وليد غالي يكتب: «النبيل»

كنت أظن أن الأمر سهل عندما طُلب مني أن أكتب عن الدكتور عماد أبو غازي الذي أعرفه منذ اثنين وثلاثين سنة، وبالتحديد العام 1993. كنت آنذاك طالبا مستجدا في كلية الآداب، جامعة القاهرة. أعرف جيدا أن د. عماد لا يحب المدح، فاختصرت واخترت كلمة «النبيل».
لماذا النبيل؟
فالنُّبْل لغةً: الذكاء والنَّجابة، من نَـبُل نُـبْلًا ونَبالة، والنَّبِيلة: الفَضِيلة. وقيل: نَبِيل، أَي: عاقل. وقيل: حاذِق، وهو نَبِيل الرَّأْي، أَي: جيِّده، وقيل: نَبِيل، أَي: رفيق بإِصلاح عِظام الأُمور، ونَبُل فلان: كَرُمَ حَسْبُه وحُمِدَت شمائله. واصطلاحًا هو خُلُقٌ حميد، يتحلَّى صاحبه بالذَّكاء والنَّجابة في ذاته، والفضل والرِّفق في تعامله مع النَّاس، مع حِذْقٍ في الرَّأي والعمل. وقال أبو هلال العسكري عن النُّبل: «هو ما يرتفع به الإنسان من الرُّوَاء، ومن المنظر، ومن الأخلاق والأفعال، وممَّا يَختصُّ به من ذلك في نفسه دون ما يُضَاف، يقال: رجل نَبِيلٌ: في فعله ومنظره، وفَرَسٌ نَبِيلٌ: في حُسْنه وتمامه.
إلى هنا يبدو الكلام مجاملة تلميذ إلى أستاذه. فدعوني أختصر الوقت والجهد وأتحدث عن عماد أبو غازي الذي أعرفه أستاذا وإنسانا.
الأستاذ
تربيت في بيئة تقدس الأساتذة والمعلمين، ولكل معلم مر في حياتي معروف يطوق به رقبتي، ومنهم بالطبع الأستاذ الدكتور عماد أبو غازي أستاذ الوثائق.
في قاعة المحاضرات لا يمكن أن يفوتك شي من كلام عماد أبو غازي. تمكنه من المادة العلمية وصوته وابتسامته الدائمة كانت كفيلة بأن تجعل مجموعة من المراهقين المشاغبين يجلسون في صمت وكأن على رؤوسهم الطير. الكل يتسابق ليجد مكانا في الصف الأول، والكل ملتزم الهدوء. يطوف بنا في الوثائق العربية فنقرأها بسهولة ويسر، ثم يحلق بنا فيما بين السطور مستخدما المنهج التاريخي في استنطاق الوثائق. وفي العام التالي يحكي لنا قصة الكتابة العربية، وما سبقها من خطوط وعلامات. ثم ينسف لنا كل هذه النظريات ويقول: “الأمر متروك لكم تفكروا فيه” فالتاريخ غير محايد ويكتبه المنتصر. وفي العام الذي يليه يحدثنا عن الأرشيف وأهميته الوطنية وكيف أن كل وثيقة مهمة، وأن كل ورقة ولو بسيطة وثيقة “تذكرة الأتوبيس وثيقة، هيجي دورها التاريخي في يوم ما”. وهكذا كانت محاضرات د. عماد، ناهيك عن المناقشات في ممرات الكلية ومراجعة التكاليف الذي يكلفنا بها.
الشاهد هنا أن عماد غيّر مفهومنا عن الأستاذ الجامعي ورسخ في أذهاننا صورة جديدة وفريدة في الوقت ذاته! كيف هذا؟ علي الرغم من وجود عمالقة في الجامعة وقتذاك، إلا أن جيلنا كان منقسما بين الصورة النمطية لأستاذ الجامعة ذو الشخصية الحادة والزي الرسمي، وأساتذة الجيل الجديد المتأرجحين أنفسهم بين جيلين أيضا. ليأتي عماد أبو غازي ويرينا نسخة مختلفة من الأستاذ الجامعي، ويرسخ في أذهاننا مفاهيم جديدة عن المدرس الجامعي وعن هذه الوظيفة الذهبية. فهو حديث في ملابسه، فالمظهر لم يكن يعني له شيئا، مما جعلنا نقترب منه كصديق. متمكن في مادته العلمية الغزيرة، منفتح على كل الاتجاهات الفكرية والثقافية، فتعلمنا منه دروس في التاريخ والوثائق والإنسانية.
***
تلاحظون أنني أقول “عماد” ولا أجد حرجا في ذلك لأسباب كثيرة، أهمها وأنا طالب في الفرقة الثانية في كلية الآداب، جامعة القاهرة، كان الدكتور عماد وقتها يعاملنا وكأننا أصدقاء أضف إلي ذلك جهلي به وبتاريخه في الحركة السياسية والطلابية، كنت أحسبه قريبا في السن من جيلنا، فكنت أتخفف معه في الحديث أحيانا. حتى جاءت لحظة مناقشة رسالته للدكتوراه، ورأيت جموعا من الأساتذة والطلبة والمثقفين يجلسون في المدرج الكبير في انتظار بدء المناقشة ورأيت على المنصة عمالقة تخصص الوثائق والتاريخ يزينون الجلسة.
لا أخفيكم سرا، قد اضطربت نفسي وقلت: من أين لي هذه الجرأة في الحديث مع هذا الرجل بقدر من التخفف؟ ورأيت على المنصة الدكتور عبد اللطيف إبراهيم الذي كنا نهابه ويرعبنا بصوته ومشيته وهيئته التي تشبه توفيق الحكيم. رأيت هذا العملاق يتعامل مع د. عماد بكل وداعة ولطف، ولما لا؟ وكان النبيل عماد هو المرافق للدكتور عبد اللطيف لمدة طويلة في حله وترحاله، وكان له نعم الابن البار. أما عن الرسالة والمناقشة فكانت نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه حلقات العلم والمناقشة الجادة في الجامعات، بدلا من الصخب الذي يصنعه أنصاف الباحثين ولا يتمخضون إلا فأر.
الإنسان
الدكتور عماد رجل مجتمع وثقافة باقتدار، وله في كل مؤسسة ثقافية بصمة يشهد عليها الغادي والرائح. وأعرف أن كل من يعرفه من قريب أو بعيد عنده شهادات كثيرة.
تبدت إنسانيته أمامنا ونحن طلبة في علاقته بجميع أساتذته، ومع أستاذه المباشر الدكتور عبد اللطيف إبراهيم، على وجه الخصوص الذي كان قد بلغ من العمر مبلغه. فكان الدكتورعبد اللطيف يأتي إلى الجامعة لتدريس الدراسات العليا، وفي وجوده لا بد أن يكون كل شيء هادئ جدا. وفور انتهائه من المحاضرة، يخرج من غرفة الأساتذة ومعه الدكتور عماد، يسير يده في يده حتى يصل إلى سيارته. هكذا كان الدكتور عماد ابنا بارا بأستاذه عبد اللطيف حتى رحيل الأخير.
ثم تخرجت في عام 1997، وأتذكر جيدا في صيف هذا العام، التقيت بالدكتور في ساحة كلية الآداب وسألني عن النتيجة، فقلت له الحمد لله، لقد اجتزت السنة الرابعة بنجاح، وكنت وقتها أعمل في منظمة العمل العربية. هنأني أنا والزملاء، وأثنى على دفعتنا، وقال “اليوم أصبحنا زملاء، ولا داعي أن تنادوني بالدكتور عماد”. رقص قلبي لأنني عرفت أنني اكتسبت صديقا فوق كونه أستاذا، وأنني سأتعلم منه بلا توقف.

***
منذ شهر تقريبا، حضرت ندوة في المجلس الأعلى للثقافة عن الدكتور جابر عصفور، وكان الدكتور عماد أبو غازي يتحدث فيها عن الدكتور جابر وجهوده في الثقافة المصرية وفي تطوير المجلس الأعلى للثقافة. وحديثه كان مملوءا بالمحبة والاحترام، لا يتركان لك سبيل إلا أن تحترم كليهما. وعندما عقب الدكتور عماد على بعض المداخلات، وقال إنه لم يكن هو والدكتور جابر متفقين في كل المسائل وحول كل القضايا على طول الخط، ولكن لم يفقد أحدنا احترامه للآخر. مثال آخر للمهنية والإنسانية في وقت واحد.
كانت زيارة الدكتور عماد أبو غازي لي في لندن من العلامات الفارقة في حياتي. تزامنت زيارته مع وقت كنت أفكر فيه في اتخاذ قرار مصيري، هو العودة إلى القاهرة. تحدثنا واعترفت له بما أنتويه، فكانت أول نصيحة له أنني أراجع هذا القرار. ولأنه رجل يؤمن بالحرية ويفهم ملابسات جيلنا وشخصيته، لم يفرض علي الرأي ولم يقل لي هذا قرار خاطئ مثلا، بل طلب مني أن أتريث وأعيد النظر في القرار في ضوء بعض المعطيات التي شاركها معي. وفي نفس الزيارة، أخذته في جولة في المكتبة وأريته بعض الوثائق من مجموعة المكتبة. شجعني الدكتور عماد على العمل على المجموعة، وأن هذا سيكون مشروعا جديرا بالتركيز والنشر. ولما رآني مترددا، عرض علي أن نعمل سويا في هذا المشروع، فيخرج إلى النور مشروع “الوثائق المجهولة للشيخ محمد عبده”.
***
وهنا بدأت مرحلة جديدة في علاقتي بالدكتور عماد، وهي كما يسميها هو: مرحلة الزمالة والصداقة. ما زلت أتردد في أن أقول إن عماد صديقا نظرا لسيطرة مرتبة الأستاذية في قلبي وفي ذهني. ولكن العمل مع عماد أبو غازي متعة لا تضاهيها متعة. عملنا سويا على الكتاب الأول في مشروع “الوثائق المجهولة للشيخ محمد عبده”، وكان فيها أيضا نعم الموجه والأستاذ. وفي معظم الأحيان كان يقدم اسمي على اسمه ونحن نرسل المسودات إلى المطبعة، ثم تصلني المسودة باسمي، فأغيرها وأرسلها إلى المطبعة مرة أخرى. حتى طلبت من الناشر ألا يغيروا ترتيب الأسماء، فالدكتور عماد سيظل أستاذي وسيظل أستاذي وله الفضل في هذا المشروع، وكان هو الدافع الوحيد لنشر هذا الكتاب وغيره.
علاقتي بالكتابة الأدبية مازالت في مهدها، فانا أعتبر نفسي هاويا. وحتى زمن قريب، كنت لا أفكر في نشر أي أعمال أدبية إلى أن شجعني د. عماد. ولأني أثق في رأيه، استجبت له ولم أرد أن أخيب ظنه، فنشرت مجموعتين ورواية، وأعتبر أيضا أن للدكتور عماد دورا كبيرا في خروج هذه الأعمال الأدبية إلى النور.
***
وشهادتي الأخيرة موقف أظن أنه تكرر مع كثيرين. قد يتسلل الشك إليك أحيانا عندما يتقلد أحد معارفك أو أساتذتك منصبا مرموقا، وقد تقول في نفسك: “لعله سيتغير أو يغير أسلوبه”. ولأنني متأكد أن كل من عامل الدكتور عماد أبو غازي وهو وزير للثقافة، عنده من القصص الكثيرة التي تؤكد على إنسانية ومهنية هذا الرجل. أما أنا، وبرغم ثقتي في شخص الدكتور عماد، كان قد تسلل إلى هذا الشك في وقت من الأوقات. وكنت وقتها أقف مع بعض الزملاء في أحد المنتديات الثقافية. ثم يمر الدكتور عماد وزير الثقافة وقتذاك، ماشيا على الأقدام ومعه مجموعة من المثقفين والزملاء. يخرج الدكتور عماد من الموكب المترجل ويأتي ليسلم علينا ويتحدث معنا لدقائق، ثم ينصرف. أتذكر يومها أنني قلت: “هذا الرجل لا يخيب ظن من يحبه أبدا”. فروسيته ونبله يفتحان قلوب الناس وعقولهم.
اقرأ أيضا:
ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»
ماجد نادر يكتب: «وزير هيمثل معاك؟!»
د. محمد عفيفي يكتب: «عماد أبو غازي» مؤرخًا
بسمة عبد العزيز تكتب: في مَحبة الحضور الهادئ الطاغي
د. سلمى مبارك تكتب: إنسان من الطراز النادر
د. ياسر منجي يكتب: لأنه أبَى إلا أن يكون «عمادًا»