"متحف الحضارة" يعرض تطور الثقافة المصرية من عصر الفراعنة حتى الآن
مشهد الفلاحة المصرية البسيطة المتجهة إلى السوق، وهي تحمل فوق رأسها صينية ممتلئة بالمنتجات المعروضة للبيع، بينما تحاول الحفاظ على توازنها، وتمسك باليد الأخرى أطفالها السائرون في صف واحد، هذا المشهد قد يبدو عاديًا، لكن حينما ترى تماثيل تاريخية قديمة تعود لما قبل التاريخ تجسد نفس المشهد بجميع تفاصيله يتلون المشهد بالعراقة والحضارة.
عن طريق عرض تماثيل، ومجسمات وأفلام، تظهر تطور الحضارة المصرية على مر العصور، وصولا إلى الوقت الحاضر والربط بين مراحل التطور الحضاري والواقع الحالي، يأتي المتحف القومي للحضارة المصرية حاملًا خيوط الحرف المصرية، لينسج لوحة تجسد تاريخها منذ عه ما قبل التاريخ حتى الآن.
منذ منتصف شهر فبراير المنصرم، في منطقة الفسطاط بمصر القديمة، افتتح متحف الحضارة على مساحة 33 فدانا ليستوعب 50 ألف قطعة أثرية، تعبر جميعها عن الحضارة المصرية على مر العصور، كما يضم سينما 3D، ومخازن لحفظ الآثار بتقنية عالية توازي المتاحف العالمية.
المتحف طرحت فكرته في الأساس من منظمة اليونيسيف عام 1982 كجزء من برنامجها لحماية وحفاظ التراث الثقافي في مصر، الذي بدأ منذ عام 1960، ثم طرحت فكرة إنشائه بالتوازي مع إنشاء متحف النوبة في أسوان.
على مر 15 عاما، كان العمل على افتتاح المتحف مستمر، فبعد وضع حجر الأساس عام 2002، افتتحت أولى أقسام المتحف أبوابها للزوار فالعام الحالي لافتة انظارهم على الحرف المصرية على مر العصور ابتداء من ما قبل التاريخ، مرورا بالعصر الفرعوني، واليوناني الروماني ومن ثم القبطي والإسلامي وصولا إلى العصر الحديث.
ركز القسم الأول على الأربع حرف الأساسية، التي استمرت في مصر باختلاف العهود، وهي الخزف والنسيج وصناعة الخشب والمجوهرات، وهي الحرف الأساسية التي كان لها دور مهم وبارز على مر عصور الحضارة المصرية، على عكس مثيلاتها التي انحصر دورها في عهد معين وأصبحت حاليا تراثا قديما.
المتحف عرض 420 قطعة أثريه مجمعة من المتحف المصري ومتحف النسيج ومتحف الفن الإسلامي والمتحف القبطي، بالإضافة الى “ماكيتات” أنشئت خصيصا من أجل العرض المتحفي، توضح تطور كل حرفة من الأربعة على مر العصور، إلى جانب عدة فيديوهات وأفلام وثائقية تصور الحرف الأربعة وطريقة عملها حاليا.
بالإضافة الى الحرف، كانت المرأة بمختلف مواقعها في مصر محل تسليط الضوء، فيما يتعلق بملبسها وزيها التراثي، ومصاغها وتقاليد زواجها في أقطار الجمهورية، من سينا الى سيوة مرورًا بالنوبة والمرأة الفلاحة.
يعد كل قسم من الحرف الأربع، بوابة تاريخ مصممة بحرفية لنقل الزوار إلى عالم لا يروا فيه الا عظمة وإبداع المصريين في ابتكار أدوات للتعايش مع مجتمعهم، وكيف وثقوا تفاصيل حياتهم في أبسط أشكال الفن المتعلق بالحرف اليدوية.
لم يضم قسم الخزف عرض المصنوعات الخزفية باختلافها على مر العصور فقط، بل تميز بوجود شرح مفصل ومبسط عن عملية تصنيعه منذ العهد الفرعوني، إلى جانب شرح لأهم الصفات التي جاء بها كل عهد ولم تكن موجودة في العصر الذي سبقه.
ومن خلال الأدوات المنزلية المستخدمة في عصر نقادة- لعصر الفرعوني الأول والثاني- يرى الزوار كيف اكتشف المصري القديم الزخارف الملونة واستخدموها للتعبير عن رحلاتهم الدينية والتجارية، التي حملت رموز الأقاليم والأرباب، أما عن الأواني الفخارية في ذلك العهد، فقد كان المصريون القدماء يؤمنون بوجوب وضع نماذج لهم في المقابر، إيمانا منهم بأنها تخدم المتوفي في العالم الآخر.
وبسلاسة انتقال الفراشات عبر الزهور، ينتقل المعرض بالزائرين إلى العهود المتتالية، ذاكرا أهم صفات كل عهد ومجسدا الشرح بالمجسمات في تلك الفخريات المُبهجة باللون الفيروزي، والتي تميَز صنعها في عهد الأسرة الثامنة عشر بحسب المعرض، وكان أول استخدام له في ذلك العهد وسبب انتشاره يعود إلى تميزه وعدم وجوده في الطبيعة المصرية بكثرة.
أهم المنقوشات المميزة للأدوات المنزلية الخزفية في العهود المتتالية كانت الخطوط المقطعة، لأنها تعبير عن المياه وهي أهم عنصر في الطبيعة المحيطة بالأفراد في ذلك الوقت.
ينتقل المتحف بعد ذلك بالأفراد إلى قسم النسيج، عارضًا المنسوجات اليدوية المستخدمة في الثقافة المصرية، بدءًا من الكتان الأبيض خلال العهد الفرعوني، وصولًا إلى ملابس المرأة السيوية والسينية والنوبية حاليا، والتي تتميز بالزخرفات والألوان المضيئة المتداخلة، ملقيا الضوء عن كل الألوان المميزة لكل عهد والتي تشابهت الى حد ما بسبب ثبات مصادر استخراجها منها وهي البيئة المحيطة، لذا كانت أغلبها الأزرق بألوانه الآتي من النيل، والأخضر من الأشجار والنخيل.
عن طريق “ماكيت” معروض اكتشف في أحد المقابر الفرعونية، يشاهد الزائرون طرق تشبه عملية صناعة الأقمشة في العهود المصرية القديمة في الوقت الحالي، وهو ما يؤكد على تأصل الحضارة وتشابهها رغم اختلاف الأزمنة.
في كل المعروضات المصورة للنسيج في مختلف العصور، يرى الأفراد أن صناعتها اقتصرت على السيدات داخل منازلهن فقط وأن كل أشكال التطريزات بالألوان المستخدمة وجدت طريقها إلى فساتين السيدات باستخدام النول، وتلك الثقافة السائدة حتى الآن.
أما عن التماثيل المعروضة في قسم النسيج، فقد كانت أكبر ما يدلل على سير الحضارة المصرية على نهج واحد، فالمرأة الفلاحة المجسدة في تماثيل العصر الفرعوني والعهود اللاحقة، ماهي إلا نسخة مشابهة إن لم تكن مطابقة للمرأة الريفية البسيطة حاليا بزيها المتمثل في “الجلابية” الفضفاضة، التي تبدأ في وسعها من فوق الصدر، وغطاء الرأس الأسود المربوط من فوق الأذن إلى الوراء و”الأزنة” المحمولة فوق رأسها الممتلئة باحتياجاتها.
أما عن صيحة الفاشون فلم تُترك خارج سياق النسيج، وعن طريق معروضات لبعض فساتين الملكة نفرتاري، التي تستخدم بعضها كموضة عالمية حتى الآن.
في قسم المنتجات الخشبية، تتبلور فن وابتكار الحضارة المصرية، فعلى الرغم من صعوبة أخشاب الأشجار المصرية في صناعة المنتجات، إلا أن المصري القديم توصل قبل آلاف السنين إلى آلية عمل باب الخشب المبني من عشرات الوحدات الخشبية، المأخوذة من أشجار الرمان دون أي “تعشيقات” أو”مسامير”، كما هو البديل الحالي، فالباب المعروض يعرض قدرات الحضارة على تطويع المعطيات المحيطة بالأفراد لإنتاج الاحتياجات.
من العهد الفرعوني، اشتمل المتحف على كرسي للملكة حتب حرس والدة الملك خوفو، والذى يعد أول كرسي ملكي في التاريخ وهو مصنع من الخشب المطلي بالذهب، كذلك عرض الأبواب الفرعونية التي كانت توضع في المقابر برسوماتها المشتملة على عائلة المتوفي وأحبائه، إيمانا بأن الأبواب ستساعده على العبور إلى العالم الآخر وستذكره بأحبائه من العالم الأول.
ولم يستثنِ المتحف عراقة وروعة “الأرابيسك”، الذي اشتهر وتبلور في العصور الإسلامية في مصر، فعرض المتحف أشكالًا وتصميمات الأرابيسك التي ترجع إلىى العهود الإسلامية القديمة باختلاف منتجاتها من شبابيك، وأبواب وأسقف و”مشرعيَات”، كذلك صوَر النجار المصري أثناء عملية تصنيعه للمنتجات الخشبية.
أما عن قسم المصاغ، فكان عالم من الألوان الذهبية الممزوجة بالأحجار الكريمة المٌلونة، وما هو إلا صورة معبرة عن مدى أناقة ورقي المصري ودقة وحرفية الصنع والحفر.
كما عرض المتحف عدة أشكال لحلي من عدة عصور مصنعة بأحجار رخيصة، لكنها مُصنعة بحرفية وجودة عالية، مُعبرة عن مدى أهمية ارتداء الحلي حتى لمن لم تكن من أصحاب الدخول المرتفعة في تلك العصور.
في العهد الفرعوني، كانت الحلي تأخذ طابع الأحجبة الحامية من الأرواح الشريرة أكثر منها منتجات للزينة، وأكد على ذلك عرض الحلقان والسلاسل المُصنعة ومحفور عليها رموز هيروغليفية متشابكة.
وكذلك اشتهرت الأصداف، التي توحي ببدء الحياة بعد الموت، كما تحمي الصدفة حياة الؤلؤة الثمينة، التي لا تظهر إلا بخروج الصدفة من الماء والمقصود بها الحياة، كما يؤمنون، لذلك عرض المتحف مجموعة من الحلي المُصنعة من أصداف حقيقية وحلي ذهبية محفورة على هيئة صدفات للطبقات الأغنى.
أما في العهود التالية، أظهر المتحف أهم التصاميم المميزة لكل عهد والتي ارتدتها النساء للزينة، وربطها بتلك التي ما تزال السيدات في سيناء وسيوة والنوبة والريف يرتدينها في المناسبات، ما يؤكد على مدى استمرارية الحضارة والثقافة بصورة متشابهة ومتصلة منذ العهد الفرعوني حتى الآن.