عروسة المولد من “سكر معقود” إلى “العباءة الخليجية”
جولة قصيرة في شوارع القاهرة، وسط أجواء الاحتفال بالمولد النبوي، كفيلة بأخذك إلى أزمان ذهبية لعروسة المولد على اختلاف أنواعها.
واحتفالات المولد النبوي بكل ما فيها من مُبهجات، لا تكتمل إلا بوجود العروسة، التي كانت الشيء الثابت الوحيد في احتفالات المولد، والتي تختص بها مصر دون غيرها.
ظلت فكرة العروسة ثابثة ومرتبطة بالمولد النبوي، بل أصبحت أيضًا واحدة من علامات بعض المولد الأخرى، مثل مولد السيدة.
وتختلفت الروايات في أصل ظهور العروسة وانتشارها في مصر، لكن أكثر الباحثين يرون أن عروسة المولد وجدت طريقها للتوثيق في الثقافة المصرية في العهد الفاطمي، والذي يمتد من عام 909 إلى عام 1171 ميلادي، وإن كان ثمة اختلاف فهو في أصلها.
أصل “عروسة المولد”
أكثر الروايات شهرة وتداولا كانت تلك التي يذكرها عدد من المؤرخين، أن الحاكم بأمر الله كان له زوجة يحبها، فطلب منها في إحدى احتفالات المولد النبوي الخروج معه وسط العامة، فخرجت وهي ترتدي فستان أبيض وتاج من الياسمين.
تضيف الرواية أن أحد صانعي الحلوى عندما رأى زوجة الحالكم، وثق الحدث على طريقته، صانعًا حلوى على شكل العروسة، ثم نحت الحاكم بأمر الله على هيئة فارس من الحلوى.
الرواية الأخرى تذكر أن الفاطميين كانوا يشجعون الشباب على الزواج والاحتفال في المولد النبوي، وبذلك كانت تمتئ الشوارع بالعرائس اللواتي يرتدين فساتين الزفاف والأفراح، وبذلك أصبح المولد النبوي مرتبط بالأعراس والأفراح، التي كانت توثق بالحلوى على أشكال العرائس.
هناك عدد من المؤرخين يذكرون أيضًا أنه في العهد الفاطمي كان الحكام ينتهزون المناسبات الدينية لاستمالة الناس، وكان ذلك عبر إعداد الولائم وإطعام الناس، وكان ذلك يتضمن توزيع حلوى على شكل عرائس.
وهناك رواية أخرى غير متداولة كثيرًا، يذكرها بعض الدارسين مثل أحمد خطاب، مدرس المعهد العالي للفنون الشعبية، المتخصص في العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية، في إحدى مقالاته، وهي أن الخليفة الفاطمي كان يحب تشجيع جنوده المنتصرين عن طريق تزويجهم عرائس جميلات للغاية.
وعادة التزويج تلك كانت تتم خلال الاحتفال بالمولد النبوي، إذ كان يُحتفل أيضًا بذكرى الانتصارات فيه، فصنعت عرائس جميلة من الحلوى، لتقديمها كهدايا إلى القادة المنتصرين وإلى عامة الشعب والأطفال.
أشكال “عروسة المولد”
لم تكن العروسة هي الشكل الوحيد من الحلوى الذي انتشر في العهد الفاطمي، فكان ديوان الحلوى يحتوي على أطنان من السكر التي تصنع بأشكال مختلفة.
وبحسب الدكتورة نهلة إمام، رئيس قسم العادات والمعتقدات الشعبية بالمعهد العالي للفنون، فقد صُنع في نفس العصر، شجرة كبيرة للغاية من السكر.
السكر المعقود
استمرت “العروسة” بعد ذلك، لكن أصبحت تُصنع من عسل النحل الممزوج بالدقيق، أو السكر المغلي الممزوج بالليمون والدقيق.
كان ذلك المزيج يسمى “السكر المعقود”، وكان السكر يوضع في قوالب خشبية تسمى “المسابك” حتى تجمد، وتزين في شكلها النهائي بأوراق مفضضة وذهبية وبعض الأقمشة الملونة المزركشة.
عرائس الفراعنة
على جانب آخر فإن العرائس لها تاريخ قديم وثري، فمنذ عهد الفراعنة، كان هناك العديد من العرائس منها عروسة النيل، وعروسة البحر، وعروسة الزار، وعروسة الحسد، والعروسة الخشب وعروس القمح.
ولم يكن انتشار العروسة في العصر الفاطمي يمنع من ارتباطها الوثيق بالتاريخ المصري الفرعوني، فحينما جسد صانع الحلوى العرائس، صورهما بنفس الصورة والجمال التي كانت عليه المرأة الفرعونية قديما، وبعد عدة قرون وجدت في مقابر الفراعنة عرائس تشبه “عروسة المولد”، لكن مصنعة من الخشب والعاج.
تذكر الدكتورة سمية حسن في كتابها العادات المصرية القديمة في العصر الإسلامي، أن المصريين كانوا يستخدمون الدمى كنوع من أنواع التوثيق الحضاري لحياتهم، رابطة بين تلك المصنوعة من الحلوى والدمى الحقيقة المصنوعة من الأحجار والصخور.
تدلل الدكتورة سمية بأحد التماثيل الموجودة في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، والذي يجسد سيدة ترتدي فستان وعلى رأسها غطاء، ينسدل تحت الشعر في خصلات، تشبه تلك الذي يزين عروس المولد.
أما عن فستان العروسة الذي يتميز بضيق الخصر واتساعه أسفل، مع أكمام ضيقة عند الاكتاف، تتسع عند الرسغين، فهو زي سيدات العصر المملوكي، وهذا ما أرخه أحمد عبدالرازق في كتابه “المرأة في مصر المملوكية”.
يذكر عبد الرازق في كتابه أن السيدات كن يربطن منطقة الخصر بـ”شريطة”، ويشددنه ليصبحن أكثر جمالًا.
بداية التغيير
يتشابه ما ذكره عبدالرازق بما يذكره المقريزي في أحد كتبه التي توثق عروس المولد قائلا “كانت العروسة تصنع من السكر على هيئة حلوى منفوخة، وتجمل بالأصباغ، ويداها توضعان في خصرها وتزين بالأوراق الملونة والمراوح الملتصقة بظهرها”.
في بداية ظهورها كان أهم ما يوجد في العروسة هو الفستان المزين، ولم يكن من الضروري أن تزين بفستان أبيض منفوش.
قبل عقود كان فستان العروسة يُصنع من بقايا أوراق المجلات أو الأقمشة المتبقية، ليكون شكلها مبهج بغض النظر عن مكونات فستانها، ففي النهاية سيطرح ذلك الفستان لتؤكل العروسة.
على مدار السنوات بدأ التغير التدريجي في شكل العروسة، وبدأ ذلك في لبسها وشكلها، إذ أصبحت ترتدي “فستان أبيض منفوش من التل”، وعادة ما يدخل مع اللون الأبيض تطريز باللون الأحمر أو “الفوشيا”.
مع الوقت اختفى مظهر العروسة القديم وأصبح أهم ما يميز شكلها هو الفستان الواسع “المنفوش” الأبيض، والذي يصور الحلوى بصورة عروسة حقيقة في أبهى جمالها، وتحولت العروسة من وصف إلى شكل عروسة حقيقي.
العروسة الحديثة
مع بداية القرن الواحد والعشرين، بدأت العروسة المصنوعة من الحلوى تتحول إلى لعبة من البلاستك، واحتفظت بنفس المواصفات الخاصة بالشكل التراثي لعروسة المولد.
وترى الدكتورة نهلة أن الموروث من التراث يتأثر بمدى القوى الشرائية عليه، وعلى الأغلب وجد الناس أن العروسة البلاستيك عمرها أطول من مثيلتها المصنوعة من الحلوى، والتي قد يستولي عليها النمل.
وبسبب إقبال الناس على التهادي بـ”عروسة المولد”، خصوصًا بين المرتبطين، فقد انحسرت عرائس الحلوى في مقابل البلاستيكية، الأطول عمرًا.
بدأ هذا التغيير بالبروز بشكل كبير في العشر أعوام الأخيرة، بعد دخول ألوان كثيرة تغطي على اللون الأبيض الطاغي على لون الفستان، فبدأ بالتدرج الى ألوان أخرى كاملة كالأحمر والأخضر.
ومع بداية هذا الموسم، ظهر نوع آخرمن العرائس يختلف تماما عن شكل ومضمون عروسة الحلوى، أو حتى والعروسة البلاستيكية، فقد أصبحت العروسة ترتدي عباءة خليجية، كما ظهر في بعض الأماكن عروسة ترتدي “الساري” الهندي.
عن تلك الأشكال التي ظهرت لـ”عروسة المولد” المصرية، تعلق الدكتورة نهلة إمام “ما هذا إلا انحسار ثقافة مخزٍ”.
اعتمدنا في هذا الموضوع على عدة مصادر:
– موسوعة التراث الشعبى العربي، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012.
– الأرشيف المصري للحياة والمأثورات الشعبية- عروسة المولد.
– عروسة المولد، عبد الغني النبوي الشال، دار الكاتب العربي.
– المرأة في مصر المملوكية، أحمد عبد الرازق، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1999
– سمية حسن محمد إبراهيم، العادات المصرية القديمة في العصر الإسلامي.
تعليق واحد