“هوب” أول مستشفى عائم في العالم.. استقبلها 12 شخصًا وبقرة وودّعها 40 ألفا
“لم يكن هناك أكثر من 12 شخصا وبقرة هزيلة في استقبال السفينة “هوب” أول سفينة مستشفى في العالم وقت السلم عندما ألقت مراسيها في ميناء سلافيري الصغير ببيرو في مايو 1962.. ولكنها عندما أقلعت بعد ذلك بعشرة شهور، احتشد 40 ألف شخص على الشاطئ لوداعها هاتفين باكين، أو مشيدين في صمت بأطبائها وممرضاتها”.
بهذة الكلمات لخص الطبيب الأمريكي ويليام والش في كتابه “عودة اليانكي.. قصة هوب في بيرو” حكاية السفينة هوب، أول سفينة طبية في العالم.
ينشر “ولاد البلد” القصة المأخوذة عن الكتاب، والتي نشرتها مجلة المختار في عدد الصادر في فبراير 1967، تزامنًا مع استضافة نهر النيل لأول مستشفى عائم يقدم الخدمات الطبية بالمجان لأهالي مصر من أسوان إلى القاهرة ضمن أنشطة روتاري مصر بالتعاون مع وزارة الصحة.
أصل الحكاية
يقول دكتور والش إنه في عام 1958 عينه الرئيس الأمريكي إيزنهاور رئيسًا للجنة الطبية لبرنامج (من شعب إلى شعب)، وهو برنامج لا يستهدف الربح ويدعو لمشروعات المساعدات المتبادلة للمواطنين والمجتمعات الصغيرة في أنحاء العالم.
يتابع والش أنه كانت لديه في تلك الفترة فكرة إرسال سفينة مستشفى إلى المناطق المحرومة من الخدمات الطبية في العالم ، وكنت أعرف أن هناك الكثير من تلك المراكب عاطلة عن العمل، تقدمت بطلب إلى وزير الحربية توماس جيتس فوافق على الطلب وأقر الفكرة، وتم تخصيص السفينة الحربية (كونسليشن) والتي تبلغ حمولتها 15 ألف طن.
ويلمح والش أنه تم الاتفاق على تسمية المشروع والمركب بـ(هوب)، وهو اسم مشتق من الحروف الأولى لعبارة “فرص صحية للناس في كل مكان”، ملمحًا إلى أن التبرعات انهالت على المشروع من كل مكان، كما تم انتقاء الفريق الأول من المتطوعين للعمل كأطباء وممرضين، وفي أواخر عام 1960 بدأت هوب أولى رحلاتها قاصدة جنوب شرق آسيا.
ويلفت والش أن الرحلة الأولى كانت ناجحة بكل المقاييس، حيث عالجت في أندونيسيا وحدها 18 ألف شخص، وأجرت 700 عملية جراحية هامة، وعقدت 80 جلسة تعليمية، كما وزعت أكثر من 36 ألف كيلو من مسحوق اللبن، و2000 من الأطراف الصناعية، وفي فيتنام أنجزت هوب برنامجًا للتطعيم الشامل للأطفال لأول مرة في تاريخها بالإضافة إلى علاج 11 ألف مريض، ويوضح والش أن الرحلة الأولى لـ”هوب” استغرقت عامًا بعدها عادت إلى سان فرانسيسكو لإجراء إصلاحات.
إننا في حاجة إلى المساعدة
ويلمح والش أنه في أواخر عام 1961 حضر إلى مكتبه في مقر قيادة هوب صديقه (بيل ثومان) أحد ضباط الخدمة الخارجية في أمريكا اللاتينية، وكان في صحبته الدكتور (فرناندو كابسيس) وهو طبيب من بيرو درس الطب في أمريكا وذاعت شهرته كأحد أهم جراحي المخ بأمريكا، والذي استهل حديثه مع والش بقوله: “إننا في حاجة إلى المساعدة يا دكتور والش ونحتاج إليها الآن”.
يتابع والش: وشرح كابسيس مشكلات بيرو والتي هي انعكاس لمشكلات أمريكا اللاتينية من حالة الاضطراب السياسي وحوادث الشغب والمظاهرات، موضحًا أن الوضع الراهن جعل أغلبية الأطباء يمارسون عملهم فقط في العاصمة ليما، بينما باقي أقاليم الدولة محرومة تمامًا من الخدمات الطبية، وأشار كابسيس على والش أن يوجه رحلة إلى بيرو تهدف إلى إدخال الوسائل الطبية الحديثة من خلال تدريب الأطباء الجدد وتهدف أيضا إلى أن تكفل الرعاية الطبية للفقراء.
قبائل الانكا
ويلمح والش أنه في أوائل ديسمبر سافر لأول مرة إلى بيرو للتحضير لرحلة هوب الثانية، لافتًا أن بيرو تنقسم جغرافيا إلى ثلاثة أجزاء، الصحراء الساحلية والجبال والغابة: ثلاث ثقافات وثلاثة أجواء، ولكن مع شعب واحد هو قبال (الانكا).
ويوضح والش أنه اجتمع مع أساتذة كلية الطب الذين رحبوا بالفكرة، وأبدى بعضهم بعض التحفظ معتبرين أنها ربما تهدد ممارسة الأطباء في عيادتاهم الخاصة، ويشير والش أنه اقنع الجميع أن مشروع هوب لن ينافس أطباء بيرو بل سيعمل معهم وتحت إشرافهم، كما سيعمل على تدريب الطلبة والأطباء، وأسفر الاجتماع عن وضع تفاصيل المشروع في بيرو كما تم اختيار عدد من الأطباء كمنسقين للمشروع.
عودة هوب
وفي 9 من مايو 1962 ترفع السفينة هوب مرساها متجهة إلى بيرو، ويصف والش الرحلة التي بلغ طولها 6500 كيلو متر واستغرقت 12 يومًا بأنها لم تكن نزهة بحرية، فالسفينة هوب يبلغ طولها 161 مترًا واتساعها 22 مترًا وعمقها سبعة أسطح وبها 230 فراشًا للمرضى تعادل أكثر من 9300 متر مربع من مساحة المستشفى، ويعلق والش على ذلك بقوله: “كان إعداد السفينة لاستقبال المرضى أشبه بفتح مستشفى كبير على البر”.
عودوا لوطنكم
ويروي والش مشهد وصول هوب إلى ميناء سالافيري: “على الرغم من أن طاقم هوب قضى الليلة السابقة لوصوله إلى ميناء سالافيري في سعادة وثقة، إلا أن منظر الميناء حين اقتربت منه هوب في صباح اليوم التالي لم يكن باعثا على الاطمئنان، فالميناء مخصص لتصدير السكر وكانت الآلات الرافعة منهمكة في نقل الشحنات، وكان هناك 12 شخصًا وبقرة تبدو عليلة يقفون على الشاطئ ويحدقون في السفينة، وعندما ازدادت المدينة قربًا صوّب الدكتور (ارني سمولر) نظارته المكبرة على الجمع الصغير من الناس المنظرة على الشاط ، وفجأة انتفض وتصلب في وقفته، فقد كان أحد مستقبلينا يحمل في يده لافتة مكتوب عليها: (احترسوا، الأمريكيون تجار حرب، هاهم قد جاءوا في غلالات بيضاء كحمامة السلام.. احترسوا)”.
حالة متردية
وفي صباح اليوم التالي زار والش وطاقمه مستشفى بيلين العام، وكان في استقبالهم الدكتور فيناتي منسق الحملة في بيرو، ويلمح والش أنه أصيب بحالة من الإحباط واليأس بتدهور جميع مقومات الرعاية الصحية السليمة، ولم يكن هناك غرف تعقيم بل كانت تستخدم الطرق القديمة بالماء الساخن، وكانت أجهزة غسيل الثياب لا تعمل، بالإضافة إلى تكدس المرضى وقلة عدد الأسرة، ففي عنابر الأطفال مثلا كان من المعتاد أن تجد ثلاثة أطفال على سرير واحد، كما أن حضانات الأطفال المبتسرين كانت موضوعة في نفس غرف الالتهاب الرئوي والحمى الشوكية.
أول مريض
يستكمل والش أن هوب استقبلت أول مريض من بيرو في الليلة الثانية بعد رسوها، لافتًا أن عربة الإسعاف توقفت أمام الميناء حاملة حالة طارئة جراء حادث مروري، وبسرعة تم نقل الحالة إلى داخل هوب، يقول والش: “ذهلنا عندما اكتشفنا أنه صديقنا الدكتور فيناتي، لقد ظل يعمل منذ وصولنا ليلًا نهارًا في بحث خطط البعثة، وزيارة مرضاه، وبينما كان يقود سيارته نحو المدينة استغرق في النوم واصطدم بسيارته في سيارة نقل تقف في الطريق”.
وبحسب والش فقد أصيب فيناتي بإصابات بالغة في الوجه وأجريت له جراحة تجميلية دقيقة في أقل من نصف ساعة.
شبح الفشل
وفي اليوم التالي عُقد اجتماعًا لورود أول حالة إلى هوب، استعرض فيه ما تواجهه الحملة من مشاكل تهدد بتوقفها ومن أهمها الموقف المعادي تجاه أمريكا والذي انعكس في صورة لافتات تطالب برحيل هوب وفشلهم في توظيف ممرضات من بيرو، وأشار والش إلى أن قرار الانسحاب إلى أوروبا كان وشيكا، ووسط صمت الطاقم تقف الممرضة (فاكيما لافيرن) وهي ممرضة من سان فرانسيسكو، وتقول إن على الحملة أن تخرج إلى الأهالي في الأحياء الفقيرة، مشيرة إلى أنها زارت تلك الأحياء وصعقت من هول ما شاهدته من تواجد أكثر من 40 ألف شخص محشورين في أكواخ طينية دون أية مرافق صحية أو كهرباء أو مياه نظيفة، ويعاني جميع الأهالي من سوء تغذية واضح وانتشار الأمراض وخصوصا السل، لتصرخ: “يجب أن نساعد هؤلاء الناس يا دكتور والش”، يقول والش: “كانت حجتها قوية إلى حد أنني قررت أن أعطي مشروعها الأولوية التامة، واخترنا منطقة صغيرة من البيوت تضم حوالي 1200 شخص تسمى (أوتنيانو)”.
معركة السُّل
ويتابع والش كان جهاز الأشعة المتنقل الوحيد الموجود في مقر ضابط الصحة لا يعمل بسبب عدم وجود كهرباء، فقمنا بالتواصل مع مسؤولي البلدية وتم توصيل الكهرباء وبدأنا في عملية مسح شامل لسكان تلك المنطقة، لافتًا أنه طبقا لبيانات إدارة الصحة كانت نسبة المصابين بالسل في (اوتنيانو) 8% ولكن كانت نتائج المسح مذهلة لنكتشف أن النسبة تقترب من 35%، ليوضع جميع المصابين تحت العلاج الفوري والمباشر.
تفاعل شعبي
ويصف والش في مذكراته أن توجه هوب ناحية الأحياء الفقيرة كان له أثره الطيب في نفوس الأهالي من كسر للصورة الخاطئة حول أمريكا، كما ساهم في تفاعل الأهالي معها بشكل إيجابي، موردًا أن هوب تلقت طلبًا من أحد الطلاب الجامعيين في بيرو بإطعام حي فقير يسكنه حوالي 500 شخص ومهدد بوباء شلل الأطفال، فأرسلنا طبيبًا وممرضتين وتمت العملية بنجاح.
ويتابع الطبيب: كما قمنا بعد باستهداف حي (اسبرانزا) وهو من أكبر الأحياء الفقيرة ويسكنه أكثر من 15 ألف شخص معظمهم جاء من الجبال سعيًا وراء لقمة العيش ليجدوا أنفسهم منبوذين في أحياء الفقراء، ويلفت والش أنه تم افتتاح عيادة شاملة لتطعيم الأطفال ضد التيفود والسعال الديكي والتيتانوس وشلل الأطفال.
هوبي ..هوبي
ويروي والش تفاصيل يوم افتتاح عيادة اسبرانز فيقول:
” تكدست لافيرن وبربارا شونيك كبيرة الفنيين في المعمل وغيرها من رجالنا في سيارة أوتوبيس تحمل كل أنواع العتاد: كحول وأمصال وأدرنالين وإبر طبية، وبدؤوا الرحلة إلى المنطقة البائسة في تأثر باد، ولكن قلوبهم غاصت في أعماقهم عندما عرج السائق على أول شارع رملي في اسبرانزا فلم يكن هناك شخص واحد يبدو أمام عيونهم، وظلت الشوارع خالية كلما تقدمت السيارة، ثم عرجوا على الشارع الذي توجد فيه العيادة، وهناك بدا أن أهالي القرية كانوا ينتظرونهم على الطريق وما كادت السيارة تظهر حتى دوت أصوات هادرة وهتافات تصيح: هوبي! هوبي! هوبي!، ليهمس أحد الأطباء وهو يشق طريقه وسط الحشود: يا إلهي.. ماذا فعلنا حتى نستحق كل ذلك؟، وبكى الدكتور أرشي جولدن فعلًا وامتدت مئات الأذرع لتصافح رجال ونساء السفينة هوب”.
ويؤكد والش أنهم في ذلك اليوم طعموا آلاف الأطفال واستمر عملهم حتى ساعة متأخرة من الليل.
ثمار
ويوضح والش أنه اعتبارًا من منتصف يونيو 1962 تم فتح السفينة هوب تماما كمستشفى أرضي، لتستقبل هوب حالات متنوعة من المرضى، وخلال ساعات كانت جميع عنابر المستشفى قد امتلأت بالحالات التي شملت إجراء جراحات دقيقة في الشرايين.
ويشير والش أنه بالتوازي كانت البرامج التعليمية التي طرحتها الحملة بدأت تؤتي ثمارها من خلال تدريب عدد كبير من صغار الأطباء والممرضات على أساليب الطب الحديث، لتنجح الحملة في تخريج عشرات الأطباء والممرضات في زمن قصير وتستمر في تقديم الخدمات الطبية المتنوعة للأهالي حتى اقتراب موعد رحيلها.
وداع
وفي الليلة السابقة للرحيل، يقول والش، بدأت الجموع تحتشد على الشاطئ في مشهد كرنفالي شعبي اختلطت فيه نغمات الموسيقى مع زفرات البكاء، حضر الأهالي من كل حدب وصوب وعزفت الموسيقى وغنت الأغاني، وبحلول الليل كان هناك أكثر من عشرة آلاف شخص من أبناء بيرو على الشاطئ.
يتابع والش قائلًا: “وقبل موعد الإقلاع بساعتين كان العدد قد بلغ 40 ألف، وفجأة ساد سكون عجيب لم يكن يعكره إلا أصوات نحيب بين حين وآخر، وفي الساعة الثانية من بعد الظهر أطلق الكابتن هامر صفارة الوداع، وبدأت هوب تنساب خارجة من مرفأ سالافيري، بينما كانت الجماهير تلوح بأيديها مودعة دون أن يترك أحد مكانه حتى غابت هوب وراء الأفق”.
++++++++++++++++++++++++++++++
هوامش:
مجلة المختار- مؤسسة أخباراليوم- عدد فبراير 1967- صفحات 131 الى 152 (تلخيص) لكتاب (عودة اليانكي، قصة هوب في بيرو)- تاليف الدكتور ويليام والش (Yanqui, Come Back! The Story of Hope in Peru)
*جميع الصور الوارده في الموضوع ماخوذة من مجلة المختار عدد فبراير 1976
14 تعليقات