«يونس الدوادار».. قبة قاهرية وذكرى غزاوية
بعض الأماكن تحمل ذكرى أصحابها، وأحيانا تحكي قصة مكان وما يحمله من ذكريات البشر والحجر. لكن هناك أماكن تحكي ما هو أكثر، تلخص قصة شعب وحكاية أمة، وتنسج بخيوط ذهبية نسيج لا ينقطع بين مكانين بصورة تغنيك عن كثرة الكلام. ومن هذه الأماكن تلك الخاصة بالأمير المملوكي يونس الدوادار، الذي كتب بمنشآته قصة تربط بين القاهرة وقطاع غزة، مدينة العرب الكبرى وشقيقتها الصغرى. فعندما تسمع أخبار العدوان الوحشي على القطاع الآن، سيمر على مسامعك اسم مدينة خان يونس. وفي القاهرة الباكية على ما يجري في الفلسطينيين، تجد قبة يونس بالقرب من قلعة صلاح الدين محرر القدس، فهنا حكاية أولها القاهرة وآخرها غزة.
كانت مصر والشام دولة واحدة في عصر سلاطين المماليك، وقت الانتصارات الكبرى على الصليبيين والمغول وردهم بعيدا عن بلاد الشام وتطهيرها من الحركة الاستيطانية التي ألقت بها دول أوروبا على سواحل المسلمين، وكانت فلسطين وغزة في قلب هذه المعمعة. لذا أصبحت حمايتها من الأهمية بمكان، كونها نقطة الدفاع الأخيرة عن الأراضي المصرية، ونقطة تجمع الجيوش المصرية النهائية قبل الانطلاق لحماية أرض الشام من أي عدوان صليبي كان أو مغولي. لم يكن غريبا أن تلقى غزة وما يجاورها اهتماما خاصا من السلطة المركزية في القاهرة التي حولتها إلى نيابة أي إقليم إداري قائم بذاته. وتوالت المنشآت المملوكية تعمر في المنطقة الإستراتيجية الرابطة بين مصر والشام، وكان من نتيجة هذه الحركة أن ظهرت مدينة خان يونس.
***
تعود خان يونس بذكرى تأسيسها إلى الأمير المملوكي يونس النوروزي الدوادار، الذي توفي في سنة 791هـ/ 1389م. وكان أحد أهم أمراء دولة السلطان الظاهر برقوق. إذ عينه الأخير في منصب الدوادار الكبير، وتعني بحسب الترجمة الحرفية حامل الدواة. وهي وظيفة تضمن لصاحبها القرب الشديد من السلطان، والقيام عنه بعدة وظائف إدارية متشعبة. سواء الإشراف على الرسائل والفرمانات السلطانية، والخروج على رأس الجيوش المملوكية، والإشراف على الأوقاف والأحباس. وهي مهام ضمنت لصاحبها مكانة كبيرة خصوصا في عصر المماليك الجراكسة.
وعرف يونس الدوادار بأعمال الخير، إذ يقول عنه المقريزي، مؤرخ القاهرة، في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك) بأنه كان “كثير المعروف، صاحب نسك من صوم كثير وصلاة في الليل، مع وفور الحرمة، وقوة المهابة، والإعراض عن سائر الهزل، ومحبة أهل العلم والدين وإكرامهم”. واستغل الأمير يونس النوروزي ما تغله عليه مهام منصبه من عوائد ضخمة في إقامة منشآت ذات صبغة تجارية ودينية. فجاءت منشطة للحياة العمرانية في مصر والشام، ويعدد المقريزي، منشآت يونس الدوادار: “وله بالقاهرة قيسارية وربع، وله تربة بقبة النصر، وتربة خارج باب الوزير، ومدرسة خارج دمشق، وخانا جليلا خارج غزة، وعدة أحواض سبيل بديار مصر والشام”.
ورغم أن تربة يونس الدوادار في صحراء المماليك وتربته الأخرى في باب الوزير لا تزال كل منها قائمة حتى يوم الناس هذا. وتحمل ذكرى هذا الأمير المملوكي وتحافظ عليها في ذاكرة القاهرة التاريخية، إلا أنه لم يدفن في أي من التربتين. إذ قتل في إحدى المعارك بين فرق المماليك المتناحرة على السلطة في بلاد الشام، ولم يستدل على قبره، وإن قيل إن رأسه المقطوع دفن في مدرسته بدمشق. ويقال إنه قال عندما قدم للقتل، “الحمد لله عشنا سعداء ومتنا شهداء”. ويعلق ابن حجر العسقلاني على هذا المصير قائلا: “وكان قد بنى تربة معظمة بمصر وأخرى بالشام، فلم يقدر دفنه في واحدة منهما”.
***
لكن رغم أن جسد يونس الدوادار ضاع أثره، ورأسه لا يُعلم موقعه على وجه الدقة. إلا أن التاريخ كان أكثر عطفا على يونس الدوادار. فحفظ له ذكرى لا تزال تعيش في القاهرة وقطاع غزة على حد سواء. فلا تزال بقايا قبته والخانقاه التي بناها في صحراء المماليك قائمة حتى يومنا هذا. كما تثير قبة تربته في باب الوداع الإعجاب إذ تعود إلى طراز القباب السمرقندية القليل الوجود في القاهرة. ويوجد بقاعدة هذه القبة كتابة تاريخية تحمل النص التالي: “أمر بإنشاء هذه التربة المباركة من فضل الله تعالى وجزيل عطائه المقر العالي الأمير الكبيري الأجلي المحترمي المخدومي الشرفي يونس النيروزي الدوادار الملكي الظاهري”.
أما أهم ما حفظ لنا ذكرى الأمير يونس، فهو الخان الذي بناه في نيابة غزة في عام 789هـ/ 1387م. لاستقبال المسافرين وضيافتهم. مستغلا الموقع كمحطة للقوافل التجارية بين مصر والشام. وكجزء من خطة الدولة المملوكية لتعمير هذه المنطقة الإستراتيجية والتي تقع في نقطة تقاطع العديد من الطرق التجارية والحربية. لذا مارس خان يونس دوره بكفاءة في خدمة الحجاج والمسافرين والتجار وطلبة العلم. كذلك لعب الخان دورا كمحطة بريد بين مصر والشام. ولاشك أن نجاح الخان في لعب هذه الأدوار ساعد في ميلاد حركة عمرانية من حوله. إذ تجمع الناس وبدأوا في السكنى بجواره ومع الوقت ظهرت إلى الوجود مدينة خان يونس.
ويصف سليم عرفات المبيض في كتابه عن غزة، خان يونس قائلا: “زود هذا الخان الذي اتخذ شكل المربع (طول ضلعه 85.5 متر)، بأبراج في أركانه الأربعة، ومسجد بمئذنة مازالت بعض بقاياها ماثلة لليوم. وكان يضم عدة قباء بعضها يشتمل على غرفة، والآخر على غرفتين أو ثلاثة وفناء صغير لكل قبو… ولهذا الخان باب رئيسي مازال حتى اليوم، يتوسط الجدار الوحيد الأمام فقط”. ويرجح المبيض أن يكون بناء خان يونس تالي لبناء أقدم يعود إلى عصر السلطان الظاهر بيبرس. لوجود شعار الأسدين المتواجهين على أحد أقواس باب الخان، وهو شعار شهير للظاهر.
***
وهناك العديد من الكتابات التاريخية على الخان ترجعه إلى يونس الدوادار. منها: “أوقفه المقر الشريف العالي المولوي الأميري الزعيمي المثاغري الشرفي ظهير الملوك والسلاطين والفقراء والمساكين. أمير المؤمنين التقي يونس النوروزي الدوادار لمولانا السلطان الملك الظاهر أعز الله تعالى أنصاره وضاعف جزاءه”. ولوجود اسم السلطان الظاهر برقوق على النص التأسيسي للخان الذي بني في عصره وعلى يد أحد كبار رجال دولته. عرف المكان في العصور التالية باسم (قلعة برقوق).
ونتيجة حالة الرواج التجاري المصاحب لعصر سلاطين المماليك. تحول الخان إلى نقطة جذب واستقطاب لأهالي القرى المحيطة به، التي قررت الاستقرار بجواره. خصوصا مع توفير الخان فرصة للتجار والربح للأهالي بتقديم الطعام ومنتجاتهم لمن يتردد عليه من المسافرين. لذا نمت المنطقة سريعا وتحولت إلى مدينة قائمة بذاتها. بل أن نمو مدينة خان يونس أثر سلبا على مدينتي رفح ودير البلح القريبتين. إذ أصبحت خان يونس المركز الرئيسي لمنطقة جنوب غزة، ومركز النشاط التجاري في المساحة التي تشغل حاليا جنوبي قطاع غزة.
ودخلت خان يونس التاريخ مرة أخرى في العصر الحديث، كشاهد أمين على مذابح العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. إذ ارتكب جيش الاحتلال مجزرة وحشية في مخيم خان يونس. خلال يومي 3 و12 نوفمبر 1956، لتصل الحصيلة النهائية لأكثر من 500 فلسطيني. لتكون مدينة خان يونس بتاريخها الذي يتجاوز 600 عام شاهدا على واقع شعوب المنطقة. فعندما كانت كلمتهم واحدة والوحدة شعارهم كان الازدهار وطرد الاستيطان الأوروبي وميلاد خان يونس. ولما تفرقوا أيدي سبأ، عاد الاستيطان مجددا في صورة عصابات الصهيونية. وكانت المذابح في حق خان يونس وأهلها أمس، والقصف الجوي الوحشي ضدها اليوم.
اقرأ أيضا:
غزة.. مدينة فلسطينية بروح مصرية