وداعا رءوف توفيق.. من علمنا حب السينما!
برحيل الناقد والسيناريست والصحفي رءوف توفيق (1939- 2023) تفقد الحياة السينمائية في مصر واحدا من كبار نقادها ومؤلفيها. والأهم أنها تفقد واحدا من أنبل رموزها.
قبل أن أعرفه وأعمل معه في مهرجان الإسكندرية السينمائي، عندما تولى رئاسته لعدة سنوات بين نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة. ثم كصحفي في مجلة “صباح الخير” من 2000 حتى 2003، عرفت رءوف توفيق كقارئ عاشق لكتبه العديدة عن السينما. وكمشاهد متيم بفيلمه “زوجة رجل مهم” الذي كنت أعتبره، ولم أزل، واحدا من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية.
مع أن التعبير مستهلك، إلا أنني تربيت بالفعل على كتب رءوف توفيق: “السينما عندما تقول لا”، “سينما الحب”، “سينما الزمن الصعب”، “سينما المرأة”، “سينما الحقيقة”، وغيرها. ولا أستطيع أن أتذكر فترة الثمانينيات دون أن تكون هذه الكتب جزءا من الأعمال لعبت دورا كبيرا في حبي وفهمي للسينما. وتكويني الثقافي بشكل عام.
أخبرته ذات يوم، عندما كنت بصدد تأليف كتاب عنه بمناسبة تكريمه في المهرجان القومي للسينما (2004). أنني أتذكر بعض الأفلام العالمية التي كتب عنها. فيختلط الأمر عليَ: هل ما أتذكره هو صور من فيلم شاهدته، أم من وصف لفيلم قرأته في أحد كتبه؟!
***
إذا كانت عملية النقد تتكون من وصف، فتفسير، فتقييم، كما يقول شيخ النقاد الدكتور محمد مندور وكما يحب أن ينقل عنه عمنا الناقد الكبير كمال رمزي. فإن رءوف توفيق هو سيد “الوصف” بلا منازع. والوصف هو أساس التفسير، لأن من لا يرى جيدا لن يمكنه أن يفهم ويؤول بشكل صحيح. ومن لا يمكنه أن يفهم العمل، فلن يستطيع تقييمه بالتأكيد.
وحتى يتمكن المرء من وصف ما يراه، فهو يحتاج إلى تمكن من اللغة ومهارات الوصف. والأهم يجب أن يكون متعاطفا مع ما يراه.
هناك بعض النقاد الذين يبدعون في الكتابة عن الأعمال السيئة، من وجهة نظرهم، فيكيلون لها الضربات يمينا ويسارا كملاكم محترف. ولكن رءوف توفيق من النوع الذي يبدع عندما يحب، وأفضل مقالاته هي التي كتبها عن أعمال أحبها وتحمس لها. ومن ثم يأتي وصفه لها احتفاليا ومفعما بالحيوية. وهو، عندما يحب فيلما، لا يخجل، باعتباره ناقدا يجب أن يكون عقلانيا وعلميا، من التعبير عن إنفعاله وتأثره. في مقطع من مقال له عن فيلم “سواق الأتوبيس” (مجلة “الدوحة”، 1983) يكتب:
“شاهدت هذا الفيلم ثلاث مرات.. متعمدا أن أختبر مشاعري، وصدق حكمي، بعد انفعال المشاهدة الأولى. ولكن اكتشفت أنه كلما شاهدت الفيلم، كلما أحببته أكثر. وارتبطت به أعمق، واكتشفت ما هو أغرب. إنه في كل مرة تخنقني الدموع، وتطفو على وجهي، ولم يكن نوعا من التأثر الوقتي. بل كان حزنا يملأ القلب..وكأن الفيلم يضغط علينا لنشعر بفداحة ما جرى لنا..”.
***
ولد رءوف توفيق وعاش طفولته الأولى في مدينة “جرجا” التابعة لمحافظة سوهاج، وكان بالمدينة دار عرض سينمائي بهرت أفلامها خياله. وعندما انتقلت العائلة إلى بني سويف، مع الأب الذي كان ضابط شرطة، كان هناك دار عرض أخرى أكبر وأحدث. نحن نتكلم عن أربعينات القرن الماضي، الآن تكاد دور العرض السينمائي أن تختفي. فكل يوم نسمع عن سينما تغلق وتهدم، وهناك محافظات لا يوجد بها دار عرض واحدة!
بإنتقال العائلة إلى القاهرة، بعد تقاعد الوالد، انضم رءوف توفيق إلى النشاط السينمائي الثقافي الذي كانت تشهده مصر آنذاك، من خلال تأسيس نادي سينما القاهرة، والجمعيات السينمائية، والمراكز الثقافية الأجنبية. وعقب انتهاءه من دراسته الجامعية التحق بالعمل صحفيا بمجلة “صباح الخير” عام 1959. وهو لم يتجاوز العشرين من العمر بعد! أما كيف التحق بـ”صباح الخير”، فقصة رواها بنفسه في مقال بعنوان “من أوراق صحفي تمنى أن يكون رساما”. لقد مر على المؤسسة وطلب من موظف الاستقبال أن يلتقي برئيس تحرير “صباح الخير” آنذاك، الكاتب أحمد بهاء الدين لأنه يريد أن يصبح صحفيا. اتصل الموظف بالأستاذ بهاء، فطلب مشاهدة الشاب. وبالفعل التقى به وكلفه بكتابة موضوع، سرعان ما وجده منشورا على صفحات المجلة في الأسبوع التالي!
***
خلال هذه الفترة ومن خلال نادي السينما والجمعيات السينمائية الوليدة التقى رءوف توفيق بزملاءه من الجيل الذي أسس النقد السينمائي في مصر: أحمد كامل مرسي، سمير فريد، مصطفى درويش، سامي السلاموني ويوسف شريف رزق الله، كما تعرف على عدد من الفنانين منهم صلاح أبو سيف الذي ربطته به صداقة قوية جدا.
مع ذلك، فعندما صنع أبو سيف فيلم “حمام الملاطيلي” في بداية السبعينيات، لم يتورع رءوف توفيق عن كتابة مقال نقدي لاذع ضد الفيلم. ومن ناحيته، عندما جمع أبو سيف عددا من المقالات التي كتبت عن أفلامه بين دفتي كتاب نشر بعنوان “صلاج أبو سيف والنقاد” كان مقال “حمام الملاطيلي” من بينهم. مثال آخر على شكل الحياة الثقافية والذين يعملون بها وقتها.
كتب رءوف توفيق عددا من سيناريوهات الأفلام منها “مشوار عمر” و”زوجة رجل مهم” و”مستر كاراتيه” مع محمد خان، و”فرحة” أول أفلام هاني لاشين، وعددا آخر من الأفلام والمسلسلات. وخلال العشرين عاما الماضية كان لديه عدد كبير من الأعمال. ولكن مثل كثير من الكتاب الكبار والسيناريوهات الجادة، تعثر إنتاجها. نتمنى أن تقوم بجمعها وطبعها السيدة الفاضلة زوجته، الكاتبة منى ثابت. ومنها بالمناسبة سيناريو قديم كتبه بالتعاون مع عبدالرحمن الشرقاوي.
وبعيدا عن الكتابة فمن بين كل الصحفيين ورؤساء التحرير الذين عملت معهم أو سمعت عنهم. لم أجد إجماعا على حب أحد مثل رءوف توفيق، ولا أحد يجمع الكل على إنسانيته وطهارة يده وقلمه مثله. وقد شهدت بنفسي العديد من الوقائع التي تبين كم كان إنسانا نادرا نبيلا في وسط يمتلئ بالإغواءات والسموم والثعابين.
حزني شديد لفقدانه، واعتقد أن النقد السينمائي والصحافة، إذا كان بإمكانهما أن يشعرا ويتكلما، حزينان أكثر مني!
اقرا أيضا:
أسامة أنور عكاشة على الوثائقية: مادة ثرية.. تنقصها الحيوية!