ويجز وتجار الحرام: ديناميكات الملوك والبيادق
هناك شعور بترقب مشوب بالتوتر عندما تركني سائق تاكسي قاهري معلقا في الهواء بسؤال: “عارف حضرتك؟”. أتبعها بصمت استمر لخمس ثواني، قضاها محدقا في نقاط هائمة بالشارع المقابل لنا، المكتظ بأناس يتكدسون أمام ماكينة للصرف الآلي لسحب رواتبهم الشهرية، بآخرين يحررون المخالفات، ومثلهم من واضعي أكواز الأسمنت لحجز مكان لسياراتهم. وقبل أن ينقطع خيط أفكاره نظر لي بشكل ثابت في العينين قبل أن يواصل: “أنا أستيقظ كل يوم وهدفي الرئيسي كسائق هو أن أخرج بأكبر حصيلة منك وبأي شكل”. هو عاد تركيزه إلى الطريق، لم نتبادل أية كلمات أخرى طيلة المشوار. ولكني أتذكر أن لحظات الصمت الطويلة كانت مصبوغة بارتياح كبير من الطرفين كوننا وصلنا إلى نقطة مكاشفة يندر الوصول إليها في سياق الصدفة الذي جمعنا.
**
إنه نفس الارتياح الذي سايرني في النوتات الأولى لتراك “تجار حرام” مع توتي -صديق الإنتاج الدائم في المرحلة السكندرية الأولى. نوتات ربما كانت ستجد مكانها في مطلع فيلم “نص أرنب” لمحمد خان، أو ”ضربة معلم“ لعاطف الطيب. أو ربما ”الفتى الشرير“، أو في حقيقة الأمر هي أقرب لأجواء الـ“مولد“ لسمير سيف. ثمانينات مصرية تشي بأن قواعد اللعبة تغيرت. الأبيات الأولى التي تكاد تخرج من فم ويجز كطلقات كان تحملها الشخصية التي رسمها في مغامرته الجديدة. وقتها كانت الصورة بالغة الوضوح في مسألة المرجعية البصرية للتراك، مع الاعتذار لوتريات وكلارينيت راجح داوود.
”تجار حرام“ هو أقرب لأن يكون الرد الصوتي من ويجز وتوتي لإجابة في امتحان افتراضي ما يطلب منهما تلخيص فيلم ”الصعاليك“ في أقل من ثلاث دقائق. برسالة تحية إلى تراث من حبكات وشخصيات ”حميدو“ والفتوة“. في كوكتيل الولاءات المنتهية الصلاحية، الخيانات المتكررة، قصة الصعود من شظف العيش إلى أكل الشهد. الاحتكار كأسلوب حياة، الحياة الصعبة التي لم تعد كرابيجها مؤلمة بأي حال. ميزان الحلال والحرام الذي ينتقل يمينا ويسارا حسب الأنباء القادمة من البورصة. ولكن الأهم من ذلك هي عملية توثيق ما يسمى بـ“العدوانية المصرية“ على نحو لم تدركه النخب الثقافية المصرية التقليدية، والتي مازالت تعيش على أنقاض تحليلات جلال أمين عن ”ما حدث للمصريين“.
**
تلك العدوانية ليست بجديدة على مشهد الراب المصري، بل إنها في بعض الأحيان جزء أساسي من حمضها النووي (على نحو ليس بالغريب عن كل التنويعات العالمية لذلك النمط الموسيقي). ولكن تلك العدوانية تملك ملامح شديدة الوضوح فيما يتعلق بتراكات ويجز. تأخذ درجات مختلفة من الحدة. بداية من الشعور بالقهر والوحدة في ”مدينة المذنبين“، أو التحدي الشخصي في” على راحتي“. وربما هي عدوانية مصبوغة برغبة في رد الاعتبار مثل” عفاريت الإسفلت“. إنه موقف من الحياة ”مالوش لازمة، سهلة ومش مستهالة“.
في”تجار حرام“ العدوانية تتنقل من خانة رد الفعل على قسوة السياق الحاكم، إلى خانة الفعل والمبادرة كخيار وحيد لمواجهة أولاد الحلال من أبناء الأح**. بل إنها الحل الوحيد للعثور على أسلوب حياة مختلف عن ما يقوله لعدوه اللدود ”زميلي دي مش عيشة أوله ذل وأخره قبر“. إنها عدوانية من الأفضل أن تكون مؤسسية تمشيا مع المناخ العام، حتى يمكن أن تصبح ناجعة. فالجدع أصبح يتزف، والطيبين ماتوا“، بل إنه يعترف بهذا مجددا في “هصلا“، بأنه طفح الدم في الشغل ”لغاية ما أتغير أصله“.
**
بلاشك أن القسط الأكبر من رسالة ”تجار حرام” موجه كرد على ابن المجال دينيو في حربهما الكلامية قبل عامين. إلا أن الـmanuel الخاص بالمرحلة يمكن العثور عليه بأن أوقات الرحمة في التعامل أضحت من الماضي. إنها مرحلة إبادة النمل، وإزالة الدعم. انتظار إجهاز كل الأطراف على بعضهم البعض قبل أن القفز إلى الصدارة لملء الفراغ. ولا بديل عن قبول الجميع للشروط، خاصة عندما ”يدوقوا الحوجة“.
ويجز يبلغ الأصدقاء بأنه حاضر على الواجهة فقط، ولكنه لا يتكلم. هناك من ينوب عنه في الكوارث فقط. قبل أن تأتي أربع أبيات ربما هي غنائيا الأفضل بالعامية المصرية في السنوات الأخيرة، لترسم خريطة ونبراس يحدد ملامح العهد الجديد، فـ“الشغلة متحزبة البيع ممنوع، كلام مسموع تنفذ وقت ما أقول مسموح، أنا مش هفقركوا أنا أخلي الكل يموت م الجوع، أنا مش ناسيلكوا ومش مزاملكوا الشغلة علي وضوح”.
إنه تفسير به الكثير من السخاء لنوعية القاع الذي يصفه ويجز. قاع يجد في دور جريء لممثلة أمر يثير التحفظ أكثر من قطع رأس لمواطن ما في نهر الشارع بالإسماعيلية، ولا بأس بقواعد وتقنيات جديدة للابتزاز وتضييق الخناق. ويجز يعلنها صريحة بأنه لا مجال للمسايسة والتهدئة، فالناس نوعين. ملوك سوف تهدد ”للكش“ وبيادق سوف تتعرض للأكل. الأزمنة التي تسبح في القاع لا تسمح بممارسة ألعاب مثل الشطرنج. اللعبة لا تحتاج إلى أي مفهومية أو عبقرية خاصة، بل هي تقتات على العكس. يكفي فقط أن تدعي أنك ”عامل مش فاهم“ ولكنك عارف وشايف. مذكرا أنه صاحب الفيلم، ومدير السينما، عامل آلة العرض، والممثل، وقريب المخرج، وصديق المنتج، والأهم من كل هذا أنه يبشر بأنه سوف يقوم ”بلم التذاكر“ في نهاية الحفلة.
**
الرابر في تكوينه البسيط ما هو إلا قصاص يستخدم نوع ربابة مختلف، ربما يكون أكثر حدة، وهو الشيء الذي قد تعجز قبائل الفن الملتزم عن فهمه. وما هو مثير للحنق أكثر أن يكون القصاص هو الشخصية الرئيسية، وضمير المتكلم الخاص بها. وفي حالة مثل ”تجار حرام“. يعطي القصاصون الميكروفون واللاب لأصوات مثل سائق التاكسي، الذي يحاول التعايش مع فكرة كونه مواطني عادي وبين مهمته اليومية الجديدة كقاطع طريق، أن يكون حاميا لقيم أسرته المصرية بصرف النظر عن حاجته لتحطيمها لاحقا في سياقات أخرى ضمن رحلة استمراره.
في البارات الأخيرة من ”تجار حرام“ يحافظ ويجز على وجود الأمثولة الأخلاقية النهائية بإيقاع جنائزي يليق بنهايات أعمال نيازي مصطفى، نهاية حميدو التراجيدية محتومة، حين يترحم الجميع على هوان الدنيا، و يبصمون بالعشرة أن طريق الحرام محفوف بالندم، دفعوا ثمنا باهظا في سبيل استعجالهم للرزق. الفارق الوحيد أن الصعاليك الحقيقيين هم أقرب للأفندي صاحب البدلة البيضاء في بداية فيلم داوود عبدالسيد. فيما يقوم صلاح ومرسي القرن الجديد أو بمعنى أخر ويجز وتوتي بالمهمة النبيلة بتلطيخ الأقمشة البيضاء بالوحل، في تذكير موجز بأنهم ليسوا إلا تجار حرام بأعمار وأدمغة عيال، تلطيخ تزينه النوتات الأخيرة لبيانو أنيق تتلاشى في خفة نحو مجهول.
اقرأ أيضا
النتف البطيء لريش «بغبغانات النشيد»