عم قرني.. صانع المناخل في زمن الـ”استانلس ستيل”
ببشرة سمراء، وجبهة عريضة، تظهر عروقها النافرة، ورأس يكسوها الشعر الأبيض، وجسد ممتلئ قليلا، يجلس عم قرني الرجل الستيني، في سوق الثلاثاء، منذ سنوات.
يفترش عم قرني الأرض وحوله بضاعته من المناخل والغرابيل، وخلفه ابنه يساعده، فى مهنة قل الطلب عليها رغم أن العديد من الأسر في الريف لا تزال تعتمد عليه في تأمين خبزها، ورغم أنها مهنة تراثية قديمة إلا أنها مازالت موجودة، فالمنخل والغربال لا غنى عنهما في الريف الذى تنتج حقوله حبوب القمح والفول والأرز.
ولد عم قرني عبد المقصود، بقرية تلات إحدى قرى مركز الفيوم، تعلم المهنة وورثها عن والده وهو في الثامنة من عمره، فقد كان يخرج معه إلى الأسواق، و”يلف” شوارع القرى فوق عربته “الكارو”، وينادي بصوته الحاد “مناخل للبيع”، “اللي عايزة تصلح منخل”.
يجلس عم قرني ويدير بيديه إطارًا دائريًا من الخشب، يشد عليه قطعة دائرية من السلك ذي الفتحات التي تكون إما واسعة أو ضيقة، وأحيانا أخرى من الحرير، ليصنع منها المنخل السلك والمنخل الحرير “السنان”، الذي تستخدمه المرأة الريفية في نخل الدقيق والردة لإعداد الخبز البلدي.
يقول عم قرني المنخل الحرير يصنع من قماشة الحرير حتى ينزل منه الدقيق الناعم جدا، وتبقى فيه النخالة مهما صغرت، أما المنخل السلك تكون فتحاته أكبر من الحرير ويستخدم لنخل الحبوب، إذ تنزل الأتربة وينفصل عنها الحصي والقش.
بينما الغربال فمنه ذو الفتحات الضيقة لغربلة حبوب القمح والأرز وغيرهما، أو ذو الفتحات الواسعة، الذي يستخدم لغربلة حبوب الفول والفاصولياء وغيرهما.
وعن خطوات عمل المنخل يقول عم قرنى، أحضر الإطار الخشبي الخارجي حسب المقاس المطلوب، الذي أعده في ماكينة ببيتى، ثم أقوم بثبيت السلك أو الحرير على الإطار، وبعدها أقص الزيادات التي تزيد عن حدود الإطار.
ثم ثبت إطار رفيع حول أطراف السلك أو القماش كى يثبتها، زمان كان الإطار يصنع من جلد الأبقار أو الأغنام، والشبك يصنع من خيوط القطن القوية.
أتقن عم قرني المهنة، ومات والده يوم زفافه وترك له ورشة لتصنيع المناخيل، وأصر على إحياء واستمرارمهنة والده، “كنت أرى والدي لسة عايش طول ما المهنة موجودة” مرت سنوات وما زال عم قرني، يصنع المناخل، وفي الصباح يذهب إلى الأسواق لبيعها وإصلاح التالف منها، وعصرًا يجوب شوارع القرى، حاملا على ظهره جوالا به بضعة أمتار من السلك وبضعة أمتار أخرى من قماش حريري، وعدد من الإطارات الخشبية ومطرقة وعلبة بها مجموعة من مسامير الدق.
يقول عم قرني “تعبت وكبرت وصحتي خلاص بقت على قد حالي، ومش قادر ألف في الشوارع زي زمان، ولا في حد بقى يخبز العيش البلدي، بعد ما ظهرت المخابز المدعومة، الناس تستسهل وتشتري العيش جاهز يحتاجوا المنخل في أيه؟”
تقطع حديثه امرأة طويلة منتقبة وفي يديها منخلين أحدهما نزع منه السلك، والأخر كان إطاره الخشبي مكسور، قالت له المرأة “والنبي يا عم قرني الله يبارك لك ركب لي سلك للمنخل، والتاني الخشب بتاعه اتكسر شوفه ينفع يتصلح كده” ويرد عم قرنى “حاضر من عنيا سيبيهم، وهاتي طلباتك من السوق وأنتي راجعه خدي الاثنين متصلحين بإذن الله”.
ويعاود حديثه عن مهنة المناخل والغرابيل قائلا: المهنة أصبحت مهددة بالانقراض، بعدما انتشرت المصفاة والمناخل الحديثة المصنعة من “الاستنلس استيل”، والتي تفضل كثير من السيدات شراءها بدلا من المناخل الخشبية.
يتابع عم قرني لدي ابنين علمتهما المهنة، أحدهم في الفرقة الرابعة بكلية التربية، والآخر في المرحلة الثانوية الزراعية، وهو الذي فضل أن يكون وريث مهنتي وورشتي، التي تركها لي والدي قبل وفاته، رغم أني حاولت منعه من تعلم هذه المهنة والبحث عن مهنة أخرى لأن “خلاص المهنة مبقتش تجيب همها.
حاول أن يقاوم دمعة فرت من عينيه، وسقطت على المطرقة التي يصلح بها المناخل، عندما سمع بزيادة ثمن “الأرضية” في السوق التي وصلت إلى 20 جنيهًا قائلا “عملت كام 20 جنيه بقي علشان ادفعها”.
تعليق واحد