المغلق والمفتوح من الأعمدة في مكان واحد؛ ليرمز إلى الشروق والغروب، وفكرة الشروق والغروب هي مصدر اعتقاد القدماء في الحياة بعد الموت، المرتبطة بديانة الشمس، فحسب الأسطورة يقوم الإله رع كل ليلة بعد الغروب في الإبحار في النهر العظيم مسافرا عبر العالم الآخر، محاولا الشروق من جديد على مدينة الأحياء، بعد هزيمة الثعبان العظيم الشرير أبوفيس، الذي يحاول كل صباح ابتلاع قرص الشمس لتسود قوى الظلام والشر هذا العالم.
الفكرة
يعتقد كلارك أن الآلهة المصرية كانت عبارة عن أنماط فكرية أخلاقية؛ عبر عنها من خلال تجسيدها في أشكال إلهية، مثل فكرة الحق والعدل، أكبر دليل على ذلك قصة الصراع بين الخير والشر، التي دارت بين أوزوريس وست، فأوزوريس كان يمثل فكرة النماء والخضرة والخصب، بينما عومل ست على ممثلا لفكرة الشر، وبالتالي اعتبر المصري القديم أن ذلك التناقض هو ما يخلق التوازن بين قوى الطبيعة، وأن الصراع بينهما حتمي لاستمرار حركة الكون.
التقوى الفردية
يفرق كلارك بين الديانة المصرية القديمة والعبادات الجماعية، مشيرا إلى أن المصري القديم حاول أن يمارس طقوس دينه بشكل فردي له خصوصيته، بعبارة أخرى، يلمح كلارك إلى طابع صوفي في التدين المصري القديم، حاول فيه المصري القديم أن يتوحد مع الإله، وظهر ذلك بشكل واضح من خلال نظرية الملكية المقدسة، التي اعتقد فيها المصري القديم أن الملك هو الأكثر قربا من الإله وأن له قدسية خاصة تؤهله لأن يصبح ظل الله على الأرض، كما اعتقد أن المتوفي بعد موته يمر ببعض التحولات لتتوحد روحه وتفنى في ذات الإله.
دراما
من المدهش أن نلاحظ أن الطقوس التي كانت ترمز إلى تلك المعاني والفلسفات، لم تكن كتلك التي نشاهدها في المساجد والكنائس في مجموعة من الأدعية والقراءات، بل كانت أشبه بالدراما الإنسانية، فهي تستخدم الحالة الإنسانية في التعبير عن الدين، ومثال ذلك ما كان يحدث في احتفال الاوبت سوت أو عيد الزواج المقدس بين آمون رع وزوجته الإله موت، لم تكن الطقوس إلا عرسا فنرى موكب الإله يتحرك من معبده في الكرنك في اتجاه معبد زوجته معبد الأقصر مصحوبا بالإعلام والموسيقى واللاعبين والحراس وهدايا العرس، ويكون تمثال الإله في أبهى ما يكون، وقد ألبس ثيابا فاخرة وحلي بالذهب والمجوهرات، وكذلك الآلهة والتي تكون في انتظاره عند مدخل معبد الأقصر، وبعدها يتم تقريب التمثالين من بعضهما البعض في إشارة إلي إتمام الزواج المقدس، الذي كان يتم الاحتفال به في بداية موسم الفيضان كنوع من الصلاة التي تجلب الخصب والنماء.
لغة دينية
في خاتمة بحثه يشير كلارك إلى أنه من الضروري عند دراسة الديانة المصرية القديمة، التعامل مع نصوص الأساطير على أنها لغة دينية خاصة، لا مجرد حكاية أو قصة، لافتا إلى أنه من خلال دراسته لنصوص الأساطير المصرية القديمة، لاحظ أن المصري القديم حاول الفكاك من قيود اللاهوت، مستخدما لغته “الرمزية” الخاصة في التعبير عن فهمه لطبيعة الإله وطبيعة الفرد وتصوير العلاقة بينهما، في ملمح يشبه إلى حد كبير الفكر الصوفي، الذي يتميز بالكثير من الغموض والرمزية.