وثائق نادرة تحكي قصة تخصيص 350 فدانا وهبهم الوالي لسيدي عبدالرحيم
كيف جدده الأمير همام؟.. وهذا هو موقعه الأصلي بعد أن أزاله الملك فاروق
محمد علي يبني غرفة فوق قبره.. واحتفالات مولده كانت “الأغرب”
“مدد يا قناوي مدد” هذه الكلمة ترددها الألسنة حول مقام “قطب الأقطاب” سيدي عبدالرحيم القناوي، والأبصار معلقة، والقلوب تهفو، والأذكار حول المقام لا تكاد تنقطع.
“الدنيا كلها ظلمة ليس فيها طريق إلا العلم” كانت هذه هي مقولته التي تبرر نزعته للترحال شرقا وغربا بحثا عن العلم، فجاب القفار ونزل المدن، حتى بلغ دمشق وعمره 18 عاما، ومكث بها عامان، لتمتزج بداخله ثقافة المشرق والمغرب العربي، وكأنه يعد روحه ليسكن مصر.
عبدالرحيم القناوي، كما يعرفه الأدفوي صاحب “الطالع السعيد” هو عبدالرحيم بن أحمد بن حجون بن محمد بن جعفر بن إسماعيل بن جعفر الذكي بن محمد المأمون بن أبي الحسن علي بن الحسين بن علي بن محمد الديباج بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين.
في “ترغاي” أحد أقاليم سبتة بالغرب كانت ولادته عام 521، في مدينة ترغاي، بإقليم سبتة في المغرب، سنة 521 هجرية، وبعد أن أتقن القرآن حفظًا وتلاوة على يد والده وهو لم يتخط الثامنة من عمره، اعتلى منبر الجامع خمس سنوات، قبل أن تناديه مكة ليشد الرحال إلى البيت العتيق.
قطب الأقطاب في قنا
نزل العارف بالله عبدالرحيم إلى قنا وصحب الشيخ مجدالدين القشيري، الذي كان إماما للمسجد العمري بقوص، وكانت له مكانته المرموقة بين تلاميذه ومريديه، لكنه لم يرغب البقاء في قوص، وفضل الانتقال لمدينة قنا، وبلغ وعلم العديد من العلوم لمن حوله ولتلاميذه، فقد كانت له مدرسة في علوم الفقه على مذهب الإمام مالك، علاوة على علم التفسير والحديث.
لم يعتمد هذا الزاهد على العلم في طلب الرزق، بل عمل في تجارة الحبوب والأقمشة وغيرها؛ ليكتسب منها ما يعينه على الحياة فجمع بين العلم والعمل والعبادة.
ضياء قللي العنقاوي، باحث ومؤرخ إسلامي، يحكي عن تاريخ مسجد سيدي عبدالرحيم، ومظاهر الاحتفال التي كانت تقام سنويا حتى أوقفت بقرار أمني عام 1962، قائلا إن المسجد الحالي ليس المسجد الأصلي للعارف بالله، فقد تغير موقعه بعد قرار من الملك فاروق بإزالته وتجديده، ولكن كان مكانه الأصلي في المكان الحالي لمسجد القرشي.
وفي عام 1171هـ، و1757 م، جدد مسجد سيدي عبدالرحيم، فازدات مساحته إلى 26 مترا طولا، و19 عرضا، وأنشئت له دورة مياه كبيرة، واستحدثت له أبواب واسعة وأخشاب في أعلاه، وكانت له مقصورة خشبية حول الضريح نقلت فيما بعد إلى ضريح العارف بالله الشيخ الصباغ والمنفلوطي، شرق قبر سيدي عبدالرحيم.
الأمير همام يجدد المسجد
ويقول المؤرخ الإسلامي، إن الأمير همام بن يوسف، جدد المسجد وفرشه بـ15 سجادة عجمي و7 نجفات كبيرة من البلور، كما اشتمل المسجد على 30 مصحفا مذهبا، و60 مجلدا في الفقه والمنطق والتوحيد.
وتكشف صور الحملة الفرنسية التي رسمها أحد رسامي الحملة عن المسجد الأصلي وحجمه الصغير وساحته الواسعة التي تعج بالأشجار وحركة المارة.
وفي عام 1233 هـ، 1818 م، جدد محمد بك الدفتردار، وزير المالية، مسجد سيدي عبدالرحيم واقف وعليه أوقاف لتدير دخلا للمسجد، ثم قام محمد علي باشا، والي مصر ببناء غرفة فوق قبر العارف بالله، وفي عام 1368 هـ، 1948 م، أزال الملك فاروق المسجد وبناه على الطراز الحديث.
وتكشف وثيقة تاريخية، صادرة من محكمة قنا الشرعية وقاضيها محمد أفندي الناظر، يعود تاريخها إلى 1723م- 1136هـ، عن حجة وقف محفوظ لصالح مسجد سيدي عبدالرحيم، أوقفه الأمير علي بن سليمان الهواري، بموجبها أوقف 350 فدانًا من الأراضي الزراعية منها 140 فدانا بقرية قمولا بمركز نقادة الحالي، و80 بقرية بهجورة بمركز نجع حمادي، و50 بقرية فاو بمركز دشنا، و80 بقرية الطوايرات غرب مدينة قنا.
كما أوقف واحدة من حدائق ترعة الشنهورية ومساحتها 35 فدانا بسواقيها السبع للصرف على ريع المسجد.
فيما أوقف محمد بك الدفتردار في سنة 1818 م حمام شعبي بكامل مساحته كان مقاما بمنطقة المنشية إلى أن قامت مديرية الأوقاف بهدمه وبناء عمارات سكنية وتجارية عليه.
موكب النقيب
ويروي العنقاوي، مظاهر الاحتفالات بمولد سيدي عبدالرحيم خلال الخمسينيات والأربعينيات وما قبليهما حتى توقفت في أوائل الستينيات، يقول: كان خروج موكب النقيب هو مظهر أساسي في الاحتفالات، فيبدأ نقيب سيدي عبدالرحيم، وهو شخص ينتمي لأسرة بيت النقيب، في الخروج من منزله بالحصان ويصحبه عمدة قنا وعمدة قرى الأشراف الشرقية، تتقدمهم فرق موسيقى الشرطة.
يتابع أن الموكب كان يتقدمه ساريين على اليمين والشمال، بطول 3 أمتار مزودين بالحطب ومشتعلين بالنيران، وكلما هدأت النيران أنزل الساري إلى أسفل ليسكب أحد المصطفين بسكب البنزين عليه، ليشتعل مرة أخرى وسط هتافات الله أكبر وزغاريد السيدات في الشبابيك.
كان الموكب يمر من بيت النقيب النقيب إلى ميدان سيدي عبدالرحيم، ويصطف الناس جميعا من أول بيت النقيب إلى الميدان، في حين يكرر هذا الموكب يوميا حتى الليلة الختامية في النصف من شعبان.
التوب
في الليلة الأخيرة، يخرج إلى المحبين والمريدين التوب، وهي كسوة الضريح تخرج محملة على هودج على ظهر جمل، وتكون الكسوة مطرزة بالفضة والذهب، ويكتب عليها آيات من القرآن والأدعية واسم صاحب المقام بالحرير، وتسير في المقدمة لتخرج خلفها كسوة معظم أولياء الله الصالحين في مدينة قنا بنفس الشكل، في احتفالية يتقدمها فرسان الخيالة والهجانة في زيهم الرسمي حاملين الكرابيج والسيوف، بينما يسير في الموكب من ينوب عن الحكمدار بعض ضباط الجيش والشرطة، ليسير الموكب من ميدان النصارى حتى مسجد سيدي عبدالرحيم.
الاحتفال الأغرب
يحكي المؤرخ الإسلامي ضياء العنقاوي عن تلك الاحتفالية، ويصفها بالأغرب، فهي تشبه- بحسب وصفه- كرنفالات إيطاليا، حيث كان يتجمع أصحاب الحرف والمهن في زيهم الرسمي لكل حرفة حاملين أدوات العمل على جمال أو عربات “كارو”، مزينة بالخوص الأخضر، ليسيروا خلف الموكب وكل منهم يتباهى بحرفته ويبرزها للجمهور، وكان موكب الحرف يسير من ميدان سيدي عبدالرحيم إلى مديرية أمن قنا ليستقبلهم الحكمدار.
استمرت تلك المظاهر بشكل دوري حتى أوقفت لدواع أمنية، بعد نشوب خلافات قبلية أثناء الاحتفالات، صدر على إثرها قرار الوقف عام 1962.
سرادق الشعراء ومقاهي الحكائين
بمجرد حلول الأول من شعبان، كانت تضرب الخيام وتنصب سرادق الشعراء بميدان سيدي عبدالرحيم، ليلتقي الشعراء من كل المحافظات ويستعرضون شعرهم، فيما كانت تحتفل على الجانب الأخر الطرق الصوفية بفرق الإنشاد الديني والمدح.
وعلى بعد خطوات من المسجد ترى التجمعات الكبرى على المقاهي الشعبية، لأن هناك من يحكي السيرة الهلالية والقصص الشعبية وسيرة عنترة بن شداد وأدهم الشرقاوي وغيرها، فقد كانت المنطقة مسرحا لسيد الضوي وأبو حسين وغيرهم من رواة السيرة والحكايات الشعبية، يرون قصصهم بالربابة والناب ويتجمع حولهم مئات المحبين.
فتوة المولد
وحتى فترة ليست بالبعيدة، كان هناك حضور قوي لفتوة المولد، وهو شخص قوي أو صاحب نفوذ من أبناء المنطقة، يُستأجر بالمال أو على سبيل الوجاهة لحماية مسارح الغناء والراقصات التي انتشرت بقوة خلال الخمسينيات حتى وقت قريب.
ذرية سيدي عبدالرحيم
انتشرت ذرية سيدي عبدالرحيم بقنا ورحل منهم عدد كبير خارج المحافظة، وكانت لهم مكانة كبيرة بقنا، وتحكي مخطوطات أهلية تعود للنصف الأول من القرن الـ 12 هجريا، أن خلافا وقع بين أحفاد سيدي عبدالرحيم بقنا وأحفاد الشريف عنقا الحسني بقنا، على مشيخة البلد ونقابة الأشراف، وتروي المخطوطات كيف كان الاحترام في الاختلاف وسمو النفس، فقد احتكموا الطرفين إلى مشايخ المحافظة الذين أجروا قرعة بينهما انتهت إلى منح مشيخة قنا إلى الشيخ حسان محمد حسان العنقاوي، ونقابة الأشراف بقنا إلى ذرية السيد محمد مجد الدين حفيد سيدي عبدالرحيم القنائي، واستمرت نقابة الأشراف في ذريته حتى عهد قريب.
تلامذته وعلمه
كان لسيدي عبدالرحيم عدد كبير من التلاميذ، والذين ساروا علماء يهتدى بهم، ومنهم الشيخ أبي الحسن الصباغ المالكي المذهب، والمولود بقوص، الذي لقب بـ”شيخ الدهر بلا منازع”، لما له من علم غزير.
الشيخ أبو الحسن الصباغ كان يعمل بصباغة المنسوجات، وتزوج ابنة سيدي عبدالرحيم القنائي، وكذلك الشيخ علم الدين المنفلوطي، كان فقيها صالحا وله العديد من المؤلفات، والشيخ عبدالله القرشي الأندلسي.
4 تعليقات