«نشأة المياه» و«تراث دار الضيافة».. آخر محاضرات أيام التراث السكندري
اختتمت فعاليات برنامج «أيام التراث السكندري» في دورته الـ15 بمحاضرتين استضافتهما مكتبة الإسكندرية حول «نشأة وتطور المياه العذبة بمدينة الإسكندرية» و«أبواب الإسكندرية المفتوحة: تطور تراث الضيافة»، بالإضافة إلى افتتاح معرض صور يوثق تطور كاتدرائية سانت كاترين بمناسبة مرور 175 عاما على إنشائها.
نشأة وتطور المياه
تحدث الدكتور محمد عادل الدسوقي، الأستاذ بالأكاديمية العربية البحرية في محاضرة نشأة وتطور المياه، قائلا: “قناة المحمودية كانت تغذي مدينة الإسكندرية بمياه الشرب. ولكن البداية كانت بفكرة إنشاء الصهاريج التي أُنشئت من مواد معاد تدويرها، ولم يكن هدفها جماليا على الإطلاق، بل كان الهدف منها إنشائيا في المقام الأول. حيث كانت الصهاريج تعتبر الحل لتوفير مياه الشرب في ذلك الوقت”.
وتابع: لكن بعد فترة من الزمن، اكتشف عيب خطير في الصهاريج، فهي كانت أماكن مغلقة والمياه فيها راكدة. مما جعلها وسيلة لنقل الأمراض في المدينة. وكان هذا دافعا كبيرا لحفر قناة المحمودية. ومع التغير الملحوظ لمدينة الإسكندرية في الفترة العثمانية، كانت المدينة عبارة عن قرية صغيرة، حيث كان عدد السكان لا يتعدى عشرة آلاف نسمة في حي الجمرك. وفي دراسات أخرى كان العدد لا يتجاوز 6000 نسمة فقط.
وخلال فترة الحملة الفرنسية، لم تكن قناة المحمودية قد اكتملت بعد، وكانت بحيرة مريوط شبه جافة. وعلى الرغم من ذلك، كانت بحيرة مريوط طول تاريخها مالحة وغير صالحة للشرب. وفي فترة حكم محمد علي باشا، الذي اهتم بالإسكندرية بشكل كبير، فكر في حفر القناة مرة أخرى. وقد ذكر على لسانه أنه أراد إعادة إحياء أعمال الإسكندر الأكبر.
قناة المحمودية
يضيف الدسوقي: تم تكليف مهندس تركي “شاكر أفندي” بإنشاء قناة المحمودية. ثم استكملها المهندس باسكال كوست، حيث وفرت القناة المياه العذبة لمدينة الإسكندرية. مما ساعد في زيادة عدد سكانها الذين استخدموا المياه في الشرب والري. كما أنشئت العديد من القصور على ضفاف القناة، مثل قصر عمر طوسون أمير الإسكندرية في وقت ما.
وأكد “الدسوقي” خلال اللقاء أن الإسكندرية كانت تحتوي على عدة مجاري مائية اندثرت بانتشار العمران، مثل ترعة الفرخة ومحيطها الذي كان يعرف بـ”قرية الفرخة”، وكذلك بحيرة الحضرة (بمنطقة نادي سموحة حاليا). وأيضا قناة المحمودية، التي أُقيم عليها مشروع عملاق حاليا. وللأسف، فقد راح ضحية إنشاء قناة المحمودية عدد كبير من العمال والفلاحين ممن عملوا فيها. ومن المحزن أن القناة أهملت تماما في السنوات الأخيرة قبل إنشاء مشروع محور المحمودية بشكله الحالي.
واستطرد حديثه: نظرا لأن الصهاريج كانت من الأسباب الرئيسية في نشر الأمراض في الإسكندرية. فقد تم وقف العمل بها تماما عام 1910، على الرغم من أن بعضها لا يزال موجودا حتى اليوم ومسجلا كآثار. وفي فترة الحرب العالمية الثانية، تم استخدام بعض الصهاريج كمخابئ. وقد اكتشف صهريج في عام 2000 داخل البطريركية اليونانية خلال ترميمها. وتم إعادة استخدامه كمتحف صغير يعرض فيه القطع التي تم اكتشافها آنذاك. ويعد هذا إعادة استخدام عظيم للصهاريج.
وأوصى الدكتور محمد الدسوقي بضرورة إعادة فتح هذه الصهاريج لعرض التاريخ الهندسي المميز لمدينة الإسكندرية. كما أشار إلى إمكانية إعادة استغلالها بأشكال أخرى مختلفة في مدينة الإسكندرية. حيث يوجد فيها مبنى البورصة التاريخي الذي لا يزال قائما، لكنه في حالة يرثى لها. لذلك، طالب المسؤولين بإعادة استخدام هذا المبنى والحفاظ عليه.
تراث دار الضيافة
الدكتورة دينا عزالدين، وكيل كلية السياحة والفنادق بجامعة الإسكندرية. تحدثت في محاضرة تطور تراث الضيافة العرض التاريخي لعدد من الفنادق التاريخية بالإسكندرية. وقسّمتها إلى ثلاثة أقسام: فنادق تاريخية لها أكثر من 100عام ومازالت قائمة كفنادق، وفنادق من التاريخ مازال المبنى موجودا حتى الآن ولكن تحول إلى مبنى سكني أو تجاري. وفنادق أخرى من ذاكرة التاريخ واختفت في وقتنا الحالي.
بدأت عزالدين بالحديث عن الفنادق التي مازالت قائمة وتاريخها يرجع إلى أكثر من 100 عام، مثل قصر السلاملك وقصر المنتزه اللذين أنشأهما الخديوي عباس الثاني من المنشآت التاريخية. وأيضا فندق وندسور التاريخي، الذي كان يقام فيه عروض فنية لبديعة القصبجي وغيرها. كما أشارت إلى فندق سيسل بمنطقة محطة الرمل وسط المدينة، الذي يقترب تاريخه حاليا من الـ100 عام، وصاحبه يهودي من أصول فرنسية. حيث كان يكتب على الغرف أسماء أشهر الشخصيات التي أقامت فيه، مثل أم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهم. كما يعد فندق سان جيوفاني من أحدث الفنادق التاريخية التي أُقيمت في الثلاثينيات، ومالكه من أصول يونانية، وقد اختار هذا الموقع الرائع.
أما الفنادق التاريخية التي مازال المبنى قائما ولكن تحول لمبنى سكني أو تجاري، قالت عنها عزالدين: “كان هناك في ميدان عرابي بمنطقة المنشية حاليا فندق أنيق ذو موقع متميز. ولكنه تحول حاليا إلى مبنى سكني وتجاري في الطوابق السفلى، مع تغيير شكل طرازه المعماري التاريخي. وأيضًا فندق في شارع فؤاد بعد المتحف اليوناني حاليا وافتتح عام 1907 كان اسمه “ساڤوي” وكان يستخدم مقرا للبحرية في فترة ما. ولكن تحول حاليا إلى مبنى سكني يختلف تماماً عن طرازه القديم”.
فنادق بلا معلومات
أوضحت: وفي ميدان عرابي أمام جامعة سانجور بالمنشية، كان يوجد فندق تاريخي، وبالحديث مع عدد من الفنادق الصغيرة المتواجدة حاليا عن تاريخ هذه الفنادق، لم يقدموا أي معلومات عن تاريخ المبنى. كما تحدثت عن فندق “لاوري” في شارع فؤاد بالقرب من مبنى الجوازات الحالي، الذي تحول إلى مبنى سكني مع بقاء الطابقين العلويين فقط كفندق. بالإضافة إلى كافية “دي لابيه” الشهير حاليا على كورنيش البحر بمنطقة محطة الرمل، الذي كان في العشرينات فندقا يسمى “ليدو هاوس”. ولا يعلم أحد أصل المبنى الحالي.
واستطردت عزالدين حديثها: هناك فنادق اختفت وأصبحت في الذاكرة فقط، منها فندق كان مكانه مبنى النساجون الشرقيون في المنشية. حيث لا يعلم أحد تاريخ هذا المكان وبداياته. وهناك فندق “سان ستيفانو” الذي أُنشئ عام 1887 على يد نوبار باشا وكان له شاطئ خاص به وأقبل عليه جمهور كبير. وكان بجانبه أوتيل “بغداد”. وبعد كثرة الإقبال تم ضمهما في فندق واحد. وفي التسعينات، تم تحويله إلى فندق الفورسيزون. ويذكر أنه في وقت الحروب، تحولت مدرسة فيكتوريا إلى مستشفى، وتحول فندق سان ستيفانو إلى مدرسة.
كما ظهر فندق “البرويڤاج”، الذي أنشئ في الخمسينات. وظهر في العديد من الأفلام السينمائية، مثل فيلم الزوجة 13، ثم تم بيعه لرجل الأعمال طلعت مصطفى في التسعينات، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الأرض خالية.
وأشارت إلى أنها حاولت خلال بحثها الميداني معرفة ما إذا كان لدى الناس الموجودين حاليا في هذه الفنادق معلومات تاريخية عن المكان أو المبنى. ولكنها أحزنتها الإجابة بأنها لم تجد أيا من تلك المعلومات. حتى المواقع الإلكترونية الخاصة بهذه الفنادق لا تحتوي على معلومات تاريخية عن المكان. في حين أن هذه المباني التاريخية في مدن أخرى حول العالم تعد مصدر دخل وسياحة، وهو ما لا يحدث هنا.
وأوصت عزالدين في نهاية المحاضرة بضرورة أن يكون هناك اهتمام من المسؤولين والجمهور والعاملين في هذه الأماكن بأهمية تاريخ المبنى وإظهاره للجمهور بكافة الأشكال. وأكدت على ضرورة الحفاظ على تراثنا وزيادة فعاليات التوعية السياحية، مثل الجولات التي نظمها التراث السكندري خلال فعاليته.
معرض سانت كاترين
وفي سياق متصل، أقيم معرض في كاتدرائية سانت كاترين التاريخية بمنطقة المنشية غرب الإسكندرية، بمناسبة مرور 175 عاما على تأسيس الكنيسة، تحت عنوان “سانت كاترين- التاريخ والعمارة”. المعرض للمهندس محمود سعيد، ويأتي ضمن فعاليات برنامج أيام التراث السكندري.
قال سعيد في تصريحات خاصة لـ”باب مصر”: “المعرض يحكي قصة كاتدرائية سانت كاترين منذ نشأتها. عندما أهداها محمد علي باشا للفرانسيسكان عام 1834. كما يوضح المعرض التطور المعماري للكنيسة من خلال نماذج معمارية مختلفة لتطور المبنى، مع التركيز على التطور الذي حدث في أوائل العشرينات على يد المعماري الإيطالي ماريو أڤينا. الذي قام بتصميم الواجهة الجديدة للمبنى”.
وعن اختياره لمبنى سانت كاترين، أوضح أنه استغرق ثلاث سنوات في دراسة هذا المشروع. حيث بدأ بدراسته خلال مرحلة الماجستير. ثم قرر التوسع فيه أكثر، خاصة أنه كمهندس متخصص في الترميم المعماري جذبته خصوصية البناء المعماري للكاتدرائية وقرر دراستها وتوثيقها.
حماية التراث
وفي افتتاح المعرض قال الدكتور توما فوشيه، مدير مركز الدراسات السكندرية: “المركز يسعى منذ إنشائه لحماية تراث المدينة وأرشيفها وإتاحتها لأكبر عدد من الناس. وهذا المعرض يحتفي بكنيسة سانت كاترين والمعماري الإيطالي سيراڤينودي باسينو الذي صمم الكنيسة في منتصف القرن التاسع عشر. وكذلك المعماري ماريو أڤينا الذي أضاف الواجهة منذ قرن تقريبا”. وأضاف أن عنوان النسخة الخامسة عشر من “أيام التراث السكندري” هو “الإسكندرية مدينة النور”. “فنأمل أن تنير لنا القديسة كاترين هذا المعرض”.
فيما أعرب سفير مالطا بمصر، روبرتو باتش، عن سعادته بالترحيب الحار الذي لاقاه منذ وصوله للإسكندرية فهذه المدينة تذكره بمالطا كثيرا ولا يشعر فيها بالغربة مطلقا. كما عبر عن سعادته بهذا المعرض الذي يعد الأول من نوعه (معرض عن المالطيين في الإسكندرية).
وقال: “لدينا جاليات في أماكن عديدة؛ الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، ومؤخرا في بلچيكا، وهذا منذ انضمام مالطا إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن القليل معروف عن المالطيين في مصر وتحديدًا عن الجالية المالطية في الإسكندرية”.
وتابع: هذا المعرض يأتي ضمن جهود عديدة تبذلها السفارة لخلق مزيد من الوعي حول الجالية المالطية التي عاشت في هذه المدينة. مؤكدا أن الكاتدرائية كانت اختيارا ممتازا لإقامة المعرض. حيث كانت في الأساس مقرا للمهاجرين المالطيين الأوائل، الذين استقروا حول هذه الكاتدرائية. التي بنيت في الأساس كمكان للعبادة ولخدمة الجالية الإيطالية ثم المالطية، التي كانت ثاني أكبر جالية كاثوليكية بعد الايطاليين.
الجالية المالطية
وفي ختام حديثه، وجه سفير مالطا الشكر للرهبان الفرنسيسكان على العناية بالسجلات الثمينة بالمواليد والزيجات والوفيات الخاصة بالمالطيين، والمحفوظة في هذه الكاتدرائية. فما كان للعديد من العائلات المالطية أن تتعقب جذورها لولا هذه السجلات.
كما شارك في المعرض المطران كلاوديو لوراني، النائب الرسولي للكنيسة اللاتينية في مصر. الذي قال إن المعرض يعكس مساهمة الجالية المالطية في الإسكندرية الكوزموبولتانية. فالإسكندرية هي معجزة البحر الأبيض المتوسط، لها تاريخ وثقافة ثرية ساهمت فيها العديد من الشعوب وتقاربت وتفاعلت فيها العديد من الحضارات. وأضاف أن كاتدرائية سانت كاترين التي تستضيف هذا الحدث يعتبر تاريخها شاهدا على هذا التبادل الثقافي والفني.
اقرأ أيضا:
«العمارة الإسلامية في الإسكندرية» ضمن فعاليات التراث السكندري في دورته الـ15