وصف الإسكندرية بالإجريجي
اعتدت التسكع اليومي بأنحاء وسط المدينة – الإسكندرية – في بواكير السبعينات، أتلمس ظلال حياة متأججة قضيتها في ستينات القرن الماضي. أسعى لاستعادة صور ومشاهد متوهجة. يأسرني ما أجتره من وجوه عرفتها.
الشوارع التي قطعتها.. البيوت والأماكن التي هبطت بها.. منزل الشاعر اليوناني “قسطنطين كفافيس” في 4 شارع ليبسوس.. منزل الفنان “سيف وانلي” في 22 ممر سينما رويال بشارع فؤاد.. إطلالة بار كاليثيا وكافيتريا وبار أتينيوس على الشاطئ وحفلات الرقص والغناء الصاخبة أيام الآحاد والعطلات، إيليت وصاحبته اليونانية “مدام كريستين”.
أحل بمنطقتي الأثيرة لديّ.. دليل محطة الرمل حيث تتوسط ساحته خريطة المدينة الكائنة في لوحة زجاجية عريضة.. الترام.. السنترال.. وأكشاك الجرائد والكتب. منصة بائعي الآيس كريم والفيشار، التمر هندي وزجاجات الحليب “سيكلام” ونفق السلك الكهربائي الذي يفضي إلى الشوارع المجاورة.
***
تتأمل ذاكرتي رجلا طويلا، متورد البشرة ذو سترة فقيرة يتأبط رزمة من الجرائد الإفرنجية.. جريدة “لايفورم”، تاخيزروموس “البوسطجي” اليونانية، يطوف بساحة محطة الرمل يوزعها على بائعي الجرائد.. ظننته إجريجيا. عرفت بعد ذلك أنه الإسكندراني “عم علي” حيث كان زبائن تلك الجرائد، أعداد وفيرة نسبيا من الجالية اليونانية وبقايا جاليات أجنبية أخرى.
فقد ظلت الإسكندرية طيلة عهود طويلة “مدينة المدن”.. ومنذ أن استوطنت الجالية اليونانية المدينة، شهدت حقول الآداب والفنون ازدهارا لافتا.
ففي عام 1862، صدرت جريدة “مصر” لصاحبها “زيونيسوس ايكانوموبلس”، ومجلة “أنيس الجليس” النسائية في العام 1898 لصاحبتها “الكسندرا أفيرنيو”، وأصدرت أيضا مجلة “لوتس” باللغة الفرنسية فضلا عن إبداعها الروائي والشعري.
وصدرت جريدة “اليوناني المتمصر” وهي جريدة يونانية عربية وظلت حتى الأربعينات في الإسكندرية والقاهرة لصاحبها “أنجلوس كاسيفونيس”. وعنت جريدة “اليوناني المتمصر” بتمتين العلاقات اليونانية المصرية. وأصدر “ديمتري مسكوناس” المخبر المصري والنور التوفيقي جريدة أدبية علمية تاريخية فكاهية مصورة. وأصدر “أوجين ميخائيليدس” بالإسكندرية مجلة الرابطة اليونانية العربية، ونشرة معهد الدراسات اليونانية.
***
وقتئذٍ، صارت المدينة سردية احتلت كتابات اليونانيين عن مصر، فيكتب “تاسوس نيروتسوس بك” كتابا عن “الإسكندرية القديمة” و”اكتشافات أثرية في مصر”. ويكتب “مرغريتس زيمتساس” عن تاريخ الإسكندرية من زاوية تاريخية، جغرافية، أدبية، أثرية.. و”رحلة في الديار المصرية”.
ويترجم “جراسيمسوس بنداكيس” القرآن الكريم إلى اليونانية”، و”أبحاث مصرية” يصف أهم مدن الديار المصرية ومعجما في “المختصر في اللغتين اليونانية والعربية”. ويكتب “نيقولا سكوتيزي”، أحد أهم رجال السلك السياسي اليوناني في الإسكندرية “أزمة مصر” متناولا ثورة عرابي باشا ومذبحته.
وفي العام 1944 تكتب الآنسة “اليسبيت بسارا” رواية “إسكندرية أيام الحرب” و”إسكندرية الراحلة” للسيدة “ديسبينا فيوغياتزيس” متناولة أبرز الشخصيات البارزة في شتى فضاءات الفنون والآداب وغيرها. ويدون الفنان الموسيقي “كرينوس ذي كاسترو” مذكرات فنية، الإسكندرية عام 1948، ويونانيو الإسكندرية، وعلى مر السنين.
آنذاك، تسمت عديد من الشوارع في أنحاء المدينة بأسماء يونانية. ففي ضاحية الأزاريطة شارع “قسطنطين سينادينوس” أحد ابناء أسرة سينادينوس والتي عملت بالتجارة والعمران. وشارع “أمبروزارللي” بضاحية محرم بك حيث اشتهر “أمبروزو” بخدماته الجليلة للمجلس البلدي. “وبوالينو” القبرصي طبيب محمد علي باشا، وشارع “زنكروله” الطبيب صاحب المؤلفات الطبية. و”بولاناكي” أحد رجال صناعة تقطير الخمور، وشارع “أفيروف” من سراة اليونانيين في الإسكندرية. و”كومانوس باشا” من أعلام القانون عاش بالإسكندرية حتى العام 1934.
وضاحية “جليمونوبلو” التاجر اليوناني الذي كان شغوفا بالآثار المصرية القديمة، وشارع “فامليادس” بالعطارين ويعد من أثرياء الإسكندرية وأنشئت من ميراثه مدرسة يونانية بشارع جامع سلطان.
لقد تلاشت المدينة (المملكة)، ذوَت دون طلل. ومضت من خراب إلى خراب، ولا ليس غير نار موقدة، لا شيء تلتهمه سوى المراثي.