وثائق| هاني شكر الله يكتب: أفكار في مشروع تأسيس جريدة يومية لليسار (1)
في عام 2006 بدأ التفكير في تأسيس جريدة البديل، ودارت مناقشات عديدة بين رموز اليسار استغرقت شهور عديدة. كان هاني شكر الله حاضرا في المناقشات، وقدم تصورا مهما لمفهوم جريدة يومية. المثقف البارز سيد كراوية أحد مؤسسي البديل احتفظ بالأوراق التي تم تقديمها من رموز اليسار ومن بينها الورقة التي قدمها هاني شكر الله. وسوف ننشر الجزء الأول منها هنا، على أن ننشر تباعا بقية الوثائق الخاصة بهاني شكر الله والتي اختصنا بها من سيد كراوية الذى كتب مقدمة قصيرة عن ظروف تأسيس البديل.. وقصة هذه الوثيقة الهامة:
«كان الوعي بالمهمة وراء فكرة تكوين مؤسسة ثقافية وإعلامية في شروط مجتمع تتكون فيه نواة مجال سياسي بعد 2005. ووسط محاولات حصره بين حزب سلطوي: الحزب الوطني، وتيار معارض: التيار الإسلامي والإخوان المسلمين أساسا. فكان الطموح بوجود تيار بديل عنهما، تيار مدني ديموقراطي بإصدار جريدة استقر على أن تكون “بديلا ” ومقاوما للهيمنة السلطوية بين التيارين. وبطبيعة المهمة التي كلف تيار اليسار الديموقراطي نفسه بها، كان لابد أن يتم عصف ذهني حول التصورات النظرية لهذه المهمة بتكوين سياسة تحريرية للصحيفة. لدينا كتابات مهمة حول تصور مفكرين مهمين منهم كتابات د. محمد السيد سعيد، والدكتور الفنان أحمد عز العرب، والدكتور سامر سليمان.. وهاني شكر الله. هذه رؤية هاني ونحن بصدد تأسيس شركة التقدم صاحبة جريدة “البديل”.
وفيما يخص هاني شكر الله والصحافة كمهنة ونشاط ورسالة فهو ظاهرة قليلة في أوساطنا. فوعيه وإصراره على الأصول المهنية باعتبارها شرطا حازما كان مسألة مبدأيه. ولذلك حتى لما اضطرته ظروف خاصة بالابتعاد عن تجربة البديل، فكان اهتمامه بالعمل في مؤسسة هيكل وسط هيكل وسيمور هيرش الصحفي الاستقصائي الشهير. الذي كشف عن جرائم الجيش الأمريكي في فيتنام وأبوغريب باعتبارها محاولة لترقية المجال الصحفي عبر تدريب شباب الصحفيين تدريبا راقيا».
مقدمة
لا يخفي عن أي منا أن المبادرة لتأسيس جريدة يومية لليسار قد وضعتنا أمام تحدي هائل يبدو للوهلة الأولى متجاوزا بمراحل عدة لإمكانيات اليسار ولحقائق الواقع السياسي والثقافي الراهن في بلادنا.
ولكن يبدو أن حجم التحدي يقابله حجم الحماس والإلهام الذي سري في صفوف مجموعة مؤسسة واسعة تشكل في الحقيقة ظاهرة فريدة وبالغة الجدة في تاريخ اليسار المصري منذ السبعينيات. ما يهمني التأكيد عليه في هذه المقدمة الموجزة هو أننا بصدد مسعى جديد تماما على كل خبراتنا السابقة. ينطوي ضمنا على مفهوم لليسار أكثر ديمقراطية بمراحل عما عهدناه من قبل.
والتحدي الأول هو أن ننسجم في تجسيدنا لهذا المفهوم وتعبيرنا عنه. المجموعة المؤسسة (وسيجري المزيد من توسيعها) لا تنتمي إلى “خط سياسي واحد”. وليست معنية ببرنامج سياسي موحد سواء في حده الأدنى أو الأقصى. وهي ليست بكل تأكيد جماعة أيديولوجية بالمعنى الضيق للعبارة، تنطلق من منظور واحد ومتسق للعالم وللواقع المصري والعربي. ما يجمعنا في المحل الأول هو مجموعة من القيم والمثل والمبادئ والرؤى شديدة العمومية. هي تلك التي شكلت خلال قرنين ماضيين من الزمان الإطار الأشمل لعدد حافل وشديد التنوع من النضالات والمنتجات الفكرية والسياسية والثقافية. تنتمي رغم كل ما فيها من اختلاف وتنوع ونجاحات وإخفاقات إلى ذلك التيار العريض في الفكر الإنساني الحديث الذي اصطلح على تسميته باليسار.
وبشكل أخص ينطوي تجمعنا حول هذه المبادرة على إدراك مشترك بأن اليسار بمعناه الواسع هذا يمتلك بديلا محتملا للواقع السائد في بلادنا سياسيا وفكريا وثقافيا. بل وتعكس جسارة المبادرة وما ارتبط بها من الهام هذا الجمع الفريد من أبناء حركة اليسار للمجازفة والتوحد. هو مشروع بكل طموح مشروع الجريدة اليومية. تعكس شعورا مشتركا بالالحاج البالغ لطرح ذلك البديل على المجتمع المصري والعربي والعمل على بلورته بأوسع شكل ممكن. وهو ما يعكس بدوره إدراكا مشتركا لبؤس وقتامة الوضع الراهن ورفضا مشتركا للبدائل المطروحة عليه.
أهم ما أرغب في التأكيد عليه هذا هو أن هذه المشتركات بكل عموميتها هي مصدر قوة وليس ضعف. تغنى ولا تفقر وتقدم في نهاية المطاف سبيلا لإعادة صياغة معنى اليسار ونوع البديل الذي يقدمه. وأول ما يقتضي هذا الإدراك منا هو التحلي بهذه الروح الديمقراطية إلى أقصى حد واحترام ما بيننا من تنوع وتبايانات ليس حفاظا على وحدة حد أدنى بليدة تخاذلنا جميعا. إلى أفقر قاسم مشترك أعظم ولكن لأن مشروعنا نفسه هو مشروع يقوم على التنوع والتباين والتعدد في الرؤى والمصالح.
ومن هذا المنطلق وحده أقدم هذه الورقة، ليس بهدف إدارة خلاف ولكن بهدف إبراز تنوع.
الورقة تنقسم إلى قسمين أساسيين، القسم الأول يطرح بعض مما أتصوره جوهري في تشخيص حالة وواجبات اليسار في المرحلة الحالية. ولعلي أوضح من البداية أن ليس ثمة رابطة مباشرة بين هذا القسم وبين مشروع الجريدة. قمت بكتابته اهتداء بالمقدمة السياسية العامة المتضمنة في ورقة الزميل والصديق محمد السيد سعيد. وذلك بهدف توضيح أن التوحد على المشروع وعلي الرؤى العامة التي يعكسها لا يتطلب أو يفترض توحد تام في المنطلقات.
ولا شك في أن التباين بين رؤيتي ورؤية الزميل محمد السيد سعيد ليس هو المظهر الوحيد للتباين فيما بيننا جميعا في هذا الميدان. بل ولعلي أرجح أن التباينات بيننا تكاد تساوي عددنا. ومن ثم فلست أطرح هذا القسم كموضوع للنقاش فيما يتعلق بمشروع الجريدة. ويمكن لمن لا يرغب أن يتخطاه تماما ويكتفي بالاطلاع على القسم الثاني. القسم الثاني يعني مباشرة بمشروع الجريدة، وهو بدوره ينقسم إلى قسمين أساسيين:
الأول يتضمن عرضا للأهداف والمبادئ العامة والثاني يستعرض ما اعتقده ملامح أساسية لسياسة التحرير واعتبارات جوهرية أدعو إلى مراعاتها في صياغتها. القسم المتعلق بالأهداف والمبادئ يتطابق في الكثير منه مع ورد في ورقة الزميل محمد السيد سعيد. والقراءة المدققة لما ورد عنده وعندي بهذا الشأن تكشف عن مساحة كبيرة لتوافق عام أعتقد أنه يعكس توافقا عاما بيننا جميعا. وقد قمت مع ذلك بكتابة هذا القسم بهدف تبيان أن التوافق ليس تطابقا،.وأنه يمكن ويجب أن ينطوي على مساحات للتمايز والتنوع والاختلاف في الأولويات والصياغات المفهومية.
القسم الأخير المتعلق بالاعتبارات والملامح الأساسية لسياسة التحرير هو القسم الذي أدعو للنقاش الموسع حوله فيما بيننا وبين الطاقم الأساسي للجريدة حال تحقيق تقدم في تشكيله. بل واستطلاع آراء خبرات من خارج المجموعة المؤسسة. ويهمني هنا أن أؤكد مزيدا من التأكيد على أن الهدف من هذا النقاش ليس إدارة خلاف. وإنما إغناء تصوراتنا في هذا المجال إلى أقصى حد ممكن. بعض الزملاء طرحوا ما بيني وبين الزميل محمد السيد سعيد في هذا المجال باعتباره يعكس خلافا سياسيا. وهذا من وجهة نظري بعيد كل البعد عن الحقيقة. ليس لأنه ليست هناك تباينات واختلافات فكرية وسياسية بيني وبين الزميل محمد، بل وبين أكثرنا، وبعضنا البعض. ولكن لقناعتي التامة والعميقة ليس فقط بأن مشروع الجريدة يسمح تماما بهذه الاختلافات والتباينات بل بأنها، كما قلت أعلاه، مصدر قوته وثراءه.
القسم الأول: منطلقات ومنظورات سياسية
ليس هذا مجال نقاش واقع ومهمات اليسار المصري في اللحظة الراهنة. ولكن في ضوء الورقة المفهومية المقدمة من الزميل والصديق محمد السيد سعيد والتي طرح فيها عددا من التصورات حول وضع وواجبات اليسار المصري. ربما يكون مفيدا أن أعرض بإيجاز وتكثيف قد يكون مخلا إلى حد ما لبعض مما أعتقده جوهريا في تشخيص حالة اليسار المصري اليوم، ولما أتصوره ملامح عامة للتوجه نحو صياغة وبلورة تيارا يساريا ديمقراطيا محتملا وكامنا في معطيات واقعه الحالي. وإن لم يكن موجودا بالفعل بعد، وذلك في النقاط التالية:
اليسار المصري (والعربي بوجه عام) يواجه منذ سنوات حالة من الاستقطاب الحاد ما بين النزعة الليبرالية من جهة والنزعة القومية الإسلامية من جهة أخرى. وذلك في ظل ظروف انحدار متواصل وبعيد المدى للتيار القومي وصلت به إلى تقارب عميق مع التيار الإسلامي الصاعد. وجعلت في الوقت نفسه من التيار الإسلامي بمثابة الوريث الأول للميراث القومي المعادي للاستعمار في المنطقة العربية. وقد وصل بنا هذا الاستقطاب إلى وضع يصعب فيه التعرف على خطاب يساري متميز (فكرا أو ممارسة) عن التيارين الرئيسيين. بعد أن تمكنا من ترسیم حدود صارمة للنقاش الفكري والسياسي العام يلقي بكل ما هو خارجها إلى هامش مهمل ومهمش وغير منظور.
- وصلت بنا عملية الاستقطاب الممتدة هذه إلى وضع لم يعد يصح فيه الحديث عن بديل يساري للتيارين الرئيسيين وإنما عن أجنحة يسارية الطابع لكليهما. ومن الناحية الجوهرية يمكن القول بأن طغيان الاستقطاب بين التيارين الرئيسيين قد نجح في تهميش كل ما هو خارجهما مفقودا اليسار لسانه الخاص. بعد أن أصبح يتحدث أساسا بلسانين أحدهما ليبرالي والآخر قومي إسلامي. وذلك وفقا للاستقطاب في صفوفه بين يسار راديكالي “قومي النزعة ويسار “معتدل” ليبرالي الميول. بل ووفقا للقضية موضوع النقاش والممارسة في لحظة معينة. ليتحدث اليساريون أنفسهم بلسان قومي إسلامي أحيانا حين يتعلق الأمر بفلسطين أو العراق علي سبيل المثال). وبلسان ليبرالي أحيانا أخرى (حين تكون القضية المطروحة هي المطالب الديمقراطية مثلا).
- أسباب هذه الظاهرة متعددة وحافلة بالتعقيد، وتعود في رأي أساسا إلى واقع السخونة الاستثنائية وشديدة الخصوصية للمسألة الوطنية في المنطقة العربية. وهي التي تعود بدورها للحقائق الجيوبولوتيكية للمنطقة: جيرتها لأوروبا، قربها من حدود الاتحاد السوفيتي ومعسكره “الاشتراكي”. قبواعها علي بحر من النفط يشكل القسم الأكبر من احتياطية العالمي. وفي المحل الأول، وفي علاقة وثيقة بكل السابق واقع تأسيس دولة إسرائيل كمشروع استيطان كولونيالي في مفارقة تاريخية كبرى. حيث صاحب تأسيس تلك الدولة الغربية ثقافة وتنظيما وتسليحا مرحلة ما بعد الاستعمار في العالم الثالث. أي مرحلة تشكل ونضج القوميات المستعمرة وتأسيسها لدولها القومية المستقلة. وقد وضع تأسيس وتوسع دولة إسرائيل في قلب المنطقة العربية (وعلى حدود أكثر دولها القومية تطورا وأكبرها من حيث تعدادها السكاني) مختلف العمليات التاريخية التالية على سطح شديد السخونة. ليعيد إنتاج حمية المشاعر الوطنية المعادية للغرب الاستعماري في عصر ما بعد الاستعمار. وليضفي بعدا راديكاليا استثنائيا على البرجوازيات العربية الصاعدة. شكلت مصر الناصرية نموذجه الأبرز، وليتشابك مع جملة من العناصر الأيديولوجية والواقعية، التاريخية والراهنة. ليفرض طغيانا هائلا واستثنائيا للنزعة القومية، وليعيد إنتاج مشاعر المهانة القومية بصورة موسعة ومتواصلة. وليطرح إشكالية العلاقة بالغرب في الماضي والحاضر باعتبارها الإشكالية الكبرى الثابتة المطروحة على كافة المدارس والتيارات الفكرية والسياسية العربية. وكل ذلك على حساب الاجتماعي والطبقي، وبطبيعة الحال، على حساب النضال الديمقراطي، وجوهره الاعتراف بالصراع داخل المجتمع الواحد وبتنوع وتعدد وتناقض المصالح بين أطرافه المختلفة. فيبقي التهديد الخارجي وسبل مواجهته هو المحور الرئيسي لتنافس القوى السياسية والتيارات الفكرية في المنطقة العربية. وتبقي المهانة القومية مصدرا متجددا للوهم ولإنتاج ولإعادة إنتاج المدارس الفكرية والسياسية الاستبدادية. ولبحث عبثي عن مخلص قومي أو ديني يزيل الإهانة ويستعيد الأمجاد الغابرة. وقد ارتبط السابق بالضعف البالغ للتنمية الرأسمالية الحديثة في مصر والمنطقة العربية واستفحال طابعها الريعي. خاصة بعد القفزة في أسعار النفط في السبعينيات، وهي التي عكست نفسها في ضعف الوجود المادي الطبقة العاملة والطبقات الكادحة بوجه عام والدفع بها إلى مواقع متقهقرة بصورة متزايدة. وذلك في ظل نكوص فادح لليسار في مصر بوجه خاص الذي استنكف عن التحالف الوثيق مع تلك الفئات الاجتماعية وعن دعم معاركها الدفاعية والارتباط بها ومساعدتها على تطوير وبلورة حركتها تنظيميا وسياسيا (وهو ما كان من شأنه أن يعيد خلق المجال السياسي وأن يضع الأساس الجوهري للنضال الديمقراطي). حيث انصب تركيز اليسار علي الكارثة الوطنية المحدقة وعلي مقاومة متزايدة الضعف والوهن للحلول الاستسلامية”. منتقلا من مواقع تجاوز مرحلة الصعود القومي التي احتلها بعد هزيمة 67 إلى مواقع الدفاع اليائس عن منجزاتها الوطنية. ومتناسيا لحقيقة أن الإنجاز الأهم لتلك المرحلة ولأنظمة الاستبداد الشعبوي التي ارتبطت بها تمثل تحديدا في ذلك القدر من العدالة الاجتماعية التي كانت الفئات الاجتماعية الكادحة بصدد الدفاع المستميت عنه.
- كما ارتبط السابق كله أيضا في علاقة تبادلية بين السبب والنتيجة بتراجع متواصل (شمل الربع قرن الأخير) للمجال السياسي بأسره، حتى كاد يندثر تماما. وفي غياب السياسة- وهي في الدولة الحديثة المجال الجوهري تماما لممارسة الناس لحقهم في تقرير مصيرهم لا يبقي غير الأيديولوجيا. كما أن الأيديولوجيا في غياب السياسة ليست أكثر من دين. فيختزل الصراع السياسي في المجتمع إلى صراعات عقائد بين شيع متنافسة وينزوي النقد لتسود دينامية الكفر والإيمان (هذا يعيد اكتشاف أصالته الدينية والحضارية وذاك يتفتح علي روعة الديمقراطية الليبرالية الغربية. وكل تلك الصراعات والإشراقات محدودة بالحدود الصارمة لدائرة محدودة، متناقصة لسنوات طوال ومتزايدة إلى حد ما مؤخرا، من مثقفي، أو بعبارة أخرى، أفندية الطبقة الوسطى).
- كل هذا في إطار الصعود المتواصل والمطرد للنزعة الدينية الرجعية والمحافظة. وقد باتت تشكل الوجه الأساسي للبنية الأيديولوجية السائدة في البلاد بلا منازع. هذا من جهة، ولحركة الإسلام السياسي بتياراتها المختلفة من جهة أخرى. وكل منهما وجد في طغيان القومي على حساب الاجتماعي والاقتصاد الربعي على حساب الاقتصاد الإنتاجي. وفي هيمنة العقائد على حساب السياسة وفي اضمحلال المجال السياسي والصيرورة الكؤود لنظم الاستبداد المتحللة. وغياب أي تحد جدي من تيار ديمقراطي حقيقي بأي معنى من المعاني. وجدا في كل ذلك التربة الخصبة تماما والملاءمة قهرا لنمو متواصل وهيمنة دائمة التوسع والتعميق. ليشكل الإسلام المحافظ أيديولوجيا وسياسيا إطارا طاغيا لكل من التكيف مع العولمة الرأسمالية في موجتها المحدثة، والتمرد العقيم وفاقد الاتجاه عليها في الوقت نفسه.
- ويتوافق السابق ويتشابك مع مرحلة تاريخية وجد فيها المشروع الإمبراطوري الأمريكي في مطلع القرن الواحد والعشرين في العرب والمسلمين. وفي ظروفهم آنفة الذكر ضالة ملاءمة وطيعة وشديدة التجاوب لإعلان حرب حضارات مستمرة ومستعرة أيديولوجية وسياسية وعسكرية. لا تستهدف الإسلام والمسلمين كما يتصورون وإنما تستهدف تعميق الطابع العسكري للعولمة الرأسمالية في موجتها الراهنة (الميزة النسبية للولايات المتحدة بلا منازع وتوطيد صعود اليمين الأمريكي داخليا. وتكريس وضمان استدامة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية عالميا. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية صعود صدام الحضارات ليشكل إطارا مفهوميا وايديولجيا طاغيا. لإدراك كل من “الغرب” و “العالم الإسلامي” لبعضهما البعض يعضد كل منهما الآخر. وهو ما دفع بصعود النزعة الإسلامية المحافظة والشوفينية دفعات كبرى إلى أمام أيديولوجيا وسياسيا. ليسهم بدوره في عملية إعادة صياغة وعي وهوية الشعوب العربية والإسلامية على أرض التمسك بهويتهم الدينية المفترضة والمهددة ظاهريا.
- وصلت هذه التطورات بالواقع الفكري والسياسي في المنطقة العربية إلى حال من التردي يمكن وصفه بعصر الخيارات الرديئة: بوش أم صدام، القبول “الواقعي” بالاحتلال الأمريكي للعراق أو التأييد غير المشروط لما يسمي بالمقاومة العراقية. بما تشمله من حروب طائفية ومن جزارة متوحشة. التخلي عن الأهداف التحريرية للنضال الوطني للشعب الفلسطيني. أو التغني بتاكتيات حماس والجهاد الانتحارية والمدمرة والقبول بالهيمنة الأيديولوجية والسياسية للحركة الإسلامية في فلسطين. بل وفي أنحاء المنطقة العربية الدفاع عن الهمجية المخابراتية والعسكرية للنظام السوري. في إيمان بزريعة عدم فتح الطريق للسيطرة الأمريكية على مقاديره والحفاظ على عروبته. فضلا عن التواطؤ على مذابح النظام السوداني في دارفور والدفاع عن واحد من أقبح النظم العربية وأشدها قهرا. تحت غطاء الحذر من فتح الطريق مرة أخرى أمام التدخل الإمبريالي والاختراق الصهيوني. والتواطؤ مع حمى الكراهية المتصاعدة للأقباط في مصر ومختلف صنوف اضطهاد الأقلية القبطية والتمييز ضدها. أيضا تحت دعوى حماية الوحدة الوطنية وصد المحاولات المتصورة للاختراق الإمبريالي الصهيوني. وأخيرا وليس آخرا ذلك الاختيار التعس ما بين الحزب الوطني والإخوان المسلمون.
- عكست حالة الاستقطاب المقيتة هذه نفسها على المستوى الفكري في تحلل العناصر الرئيسية المميزة للخطاب والمشروع اليساري وانفراط عقدها توزعا ما بين الملاحق اليسارية للخطابين الكبيرين المهيمنين. فتتحول عقلانية اليسار إلى نزعة واقعية انهزامية وروحه العملية إلى براجماتية وانتهازية سافرة. تلك التي يستأثر بها الليبراليون الجدد ومريدوهما من بين اليسار. وذلك في نفس الوقت الذي تنحط فيه المبادئ ليعاد صياغتها كديماجوجية جوفاء ورطانة فارغة وتبع أوهام لا ينضب. وهو الملامح المميزة لخطاب القابضون على الثوابت من قوميين وإسلاميين ويساريين من ذوي الهوى القومي الإسلامي. علمانية اليسار ونزوعه الإنساني والأممي تتحول إلى نزعة حداثية ساذجة تبشر بمزايا العولمة وتتغني بروعة الديمقراطية الليبرالية الغربية. في حين تندمج راديكاليته تجاه قضايا التحرر الوطني في نزعة شوفينية قومية ودينية مهووسة وكارهة للبشر. فيعدو العداء للإمبريالية عداء الغرب، ورفض الخضوع الواقعي للقهر الاستعماري رفضا للمعرفة وللثقافة الإنسانية وتمسكا بالجهل والتخلف والدروشة الدينية. ويستبدل النضال بالانتقام، والتحرر بالانتحار، والصراع الاجتماعي بشد حزام عفة على جسد الأمة الواحد حماية له من الاختراق الأجنبي.
- القضايا الوطنية للشعوب العربية صارت حكرا لكل من خطاب قومي متحلل ومتدهور ومتزايد الانحطاط. وخطاب إسلامي صاعد أعاد صياغة ميراث التحرر الوطني والعداء للاستعمار لدى الشعوب العربية. في صورة صراعات حضارات واديان وهويات وكلاهما لا يقدم طريقا للتحرر .وإنما ديماجوجية عقيمة وطنطنة فارغة ومغامرات تافهة ونزعات انتقامية وانتحارية مدمرة. وتمجيد للموت على حساب الحياة وللأمة (عربية كانت أم إسلامية) على حساب البشر. لتصبح القضايا الوطنية للشعوب العربية موضوعا للتوظيف في صراعات الهيمنة الداخلية وللفشل والهزائم المتواصلة في مواجهة الإمبريالية ودولة إسرائيل.
- النضال الديمقراطي في مصر والمنطقة العربية مثله في ذلك مثل النضال حول القضايا الوطنية محاصر بالعقم والفشل من كل جانب. ولا يسعنا غير أن نلاحظ أن الطبقات الشعبية وجماهير الفقراء (من النظام السلطوي الإسلامي في إيران وحتى النظام نصف الديمقراطي نصف العلماني في المغرب) تبدو غير معنية بقضية الديمقراطية والحريات العامة. إذ تظل تلك منحصرة في المحل الأول في صفوف أقسام من الطبقة الوسطى وفئاتها المثقفة بشكل خاص. الفقراء أما يقفون خارج الحلبة السياسية أو يدعمون قوي الإسلام السياسي. وتلك لا تقدم لهم وعدا أو واقعا- غير سلطوية شعبوية لا تقل استبدادا ووطأة وقهرا عن نظم الاستبداد الشعبوي القومية. بل وتزيد عنها في محاصرة وتجريم الفكر والفن والثقافة والحرية الشخصية. وفي قهرها للأقليات الدينية والاثنية، وفي نفيها لكل ملمح عالمي وإنساني للأيديولوجية السائدة في عهد الصعود القومي (خاصة في طبعتها الناصرية). ولا تقدم لهم غير فتات الوعود بضرب الفساد وتوزيع أكثر عدالة للعطايا. لا من خلال تعاقد اجتماعي ضمني كذلك الذي شهدناه في مرحلة الصعود القومي انطوى وبالضرورة ورغم الاستبداد السياسي على مستوى معين من نفاذ الكادحين للدولة وتحقيقهم لنفوذ ما عليها. ولكن من خلال تكريس السلطة الأبوية كلية الجبروت للدول الدينية. حيث لا يعود الكادحون أصحاب حق في الثروة التي يخلقونها ولكن متلقي حسنات وزكاة.
- والحقيقة أن مستقبل التطور الديمقراطي في مصر والبلاد العربية يتوقف على اليسار. ننسي أن الديمقراطية (وفي مقدمتها الديمقراطية الغربية) هي في المحل الأول صناعة يسارية. وأن حق الاقتراع العام لم يمنح من قبل البرجوازية الليبرالية بفضل ثقافتها الديمقراطية المفترضة. وإنما انتزعته الطبقة العاملة الأوروبية انتزاعا في إطار نضالها من أجل الاشتراكية. وذلك في زمن كانت الحركة الديمقراطية فيه مرادفة للحركة اليسارية والعمالية. وفي حين نرنو بأبصارنا للثورات البرتقالية في شرق أوروبا ونسعى لمحاكاتها نتجاهل التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا. وهو الذي يقوم أول ما يقوم على حركات اجتماعية شديدة التنوع والثراء. لم تنبثق بين عشية وضحاها في مظاهرة تنقلها عدسات السي إن إن. وإنما بنيت لبنة فلبنة من خلال نضالات يومية حافلة، لم يكن لعدسات شبكات تليفزيونية عالمية أن تكترث بالتقاتها. ولكن خاضتها فئات اجتماعية متعددة على عشرات بل ومئات الأصعدة وعملت الجماعات اليسارية على دعمها ومساعدتها على اكتساب المعرفة والوعي والخبرة التنظيمية. الفئات والطبقات الشعبية والكادحة في مصر والعالم العربي غير معنية بالنضال الديمقراطي القائم لأنه ببساطة غير معني بها. ولعل الخبرة قد بينت أن خيار الثورات البرتقالية غير مطروح عندنا. فدون نضال ديمقراطي اجتماعي الجوهر والمحتوى منذ اللحظة الأولى لن يكتب لنا التمتع بديمقراطية من أي نوع. لا ليبرالية ولا حتى برتقالية.
ليست الصورة القاتمة التي رسمتها في النقاط السابقة بدعوة للقنوط أو الإحباط. وإنما هي محاولة لعرض بعض مما اعتقده جوهريا في إدراك حجم ونوع التحدي الذي نواجهه. ومن ثم في تبيان وتعيين بعض من واجباتنا إزائها. كما أنني لا افترض قط أو أطلب الاتفاق مع ما طرحته من آراء وتصورات في إطار تأسيس جريدة يومية لليسار. بعض ما طرحت يتقاطع مع ما طرحه الزميل محمد السيد سعيد. وبعضه يتباين عنه وبعضه في خلاف معه. ولكنني مقتنع تمام الاقتناع بأن مشروعنا المشترك يسمح بذلك النوع من التعدد والتنوع في الأفكار والرؤى ويتطلبها.
وأغلب الظن أن التباينات بين مؤسسي الجريدة والمرشحين للعمل فيها تساوي عددهم. وليس في هذا ما يضيرنا بل يمكن وينبغي له أن يكون أرضية لإثراء الجريدة وحركة اليسار بوجه عام ما ينبغي أن نتوصل إلى توافق عام حوله. حتى ولو اختلفنا بعض الاختلاف حول الصياغات وترتيب الأولويات. هو الأهداف الرئيسية للجريدة اليومية والمبادئ الأساسية التي تحكم سياسة تحريرها. فضلا عن تصورات عامة حول سياسة التحرير وطرائق العمل. مع التأكيد على أن بلورة الأخيرة تتوقف في جانب جوهري منها على استكمال الطاقم التحريري الأساسي. وفي جانب آخر لا يقل أهمية على ما تقدمه الممارسة الفعلية لإصدارها من تجربة من شأنها بطبيعة الحال أن تضفي عليها التعديلات تلو التعديلات.
اقرأ أيضا:
هالة شكر الله تكتب: أخي العنيد، الصامت، المتأمل
أميرة هويدي تكتب: مديري هاني شكر الله
باسل رمسيس يكتب: هاني شكر الله بين لحظتين
رندا شعث تكتب: كانت فلسطين دائما في قلبه
خالد جويلى يكتب: طرف من خبر بدايات «هاني»
نادر أندراوس يكتب: «النقد اللاذع لكل ما هو موجود».. الماركسية الممتعة لدى هاني شكر الله
عزة كامل تكتب: 7 مشاهد من حياة هاني شكر الله
أكرم ألفي يكتب: السير على الخط الرفيع
كمال عباس يكتب: أسئلة معلقة إلى «هاني»