نساء مسنات مثيرات.. بين «نيكول كيدمان» و«غادة عبد الرازق»

من بين مسلسلات رمضان الماضي، عمل أثار الفضول قبل عرضه، ثم اللامبالاة عقب عرضه. وإن كان يستحق أن نناقشه، ليس لأنه جيد فنيا، أو لأن فكرته جديدة، أو لتميز أي من عناصره، هذا عمل متواضع فكرا وكتابة وتنفيذا وتمثيلا، لدرجة أن المرء يظل يتساءل عن الأسباب التي يمكن أن تدفع البعض إلى صنع مثل هذا المسلسل الشائه!
تحية.. الأصل والتقليد
عن «شباب امرأة» أتحدث، المقتبس عن أحد كلاسيكيات السينما المصرية، وهو الفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف في 1956، عن سيناريو للأديب أمين يوسف غراب، الذي أعاد كتابته في رواية بالاسم نفسه صدرت بعد عرض الفيلم بعامين، في واحدة من المرات القليلة التي تتحول فيها الأفلام إلى كتب، وليس العكس!
كان “شباب امرأة” عملا جريئا بمقاييس عصره، تألقت فيه تحية كاريوكا في دور الغاوية، أو بمصطلحات السينما “المرأة الفتاكة”، femme fatale، كما لم تفعل من قبل أو بعد، حتى أصبحت نموذجا يضرب به المثل، وأصبح اسمها “شفاعات” دلالة على هذا النمط.
ولكن رغم تعبير الفيلم عن قوة الرغبة الجنسية الأنثوية بشكل لم يسبق للسينما المصرية تقديمه، إذ تتبدل فيه الأدوار التقليدية وتصبح المرأة هنا هي الراغبة لا المرغوب فيها، والصيادة لا الفريسة، إلا أن الفيلم يقع في فخ الكراهية، وعقاب شفاعات والتمثيل بها بشكل مبالغ فيه وغير إنساني، رافعا أي لوم أو مسؤولية عن الشاب الريفي الساذج الذي أخذته شفاعات من يده لتدخله إلى جنتها، ولتنقل إليه خبراتها ومعارفها، وتطعمه وتلبسه وتنفق عليه مثل طفل.
يروي صلاح أبو سيف في أكثر من حوار له أن قصة الفيلم مقتبسة عن تجربة حياتية مر بها، ومثل الغالبية العظمى من هذه العلاقات، لا أعتقد أنها انتهت بالخاتمة الدموية التي ينتهي بها الفيلم، حيث تسحق شفاعات تحت عصارة الزيت التي يجرها البغل.
يقال أيضا إن هذه النهاية كانت الملحوظة السلبية الوحيدة التي حالت دون تحقيق الفيلم للنجاح المرجو عندما عرض في مهرجان “كان”، إذ تعجب البعض من العنف غير المبرر ضد البطلة.
يحسب لـ”شباب امرأة” مع ذلك تقديمه لواحدة من العلاقات التي عادة ما تتجنب السينما المصرية الخوض فيها، أو تقدمها بطرق مسطحة أو كوميدية، وهي العلاقة بين امرأة كبيرة وشاب صغير.

تابوهات تاريخية
هذه العلاقة تعد من التابوهات السينمائية في العالم كله، وغالبا ما تثير الأفلام التي تقدمها جدلا كبيرا، كما حدث مثلا مع فيلم “الخريج” (إخراج مايك نيكولاس، 1967) الذي لعب فيه داستن هوفمان دور طالب تغويه امرأة في سن أمه تؤدي دورها آن بانكروفت، أو مع فيلم “الخوف يأكل الروح، أو كلهم اسمهم علي” للألماني راينر فيرنر فاسبندر (1974) الذي يدور حول مهاجر إفريقي شاب يتزوج جارته الألمانية العجوز، وحديثا نسبيا مع فيلم The Piano Teacher، إخراج ميكائيل هاينكه، 2001، الذي لعبت فيه إيزابيل أوبير دور معلمة تدخل في علاقة مع أحد تلاميذها.
..ولكن العالم تغير كثيرا خلال ربع القرن الأخير، وفي السنوات القليلة الماضية رأينا كل أنواع العلاقات “المحرمة” أو غير المقبولة اجتماعيا تعرض على الشاشات. وفي العام الماضي فقط، ظهرت عدة أفلام تناقش علاقة المرأة الكبيرة بالشاب الصغير، لعل أشهرها فيلم Babygirl للمخرجة هالينا ريجين، الذي تلعب فيه نيكول كيدمان دور زوجة وأم ومديرة ناجحة تدخل في علاقة محمومة مع شاب صغير يعمل تحت إدارتها. المدهش في ذلك الفيلم هو النغمة (التون) التي تروى بها الحكاية، والتي تتعاطف مع المرأة كليا، وتروج بأن هذه العلاقة التي دخلتها المرأة كانت مفيدة لها ولعلاقتها بزوجها الغافل (الذي يؤدي دوره النجم أنطونيو بانديراس شخصيا!).
الفيلم هو أحد ثمار النسوية المعاصرة التي يسعى بعض أنصارها إلى قلب الأوضاع الجندرية والجنسية رأسا على عقب. ولو أن هذا الفيلم كان يدور حول رجل غير سعيد في علاقته بزوجته، يدخل في علاقة مع شابة صغيرة انتهازية، تشبع شهواته وتحسن من ثقته بنفسه ومن علاقته بزوجته، لأمطرتنا النسويات باتهامات الذكورية وتنميط صور النساء وتقديمهن كموضوعات جنسية أو زوجات خانعات فحسب.
الـ”ميلف” في السينما والواقع
نيكول كيدمان، التي يبدو أنها أصبحت نموذج للـMILF، وهو مصطلح شائع خاصة بين المراهقين ومرتادي المواقع الإباحية، يشير إلى المرأة متوسطة أو كبيرة العمر المثيرة جنسيا، لعبت العام الماضي أيضا دورا مشابها في فيلم بعنوان “علاقة عائلية” إخراج ريتشارد لا جرافينيس ومن إنتاج نتفليكس، تلعب فيه دور أم تدخل في علاقة مع ممثل شاب في عمر ابنتها، التي تعمل كمساعدة للشاب. الفارق بين الفيلمين أن الأول سيكودراما جادة، بينما الثاني كوميدي.
فيلم آخر ظهر العام الماضي بعنوان “فكرتك” The Idea of You تلعب فيه آن هيثاواي دور أم متوسطة العمر تقع في حب مغنٍ مراهق في عمر ابنتها، والفارق أنه يتناول الحكاية من منظور رومانتيكي كقصة حب غير مقبولة اجتماعيا، ولكنها ممكنة، حيث يصمد الحب أمام كل العوائق.
وفي مسلسل رمضاني آخر هو “80 باكو” تأليف غادة عبد العال وإخراج كوثر يونس، تلعب فيه سماح أنور دور أرملة وأم تتزوج شابا في عمر ابنتها، بشكل كوميدي ومتسامح، بل ويعكس سلوك العريس المتيم بالمرأة التي تكبره أفكار الكثير من شباب اليوم!
الخلاصة أن العلاقة بين النساء الأكبر والرجال الأصغر سنا لم يعد ينظر لها كانحراف أو كشيء غير طبيعي، كما كان يحدث من قبل، وأنه في عالم اليوم تعتبر من الحقوق الشخصية التي لا يحق للمجتمع أن يتدخل فيها، طالما أن الطرفين بالغان، مسؤولان، ولا يخالفان القوانين أو يعتديان على حقوق إناس آخرين. وتأتينا الأخبار كل يوم من العالم وحتى في مصر عن زواج نساء كبيرات بشباب يصغرهن دون أن تختل الدنيا أو تنقلب.
رداءة متعمدة!
..ولكن ما علاقة كل هذا بمسلسل “شباب امرأة”؟
لا شيء على الإطلاق!
حتى بمقاييس فيلم صلاح أبو سيف المصنوع منذ سبعين عاما، علما بأنه فيلم محافظ بمقاييس الخمسينيات أيضا، كما بينت أعلاه، فإن مسلسل “شباب امرأة” لـ”غادة عبد الرازق” ليس فقط محافظا أو رجعيا أو كارها للنساء، ولكنه قطعة “الشيزوفرينيا” الأخلاقية والاجتماعية التي تعاني منها البورجوازية المصرية الجديدة.
مثل كثير من المسلسلات، يزعم “شباب امرأة” أنه يقدم الحياة والحارة “الشعبية”، ومفهوم أن أي عمل فني يقدم صورة متخيلة عن الواقع وليس الواقع نفسه، ولكن الصورة المتخيلة التي يعرضها “شباب امرأة” هي خليط شائه من التصورات الشخصية، والانتحالات من الأعمال السينمائية والتليفزيونية الأخرى، والتوازنات الرقابية الذاتية والرسمية.
مبدئيا، لا شيء في الحي الشعبي يشبه الواقع: لا الديكور الخارجي، ولا الداخلي، ولا الملابس، ولا ماكياج النساء والرجال، ولا طريقة الكلام، ولا طبيعة العلاقات بين الناس.
النجمة غادة عبد الرازق، التي تؤدي شخصية شفاعات والتي فصل العمل من أجلها تفصيلا، قدمت الكثير من الأعمال الميلودرامية الرديئة، وأدت الكثير من الأداءات التمثيلية المفتعلة، ولكن أيا منها لم يصل إلى هذا المستوى من الميلودراما الرديئة والأداء المفتعل. الغريب أن أحدا لا يحاول إخفاء الافتعال أو تخفيفه في هذا المسلسل، لا على مستوى الكتابة، ولا التمثيل أو الإخراج، ولو أنه عملا كوميديا ساخرا لكان من الممكن فهم هذا الافتعال المتعمد، ولكن للأسف يعتقد صناع العمل أنهم يؤدون عملا تراجيديا.
ما يعنينا هنا هو الصورة التي تظهر بها شفاعات، وعلاقتها بالشاب الريفي إمام الذي يقيم في منزلها. إنها امرأة سوقية – لا شعبية- ترتدي ملابس “فضائية” فاقعة الألوان، نسخة “جروتسكية” من تحية كاريوكا، لكن أغرب شيء هو أنها، رغم الماكياج والشعر المسدل والمبادرات اللفظية والبدنية التي تبديها تجاه الشاب، تكاد تكون امرأة لا جنسية asexual بالمرة. لا وجود هنا للاحتياج أو الشبق، اللذين عبرت عنهما كاريوكا بنظرة عين، وتهدج صوت، وحركة يد خفيفة. لا تبدو غادة عبد الرازق في أي مشهد من المسلسل وكأنها تحب أو ترغب في الشاب حقا.
وقد أثر ذلك بدوره على الممثل يوسف عمر، الذي يؤدي دور إمام، فليس هناك أية لحظة من المسلسل يبدو فيها منجذبا جنسيا أو عاطفيا نحو غادة عبد الرازق. ليس هذا مجرد خلل في كيمياء اختيار الممثلين، ولكنه، مثل الافتعال، يبدو مقصودا تماما: هذا مسلسل عن الرغبة الجنسية، ليس به رغبة جنسية. ومسلسل عن الاحتياج البشري البدائي، لا يحمل أي ملامح احتياج عاطفي.
الغريزة.. دون غريزة!
في فيلم صلاح أبو سيف، وذات ليلة عاصفة، تستيقظ فيها الرغبات المحمومة لدى شفاعات وإمام، رغما عن إرادتيهما، يندفع الاثنان اندفاعا محموما قدريا كل منهما نحو الآخر. في المسلسل لا يحدث ذلك، لأن شفاعات غادة عبد الرازق لا يمكن أن تسقط في الحرام، وحتى عندما يتزوج الاثنان بشكل شرعي قرب نهاية المسلسل، لا يبدو عليهما إطلاقا أنهما مارسا حقوقهما الشرعية!
إمام المسلسل شخص بلا جاذبية وبلا روح تقريبا، والريف الذي جاء منه إمام صلاح أبو سيف لم يعد موجودا الآن، وليس به بالتأكيد شاب في سذاجة إمام المسلسل. إمام الفيلم كان طالبا أزهريا، ولكنه يتحول هنا إلى طالب طب، وقريبته البريئة شادية تتحول هنا إلى زميلته في كلية الطب، وتبدي نحوه الكثير من المبادرات العاطفية التي لا يمكن إساءة فهمها، ولكنه يقابلها ببرود بسبب خجله. فقط بعد أن يتزوج شفاعات، وعندما يعلم أن قريبته ستخطب تنتابه شجاعة لا يوجد لها أي مقدمات في المسلسل، ويهجم على بيتها ويهين خطيبها وأهلها! وهو الأمر الذي يغضب شفاعات منه فتطرده من بيتها، وهو رد فعل طبيعي بالمناسبة، ولكن المسلسل يقدمه باعتباره أحد أخطاءها التي تستحق عليها القتل.
الخطأ الثاني القاتل الذي ترتكبه شفاعات، أنها تخبر ابن زوجها الراحل، وهو نصاب ولص وبلطجي، أن ابنه ليس شرعيا، بل نتاج علاقة لزوجته بشاب آخر سبقت زواجه منها. ويتسبب هذا الخطأ في غضب الجميع على شفاعات وليس الفتاة، وقيام والد الفتاة بقتل شفاعات، وهو أمر غريب، فالمنطقي أن يقوم بقتل ابنته، وهو يبرر ذلك لشفاعات بقوله “ما سمعتيش عن الستر”. ويتبين هنا الخلل الأخلاقي الذي يعاني منه المسلسل (وربما المجتمع): ليس من المهم أن المرأة خدعت زوجها، ولكن المهم ألا يخبره أحد، وأن يتم التستر على جرم الفتاة، أما الذي تقول الحقيقة، فتستحق القتل!!
والمدهش أن المسلسل، بداية من أغنية العناوين التي تحمل عنوان “يا عيني ع الشرف” وتلوم المرأة بأقذع الألفاظ: “خاف م اللي شدت حيلها وعيارها فلت”، وحتى النهاية التي تتشفى في المرأة، وتعطي لكل الشخصيات دوافع ومبررات لقتلها، مع أنه لا يوجد بينهم شخص واحد فاضل أو بلا خطيئة!
وليس هناك، على حد علمي، خلل درامي وأخلاقي يمكن أن يفوق هذا.