«26 يناير 1952»: القاهرة تحترق.. من أحرقها؟
حكاية الحريق في السردية الشعبية
«الاعتراف يُحرّر، والسلطة تكمّمُ. فالحقيقةُ لا تنتمي إلى نسق السلطة لكنّها ذات قرابة أصلية مع الحرّية، تلك هي بعض الموضوعات التقليديّةِ في الفلسفة، التي ينبغي على “تاريخ سياسي للحقيقة” أن يقلبها ليبين بأن الحقيقة ليست حرّة بالطبيعة، ولا الخطأ مقيّد. ولكنّ إنتاجها تخترقه كله روابط السلطة، ولعل في الاعتراف خير دليل على ذلك».
ميشيل فوكو
عندما بدأتُ البحث في خلفيات حريق القاهرة، حرصت على الوصول إلى أي من الفاعلين الحقيقيين. وظننت أن مهمّتي لن تكون عسيرة، استنادا على أن المصادر التاريخية تُجمع على أن أعداد المشاركين كانت تتجاوز عشرات – وربما مئات – الآلاف. ولكن بعد قراءة مكثفة لكتب المؤرّخين وللروايات التي تناولت الحدث، وللسياق السياسي الذي أحاط بالحادثة وما قبلها وما بعدها، فهمت السبب الذي جعل العثور على أولئك شديدة الصعوبة. فمن ذا الذي يرغب في أن يضع نفسه قيد المحاكمة الجنائية، أو المحاكمة التاريخية، لينصب نفسه متهما أمام الجميع بتدبير مثل تلك الكارثة.
وكما يطرح ميشيل فوكو في النص الذي اقتبسته في مفتتح هذا النص، فإن الوصول إلى الحقيقة أمر يستلزم حدوث تغييرات في تراتبية القوى. فالسلطة تسيطر على السرد. وتعمم الرواية الرسميّة ولا تسمح لغيرها من الروايات بمناطحتها. وخروج السرديّة المهمّة/المقموعة وشيوعها يرتبط ارتباطا وثيقا بقدرتها على التحرر من قيود السلطة. ولذلك فإن مرور أكثر من سبعين عاما على حادثة حريق القاهرة، وتغير المعادلة السياسية في مصر برحيل الوفد والملكية ونظام عبدالناصر، ومرور عقود على كل هذا، كان من شأنه أن يساهم في خروج سردية المهمّشين إلى السطح، بعد أن زال الكثير من أسباب تكميم هذه السرديّة.
***
أي أن ما أطرحه هنا، هو إمكانية إعادة الاعتبار لذلك الصوت المهمّش والمقموع من خلال استنطاق الذاكرات الصامت أصحابها. بحيث نحصل على القطعة المفقودة من الصورة التي ظلت مرسومة على مدار عقود. والتي أزعم أنها – أي القطعة المفقودة – ستجيب على السؤال المتكرر الشهير حول الفاعل في حريق القاهرة، وحول دوافعه. والأهم من ذلك، أنها ستقدم صورة مغايرة عن الاحتمالات الأخرى للتاريخ المصري الحديث قبيل سيطرة الضبّاط الأحرار على الحكم. وستظهر كيف أن المسار التي سارت فيه البلاد لم يكن مسارا حتميا ناتجا عن اتجاه حتمي للتاريخ في ذلك الوقت وإنما تعلق الأمر بتراتبية معينة للقوى في لحظة بذاتها، جعلت سلاح الجيش أسرع في السيطرة على الحكم، من تشكيل حركة سياسية معارضة بديلة عن الأحزاب التي كانت موجودة.
لكن مرور كل تلك الفترة على الحادثة كان له جانبا سلبيا كذلك، فقيامي ببحثي في فترة زمنية لاحقة للحريق بأكثر من سبعين عاما، يعني أن أغلب المشاركين في الحدث، قد رحلوا بالفعل عن هذا العالم. ولم يتبقّ منهم إلا المعمّرون الذين قد تزيد أعمارهم عن الثمانين عاما. ومن بين هؤلاء، سيكون من الصعب أن أجد من تسعفه ذاكرته لسرد الحدث، هذا بافتراض أنني عثرت على بعضهم أو على أحدهم من الأساس.
لكن حرصي على العثور عليهم كان يتعلّق أساسا برغبتي في الاطّلاع على السرديّة الشعبية. والتي قد تحمل ما افترضته في بداية بحثي من أن تكون مغايرة – وربّما مناقضة – للتاريخ الرسمي المروي عن الحريق. وقد يكون من المفيد القول بأن ذلك الافتراض تشكّل لدي نتيجة مروري بتجربة جمعيّة شبيهة لما حدث لسرديّة حريق القاهرة. وأعني بذلك، شهادتي على أحداث الثورة المصرية عام 2011، قبل أن تنكسر سرديّتها ويتم إعادة سردها من جانب أجهزة السلطة ومؤرّخيها على أنها كانت مؤامرة غربيّة أو شرقية أو غير ذلك.
***
ولأن الثورة المصريّة حققت بعض النجاحات في بدايتها، مكّنتها من أن تفرض سرديّتها الخاصة لفترة امتدت لعامين على الأقل، إلّا أن هزيمتها السياسية لاحقا جعلت من مهمّة السلطة لإعادة سردها بشكل مناقض أكثر سهولة. برغم أن شهود هذه الانتفاضة أحياء ويافعون ويسجّلون شهاداتهم باستمرار كتابة وصوتا. ولذلك، افترضت أن المتظاهرين الذين خرجوا غضبا على الاحتلال البريطاني يوم السادس والعشرين من يناير عام 1952، قد تعرّضوا لهزيمة كبيرة في تقديم سرديّتهم بأنفسهم نظرا لأنهم غضبتهم قد وأدت خلال أقل من يوم واحد نظرا لما آلت إليه المظاهرات من إحراق للعاصمة وفرض للأحكام العسكرية وتقويض للحراك الوطني.
فضلا عن غياب منصات النشر المتاح للجميع على الإنترنت في ذلك الوقت. ولا أزعم أن ذلك الافتراض كان واضحا تماما في ذهني قبل قيامي بهذا البحث. لكنني أستطيع القول إن قراءتي لرواية رضوى عاشور، قطعة من أوروبا، هي التي ولّدت في خاطري تلك الإمكانية، نتيجة لما تحويه من صوت للسرديّة الغائبة. ومن هنا بدأت البحث في ذاكرات الباقين.
وأذكر أنني ظللت لفترة أحاول العثور على مشاركين في الحدث، وليس شهودا عليه فحسب. ولم يفض بحثي إلى شيء لشهور. حتى أخبرتني أحد الزميلات أن جدّها كان من المشاركين في الحدث. وعندما التقيت الرجل، محمد مسلّم رمضان، وجدت حالته الصحية شديدة التدهور. إذ كان مقعدا على كرسيّ لا يستطيع الحركة، وبالكاد يستطيع الحديث. وعندما حاولت أن أستنطق ذاكرته لم أخرج بغير القليل. ولكن ذلك القليل كان شديد الأهمّية في حثي على متابعة البحث. إذ أخبرني الرجل أنه كان يسكن في أنحاء القاهرة عندما سمع بأن هناك حشود ضخمة تطوف الشوارع غضبا على الإنجليز. فسارع الرجل بالانضمام للحشود لما كان يعتمل في نفسه من غضب ضد الإنجليز.
***
ومع الوقت، وجد أن الغضب ينقلب إلى استهداف للمنشآت البريطانية، وأن الحماسة دفعته وآخرين للهجوم على أحد المحال البريطانية والقيام بإلقاء الأثاث من النوافذ قبل أن يشعلوا المحل بالكامل. وعلى تكرار الأمر في مقهى جروبّي الشهير كذلك. لم يكن الرجل يذكر المزيد ولم يبدُ ملمّا بالسياق السياسي للبلاد حينئذ بشكل جيد. إذ أنه كان من بسطاء الناس الذين لم يكن لديهم اهتماما كبيرا بصراعات السلطة وتشكيلاتها في ذلك الوقت. ولكنني بعد لقائه اندفعت بحثا عن المزيد من الشهادات. إلا أن من التقيتهم جميعا كانوا من الشهود الذين رأوا الحريق ورأوا الحشود ولم يشاركوا فيها بأنفسهم. تماما كشخصيّات روايات يوسف السباعي ونجيب محفوظ ولطيفة الزيّات.
بعد فترة وجدت على الإنترنت شهادة كان صاحبها قد كتبها بمناسبة مرور 50 عاما على الحريق. يسرد صاحب الشهادة، عصام الطاهر، تفاصيل الحدث من زاويته هو. إذ أنه كان أحد طلاب جامعة القاهرة الذين انضموا إلى التظاهرات في ذلك الصباح، قبل أن تتحول الغضبة إلى استهداف لمنشآت الأجانب. وأعتبر أن شهادته تقدّم سرديّة مناقضة تماما لما قدمه أغلب المؤرّخين منذ الخمسينات وحتى اليوم. إذ أجملت ما حدث بكونه هبّة شعبيّة غاضبة، وبكون الإحراق لم يتم إلا بيد ذات الحشود الغاضبة التي خرجت منذ الصباح. وأنه لم تكن ثمّة مؤامرة بأي شكل من الأشكال.
وأورد بعض أجزاء الشهادة هنا: “انتقلت من هناك عبر شوارع وسط المدينة إلى ميدان الإسماعيلية، وكانت هناك طلائع مظاهرة كبرى قادمة من الجامعة عبر كوبري قصر النيل ومتجهة إلى مجلس الوزراء حتى تلتقي هناك مع مظاهرة أخرى قادمة من كلية طب القصر العيني.. تركت المظاهرة دون أن أتابعها، وعدت في اتجاه ميدان إبراهيم باشا وكانت الساعة حوالي 12.30 ظهراً، فوجدت بضع عشرات من الشباب تهاجم كازينو بديعة وتلقي بزجاجات الخمر إلى الشارع وتحطم واجهات المحل، ثم لم تلبث أن أضرمت فيه النار”.
***
ويبدو أن ما أقدم عليه هؤلاء الشباب لم يكن مرفوضا ولا مستهجنا وسط بقيّة المتظاهرين الغاضبين. وينعكس ذلك في جزء ما يورده الطاهر في متابعته لشهادته: “كان يقف حول المكان إلى جوار تمثال إبراهيم باشا، مئات من الناس المتفرجين والمتحمسين والمشجعين، والذين يرون في ما يفعله الشباب عملاً حسناً. ولم يتقدم أحد للاعتراض عليه أو منعه، بل زاد الموقف حماساً أن بضع عشرات من رجال البوليس ومعهم رجال الإطفاء وصلوا إلى مكان الحادث الذي لا يبعد عن مركز بوليس العتبة الخضراء وعن مركز الإطفاء الرئيسي سوى مائتي متر، أقول حضر هؤلاء الرجال، وإذا بهم يشاركون المتفرجين فرجتهم”.
كانت أحداث النهب المصاحبة للحريق، من أبرز الظواهر التي حصرت أحداث ذلك اليوم بالكامل في ركن الاتهام. فمن بين التفسيرات التي حاولت التدليل بهذه الأحداث على أن المشاركين لم يكونوا من أصحاب الروح الوطنية وأنهم كانوا مجموعة من اللصوص أو الغوغاء، كما أورد عبدالرحمن الرافعي ويوسف السباعي مثلا. أو التفسيرات التي ادّعت أن ذلك دليل آخر على أن الأمر كان مدبّرا، وأن تلك العناصر المدسوسة لم تهدف إلا إلى تشويه الحركة الوطنية وضربها من خلال إجبار السلطة على فرض الأحكام العرفية ونزول الجيش وفرض حظر التجوال. لكن الصورة التي تقدمها لنا شهادة عصام الطاهر تبدو مغايرة للسائد. إذ ذكر جانبا من الجدل الذي دار بين المشاركين بخصوص نهب تلك المتاجر المحترقة. وأورد من شهادته ما يلي:
“كان الغروب قد بدأ، وفي ظل هبوط الظلام انتقل موقف بعض المشاركين والمشاهدين إلي مد الأيدي إلي بضائع المحلات التي وجد كل منهم أن من (حقه) أخذ ما تصل إليه يديه، وكأنه يقول بدلاً من أن تحترق أنا أولي بها. وكان اختيار الأشياء يتوقف على نوعية الشخص ونوع البضاعة المتاحة أمامه.. فقد رأيت شبانا صغاراً لا يأخذون إلا الملابس والأدوات الرياضية، وآخرين تعمدوا أخذ بنادق الصيد والمسدسات من أحد المحلات المرخصة لبيعها، وبعض الحفاة أخذوا الأحذية وهكذا”.
***
تمتد شهادة عصام الطاهر في ألفي كلمة تقريبا يفصّل فيهما المزيد من المشاهدات الشخصية ومن السرد المتعلق بالسياق السياسي والاجتماعي في ذلك الفترة. ويخلص بنتيجة مفادها أن ما وقع في ذلك اليوم ليس عصيّا على الفهم، ولا يحتاج لكل ذلك القدر من التأويلات والنظريات. وأن الحديث عن أيّة مواد نادرة تم استخدامها في الحرق هو من قبيل الخيال.
“وأنا شخصيا من الذي رأيته أثناء حرق محل شيكوريل ومحل شملا فإن الأولاد والشبان الذين قاموا بحرقهما لم يستعملوا أدوات غير طبيعية بل كانت من صميم التصرف الطبيعي والتي لم تزد عن الإمساك بأية خرقة وصب بعض الكاز عليها وهي مادة متوفرة لدي كل بواب عمارة في تلك المنطقة ولا تحتاج إلى ذكاء وإتقان، ومؤامرات!”.
حاولت لاحقا الوصول لصاحب الشهادة. إلى أن علمت أنه مقيّم في عمّان منذ سنوات. وللأسف، كان في حالة مرضيّة متأخّرة منعته من تذكّر أي شيء عما وقع في ذلك اليوم. ولم تمض أيام حتى اتصلت بي ابنته لتخبرني بأن والدها قد توفي بعد صراعه مع المرض.
***
شهادة أخرى عثّرت عليها مجهّلة على صفحات الإنترنت، باسم مستعار، إشينان. وقد جاءت تلك الشهادة ردا على سؤال طرحه زائر مصريّ لأحد المدونات الإلكترونية المتخصصة في الذاكرة الجمعية المصرية وتجميع الشهادات الحية. كتب السائل الموقّع باسم البارودي أن أباه قد حكى له عن حريق القاهرة عندما كان طفلا. وأنه لا يذكر الكثير من التفاصيل التي حكاها له أبوه. جاء الرد مفصّلا على الموقع نفسه متمثلا في شهادة شخصية كُتبت في صفحات ست حافلة بالمشاهدات الشخصية لصاحبها.
وعلى الرغم من حداثة سن صاحب الشهادة وقتئذ، إلا أن ذاكرته الحاضرة ساعدته على إيراد الكثير من التفاصيل الجيدة لمشاهدته في ذلك اليوم. وتقدّم هذه الشهادة صورة أخرى للسرديّة المضادة للتاريخ السائد. وأقتبس منها أيضا ما يلي:
“في حوالي الساعة الثانية ظهرا، سمعت ولولة نساء قادمة من الميدان. نظرت إلى أسفل البيت. فرأيت بضع نساء يرتدين ملايات لفّ. ثمّ رأيت سيارة سيتروين محملة بركاب تدخل الميدان، بينما خرج أحدهم بجسده خارج نافذة السيارة ملوحا بالعلم المصريّ الأخضر القديم. وفجأة، وكأنما ظهروا من العدم، رأيت مجموعة من المحتجين الغاضبين يدخلون الميدان.. وقامت تلك المجموعة بإشعال النار في بعض المنشآت البريطانية والنوادي والمحال التجارية وغيرها من المنشآت التابعة للأجانب. سمعت أولا صوت تهشيم نوافذ مقهى جروبي. ثم رأيت مجموعة من المحتجين يدخلون ليصطحبوا العاملين بالمقهى إلى الخارج. البعض الآخر تسلق ليهشم اللوحة الأمامية للمقهى. ثم أخذوا في تحطيم كل شيء داخل المقهى تباعا”.
***
وقد ورد في شهادة الرجل ما يؤكّد من أن تلك الغضبة لم تكن غوغائية واعتباطية تهدف إلى إحراق المدينة بكاملها لفرض الأحكام العرفية مثلا، وإنما كانت ردّة فعل موجهة ضد مصالح الإنجليز والأجانب. وأقتبس من ذلك ما يلي أيضا:
“تحركت الحشود لتهاجم أي مبنى بدا أجنبيا. المصاب الأول كان مبنى الخطوط الجويّة الفرنسية، ثم أتبعه محل حلويات كريستال. وبجوار المبنى الخاص بنا في شارع الأنتيكخانة، قاموا بنهب ناد ليليّ مقام على السطح. بينما كنت أنا على سطح المبنى المقابل مذهولا مما أرى.. كانت الحشود المتزايدة تهتف في هياج هتافات معادية للبريطانيين، بينما تحرق المباني، وتنهب المتاجر، وتدمّر الممتلكات”.
لاحقا، استطعت الوصول إلى صاحب الشهادة هذه. ووجدت أنه أستاذ جامعي مصري اسمه باسم زكي، مقيم في شيكاغو بالولايات المتحدة منذ عقود. وقد كان يقطن في أحد العمارات الموجودة في ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا). وهو ما مكنه من أن يكون في قلب الحدث تماما. تواصلت مع الرجل لفترة، وعندما سألته عن احتمالية وجود مؤامرة تقف خلف الحريق، نفى نفيا قاطعا. وأكّد على أن سكّان المناطق القديمة من القاهرة والذي ينتمون لخلفيات اجتماعية أقل كانوا هم القوة الكبرى في ذلك اليوم وقد خرجوا بشكل عفويّ وسريع ثأرا وانتقاما للجنود المصريين المقتولين.
***
للأسف، لم يكن من السهل العثور على الكثير من الشهادات الشخصية لأشخاص كانوا في قلب الحدث أو من صنّاعه. ولولا حرص الرجلين، عصام الطّاهر وباسم زكيّ، على تسجيل شهادتهم مكتوبة وعلى نشرها على الإنترنت لم يكن من الممكن العثور على أيهما أبدا. وهذا يعني احتمالية وجود العشرات وربما المئات من الشهادات المحفوظة في ذاكرات الباقين إلا أنها لم تدوّن أو لم تنشر على صفحات الإنترنت. فإمكانية التدوين وحرية النشر على الإنترنت والتي صارت متاحة أمام الجميع، تسهم بشكل كبير في تقويض السرديّة المهيمنة. وتفتح الباب أمام احتمال آخر للوصول إلى ذاكرة جمعيّة حول الحدث. لكن ذلك يعتمد بالضرورة على جهد بحثي للوصول لأصحاب الشهادات المفترضين. ومعاونتهم على تدوين مشاهداتهم وذكرياتهم. وهذا النمط من الكتابة هو نمط تتزايد أهمّيته في الحقل الأكاديمي والأدبي مؤخرا، ويعرف بالكتابة الحياتية.
وبحسب مركز أوكسفورد للكتابة الحياتية، التابع لكلية وولفسون في جامعة أكسفورد، فإن “الكتابة الحياتية تشمل السيرة الذاتية والمذكرات والرسائل واليوميات والمجلات (المكتوبة أو المصورة) والبيانات الأنثروبولوجية والشهادات الشفوية وشهادات شهود العيان”. وهناك جهود كثيرة في مجال الكتابة الحياتية والتي تساهم في تقديم سرديّة تقوم على الذاكرة الجمعيّة. ومن تلك الجهود مثلا، العمل الأدبي التي فازت به سيفيتلانا أليكسيفيتش هو كتابة نثرية تستند إلى وقائع وأحداث حقيقية، وتستخدم تعدد أصوات الرواة لتبني ما يُسمى “الرواية الجماعية”.
***
في المقدّمة، تحكي أليكسيفيتش عن الجهد التي قامت به للكتابة عن الحدث “طويلا كتبت هذا الكتاب. عشرين عاما تقريبا. التقيت الموظفين السابقين في المحطّة وتحدثت إليهم. والتقيت العلماء والأطباء والجنود والنازحين والوافدين. التقيت كل من شكّل تشرنوبل بالنسبة له المحتوى الأساس لعالمه… تحدثوا جميعهم وبحثوا عن أجوبة. فكرنا جميعا. تعجلوا جميعهم مخافة أن يداهمهم الوقت. لم أكن أعرف أن ثمن شهاداتهم هي الحياة”.
لقد قدمت أليكسيفيتش نموذجا في روايتها/كتابها عما يمكن أن تقدّمه الكتابة الحياتية للتاريخ الإنساني من صور وأصوات لم تحوها صفحات المؤرخين أو بيانات الحكومة حول الضحايا. الضحايا في بيانات الصحف أرقاما يتم توظيفهم لخدمة الموقف الرسمي. بينما في الكتابة الحياتية فهم بشر أصحاب سرديّة تستحق أن تزاحم السرديّة الرسميّة وتغالبها.
لكن الكتابة الحياتية كنمط لتسجيل الذاكرة الجمعية لا تعني بالضرورة تحررها بالكامل من سلطة السرديّة المهيمنة. هناك مجموعة من الظروف التي ينبغي توافرها حتى يمكن أن نقول إن هذه الكتابة الحياتية قد تنتج سرديّة أقل خضوعا وتأثّرا بسلطة الرواية الرسمية. وفي حالة قيام كاتب باستنطاق ذاكرات آخرين وتسجيلها، فإنه ينبغي أن يكون ذلك الكاتب نفسه واعيا بإشكالية السلطة والسرد. لأن ذلك الكاتب قد يعيد إنتاج خطاب السلطة من جديد إذا لم يكن واعيا بالكيفية التي يمكن من خلالها القيام بذلك العمل.
***
وأضرب مثالا على ذلك بالكاتب الصحفيّ جمال الشرقاوي، صاحب أحد الكتب الهامة عن حريق القاهرة. يذكر الكاتب في مقدمة كتابه عن الجهد الذي قام به لجمع الشهادات من ذاكرات الباقين، أنه استمع لأكثر من خمسين شاهد على الحدث. وقال في ذلك “سجلت عددا كبيرا من هذه الشهادات بأصوات أصحابها. بينما قدم لي البعض شهادتهم مكتوبة. وكانت شهادات البعض الثالث محاضر للقاءات التي تمت بيني وبينهم”.
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي قام به الرجل في عملية بحثية وتحليلية استمرت لسنوات سبع، بحسب ما أورده هو، لكن ملاحظتي الأساسية على منهجه البحثي هو المنطلق الذي انطلق منه أولا لاختيار شهوده. وأوضح في القائمة التالية طبيعة أولئك الشهود.
- ثلاثة وزراء من حكومة الوفد.
- وكيل الديوان الملكي.
- القيادات الأمنية المسؤولة عن الأمن في العاصمة في يوم الحريق.
- ضابط الجيش الذي اشترك في المظاهرات والمتهم بإحراق كازينو أوبرا.
- ضابطين من قوات الشرطة التي تم حصارها في الإسماعيلية قبل الحريق بيوم واحد على يد البريطانيين.
- زعيم الحزب الاشتراكي واثنين من هيئة الدفاع عنه في قضيته.
- النائب العام ووكلاء النيابة الذين تولوا التحقيق المدني أو من تولوا التحقيق العسكري.
- رؤساء الصحف.
- ممثلو التيارات السياسية (الوفد – الإخوان – الشيوعيين – الاشتراكيين – الحزب الوطني – الحركة النقابية).
- عدد من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار.
***
يتضح من خلال صفات الشهود أنهم جميعا ينتمون إما إلى طبقة السلطة في العهد الملكي وما حولها من أحزاب، أو السلطة العسكرية التي أتت في يوليو. أو رؤساء الصحف الذين تتقاطع مصالحهم مباشرة مع السلطة من ناحية ومع طبقة والمثقفين من ناحية أخرى. وقد فصّلنا في الإشكاليات الطبقيّة المحيطة بذلك النمط من الشهود خلال الفصلين السابقين.
أما قائمة شهود الشرقاوي، فلم تضم أيّا من صنّاع الحدث أنفسهم. ولم ينزل إلى القاهرة وشوارعها ليبحث عمن تبقّى من الفاعلين. ولم أجد واحدا فقط من شهوده قال إنه قام بإشعال مبنى أو نهب متجرا أو حتى شارك في التظاهرات الغاضبة. جاءت الروايات المسجّلة كلها لتبني الفعل إلى المجهول أو تلقي الاتهام على الآخرين. ولا مفاجأة في النتيجة التي وصل إليها الكاتب في نهاية الأمر، طالما أنه من البداية قد وضع محدداته التي لن تقوده إلا إلى إعادة السردية التي قدّمها هؤلاء أنفسهم قبل عشرين عاما من قيام الشرقاوي ببحثه.
***
إجمالا أقول إنه لا يمكن الوصول إلّى سرديّة تاريخيّة بديلة أقل تحررا من قيود الرواية الرسميّة إلا من خلال استنطاق ذاكرات الطبقات المهمّشة، الذين كانوا هم القطاع الأوسع من المشاركين في أحداث حريق القاهرة. والذين لم يكن أمامهم من سبيل لتسجيل شهادتهم على الحدث. إضافة إلى غلبة السرديّة الرسميّة التي ألقت عليهم الاتهام الجنائي بتدمير المباني الجميلة للقاهرة الأوروبية، أو الاتهام التاريخي بوأد الحراك الوطني المناهض للإنجليز.
وأقول إن مرور أكثر من نصف قرن على الحدث يتيح المجال أمام سرديّة مغايرة تنبني على ذاكرات غير مهددة بتلك الاتهامات، وبالتالي أكثر حقيقية ومصداقية، على غرار الشهادات التي عثرت عليها وأوردت أجزاء منها في هذا الفصل. ويُفترض لمزيد من البحث أن ينتج لنا الكثير من الشهادات المتنوعة والتي قد تشكّل معا ذاكرة جمعيّة تواجه الخطاب الرسمي الذي خيّم على التاريخ المصري لأكثر من سبعين عاما حتى الآن. ويثبت أن الفاعل الأهم في حركة التاريخ لا يُشترط أن يكون من الشخصيات العظيمة أو قيادات الدولة أو أنظمة الحكم، وإنما قد يكون من قطاعات البسطاء وطبقات المهمّشين القادرين على إحداث تغييرات هامة على المستوى السياسي والاجتماعي، حتى وإن لم يمتلكوا القدرة النظامية على اتخاذ تلك التغييرات وسيلة لوجهة محددة يدفعون إليها حركة التاريخ.
اقرأ أيضا:
القاهرة.. مدينة صنعتها الأحلام