ورحلت «إيفلين».. 45 عاما في عشق الخزف والفخار
عن عمر ناهز 82 عاما، رحلت الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، بعد أن قضت 60 عاما من حياتها فى مصر، منها نحو 45 عاما في قرية تونس بمحافظة الفيوم، وأسست مدرسة لتعليم أبناء القرية الخزف والفخار، حتى أصبحت القرية من أشهر القرى المصرية في هذه الصناعة. رحلت إيفيلين بوريه بعد 60 عاما قضتها في مصر، رحلت قبل أن تحصل على الجنسية المصرية التي كانت تحلم بها، إذ طلبت من الدكتور أحمد الأنصاري، محافظ الفيوم، التدخل من أجل الحصول على الجنسية التي تتمتع بها ابنتها. العديد من تلاميذ إيفلين ومحبيها تحدثوا عن المواقف الداعمة لها نحوهم وأبناء القرية.. «باب مصر» يلتقي بعضهم.
إيفلين بوريه
منذ أن وطأت إيفلين قدميها تونس بصحبة زوجها الشاعر الراحل سيد حجاب، تعلق كثيرا بالطبيعة الخلابة التي تتمتع بها قرية تونس، فقررت أن تكون مستقرها، اشترت قطعة أرض وبنت عليها منزلا وبعد انفصالها عن الشاعر تزوجت من ميشيل باستور سويسري الجنسية، وأنجبت منه أبنائها مارية وأنجلو، ولكنها لم تترك منزلها بل عاشت فيه منذ أواخر السبعينيات.
استغلت إيفلين حسها الفني وعشقها ودراستها للخزف الذي درسته في جامعة جنيف، في تعليم أبناء القرية حين رأتهم يلعبون ويشكلون من الطين بشكل فطري أشكالا فنية رائعة من الطيور والحيوانات، فقررت أن تمارس هذا الفن وتعلمه لأهالي القرية وأطفالها، وبعقلية مدنية أسست جمعية “بتاح” لتدريب أولاد الريف والحضر على صناعة الخزف وهي مدرسة الفخار بالقرية، وواصلت الجمعية التي كانت تديرها إيفيلين عملها بدأب وحب وإصرار على أن تخرج فنانين ينتجوا إبداعًا يصل إلى العالمية، وقد نجحت في ذلك وبات لبعض فناني وفنانات الفخار والخزف في قرية تونس معارض دائمة في سويسرا وبلجيكا وفرنسا ويصدر بعضهم منتجاتهم إلى العديد من الدول الأوربية. وسيطرت حالة من الحزن على أهالي قرية تونس بعد أن ذاع خبر وفاة هذه السيدة التي اجتمع الجميع على حبها وإجلالها واحترامها، وخاصة تلاميذها.
آراء تلاميذها
يقول الخزاف عبدالستار عبدالسميع، أحد تلاميذ إيفلين وهو من الرعيل الأول الذي تخرج في مدرستها: “الفيوم كلها خسرت إيفلين ليس قرية تونس فقط، لكن سيظل ما فعلته من أعمال للقرية باقيًا لن يموت”.
يكمل عبدالستار، بدأت التعرف على إيفلين وكان عمري 6 سنوات، فقد توفى أبي وكانت إيفلين جارتنا في القرية، فهي بمثابة أمي الثانية، كنت ألعب مع أولادها مارية وأنجلو وكانا من نفس عمري، وبدأت العمل معهم في ورشتهم لصناعة الخزف والفخار، وأتذكرها حين كانت منبهرة وقتها بما نشكله نحن الأطفال من الطين، فكانت تقول لنا “أنتو بدايتكم أفضل من بدايتنا، فأنتم أبناء الريف ليس بجديد عليكم التشكيل بالطين وأن موهبتكم أفضل منا كأجانب”.
ويضيف، لم أتلق تعليمي بالمدارس، لكن علمتني إيفلين في مدرستها ما كان أفضل بالنسبة لي، فهي معلمي الأول والوحيد لم تبخل علي بأي شيء، تعلمت منها الجدية في العمل وقيمة الوقت، وظلت بجانبي في مراحل حياتي المختلفة لم تتركني، ليس أنا فقط بل وجميع طلابها.
ويقول:” تحملت إيفلين الكثير، فقد كنا جميعا من أبناء الفلاحين وجميعنا يعمل في الفلاحة مع والده في الأرض أو رعي الغنم أو العمل عند آخرين بالأجر، لذا لم نكن ملتزمين بموعد محدد للذهاب إليها بالمدرسة، وبالرغم من ذلك لم تكن تنهرنا، بل على العكس كانت تفضل عدم أخذ قسط من الراحة في سبيل تعليمنا، وكانت تترك لنا حرية الذهاب إليها في الوقت المتاح لنا، وقد وصل عددنا إلى 15 طالب بالمدرسة، ثم زادت الأعداد بعد ذلك، وكانت تتركنا نعمل بحرية كأننا نلعب بالطين، وفي كثير من الأحيان كانت تقوم بتكسير ما نعمل كي نعيده من جديد بشكل أفضل”.
وتابع: أتذكر في عام 1997 وأنا عندي 13 عامًا وكنا حوالي 18 ولد بمدرسة الخزف، نظمت معرضًا لمنتجاتنا، وبيعت كل القطع التي قمت بتنفيذها، وحصلت وقتها على مبلغ 7 آلاف ونصف وقد كان مبلغًا كبيرًا مقارنة بما حصل عليه زملائي، وهو ما جعلها تقول لي وقتها ” أنت نجمة عالية هنا”.
ويشير إلى جهود إيفلين في التشجيع والمتابعة حتى بعد أن أصبح لكل واحد من المتعلمين ورشة خاصة به، فكانت توصي دائمًا بالاهتمام بمدرسة الفخار، وأن تستمر المدرسة في تعلم الأطفال، وأن نهتم بجودة ما نقوم به من أعمال لنعلي من القيمة الفنية التي أحيانا تخبو لصالح القيمة والغرض التجاري.
مدرسة الخزف
يصف محمود يوسف، أحد خزافي القرية، إيفلين بأنها أمه الثانية، فيقول عنها: تعرفت على إيفلين وأنا في التاسعة من عمري، فقد كنت ذاهبًا إلى الكتاب في قرية مجاورة، مارًا بمنزلها، وشدني في البداية أنها أجنبية ليست كنساء القرية، كما أعجبت بشكل الأطفال في مدرسة الخزف، فذهبت إليها وبدأت تعلم صناعة الخزف.
ويضيف يوسف، يعود الفضل لإيفلين في التحول الذي حدث لي شخصيا وللقرية جميعها، فقد حولتنا من مجرد أبناء قرية بسيطة وأولاد فلاحين لا يعلمون شيئا عن الفن، إلى فنانين كبار أصحاب مشاريع وورش، ومن خلالها سافرنا إلى دول مختلفة في العالم وأصبح لكل منا كيانه الخاص ومشروعه المستقل المربح، وقامت بتوسع مداركنا فتعرفنا على ثقافات مختلفة وعلى فنانين كبار من مختلف دول العالم، ليس ذلك فقد، بل أصبحت قريتنا بفضل إيفلين أشهر القرى المصرية، وجعلت الكثير ممن لا يعمل في الخزف يعمل في السياحة والسياحة البيئة على وجه الخصوص، حتى أضحت تونس مزارًا على خريطة الفيوم السياحية. ولن أنسى ما حييت نصحها بأن نهتم برسم الطبيعة من حولنا وأن لا نقلد الفن الغربي وأن نحافظ على تراثنا وهويتنا المصرية.
إلهام وتأثير
ويقول الفنان إبراهيم عبلة، مدير مركز الفيوم للفنون بقرية تونس وابن الفنان الكبير محمد عبلة: منذ طفولتي وأنا أرى الفنانة إيفلين، وقتها كان والدي يقوم ببناء منزلنا بقرية تونس، فقد كنت ألعب مع ماريا وأنجلو أبناء إيفلين، فقد كانا بمثابة أخوتي الكبار، وبالطبع كنت أشاهدها في ورشتها الخاصة بالخزف، لقد أثرت الفنانة إيفلين بشخصيتها الجميلة على محيطها وعلى مدار أعوام كانت السبب الرئيسي في تغيير شكل القرية وتعليم أبنائها صناعة الخزف وتشكيل الفخار، حتى أصبحت ما عليه الآن من شهرة واسعة، فقد كانت بالفعل سيدة ملهمة ومؤثرة، ولن ينسى الجميع ما قامت به تغيير لتلك القرية.
ويتلقى فناني وخزافي تونس العزاء في الفنانة إيفلين في مدرسة الفخار، مساء اليوم، بعد دفنها في مقابر القرية الثانية بمدينة ومركز يوسف الصديق.
تعليق واحد