نزار قباني في مصر يعزف أنشودة الوفاء
سيبقى نزار قباني أسطورة الشعر العربي في القرن العشرين، رغم الموت سيبقى حيا بيننا، فلا دخلت أشعاره متحف التاريخ، ولا عرفت قصائده بيتا، إلا في صدور العاشقين، وأما كلماته فطارت كعصافير تغني على كل شباك. وبقي نزار الناطق الرسمي بلسان العشاق، ومازال أيضا هو صوت الحب وسوط الغضب الثوري. لكن من أين جاء نزار بكل هذا النزق الطفولي؟ وكل هذه الشاعرية الوترية المتألقة، وكأن العالم يعيش ويتنفس من أطراف أصابعه؟ وكل هذا الغضب الثائر الذي صاحبه طوال رحلته؟
تلك هي سيرة الشاعر كما يحكيها كتاب “نزار قباني في مصر” للأستاذ علي النويشي، الذي رصد في كتابه الكثير عن نزار قباني وجعلنا نتجول معه ونستبر غور شخصية نزار بصورة غير مسبوقة.
***
لم يكن نزار قباني مجرد شاعر، ولم تر الأمة العربية شاعرا منذ عهد المتنبي اختلف من حوله الناس واتفقوا، أو كما يقول: شغل الناس وملأ الدنيا مثل نزار قباني، فهو كما لقبه النقاد “قلب الشعر وصوت الجماهير”، وصوت الغضب الثوري. ويقول نزار: “كان من حسن طالعي أني أتيت إلى مصر في مقتبل عمري، وخيرا فعلوا أن أرسلوني للقاهرة ولم يرسلوني إلى باريس، ففي منتصف أربعينيات القرن الماضي كانت القاهرة هي سيدة مدن العالم”.
في القاهرة عاش أول أيام الوظيفة، دبلوماسيا في السفارة السورية، وفي هذا المناخ عاش جو حرية الصحافة، وشهد المعارك النيابية، وكان متابعا لحالة الحراك الاجتماعي التي كانت تعيشها مصر، وهو يرى صحف تولد كل يوم، ومراحل سياسية تذوي وتموت، وحقبة تاريخية تطوى، وشبابا يقاتل من أجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
جاء الشاعر السوري الراحل نزار قباني (1923- 1998) إلى مصر سنة 1945، وكان عمره 22 عاما. وعندما غادرها بعد 3 سنوات، لم يكن يعلم أنه ارتبط بها حتى آخر لحظة في عمره. على أرضها دشن شاعريته ورحلته كمثقف، وبجوار نيلها دارت معاركه الفكرية والشعرية. وفي مصر، وبعد رحيله، صار شعر نزار يُغنى على كل لسان. وعندما غادر الوطن العربي ليعيش في منفاه الاختياري في أوروبا، لم تتركه مصر، ولم يتركها هو أيضا.
***
وفي سؤال عما فعلته فيه المدن؟، أجاب نزار: “عشقي للمدن لا يختلف عن عشقي لحبيباتي”، مضيفا: “هناك مدن عشقتها، بيروت، القاهرة، لندن، مدريد، لأنها استطاعت أن تحرض في الثورة، وتسألني ماذا فعلت بي هذه المدن؟ القاهرة كانت في البدايات كتابا ثقافيا كبيرا، وعندما وصلتها في منتصف الأربعينيات، رأيت فيها عمالقة الفكر مثل: طه حسين، والعقاد، والمازني، والدكتور هيكل، وتوفيق الحكيم، أساتذة أبقوا في عقلي الثورة والتمرد”.
وإذا كانت دمشق تمثل الرحم الذي تشكلت فيه شعرية نزار قباني، فإن القاهرة هي الحاضنة التي تعهدت شعريته وموهبته، وصاغت جنونه وجنوحه الشعري، وأخرجته من فكر البداوة وأطلقته ليحلق في سماء الحضارة والمدنية. وكانت للقاهرة دور مهم في تشكيل القصيدة عند نزار قباني، وعلى حد قوله: “لم تكن القاهرة مجرد بعد جغرافي عرفه الشاعر منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، بل حمّله الشاعر دلالات إيحائية وإسقاطات روحية وسياسية أحيانا”.
في القاهرة أصدر أهم دواوينه “طفولة نهد” الذي حمله على جناح الشهرة، وفيها أصبحت قصائده أنشودة يتغنى بها كل لسان، وفي القاهرة جرب أن يكون ممثلا، وأن يكون شاعرا مشهورا تطبع دواوينه طبعات شعبية يشتريها الأولاد والبنات بقروش قليلة.
***
يرحل نزار عن مصر، وعينه وقلبه معلقتان بها، تشتعل ثورة الضباط الأحرار، ويؤمم عبدالناصر قناة السويس، ويقع العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وينفعل نزار فكتب رسائله الشهيرة إلى جندي بورسعيد. وينطلق بث التليفزيون المصري في 1960، وكان نزار من أول ضيوفه ليشهد العالم لقاءاته على الهواء مباشرة من القاهرة.
في عام 1962 استقال من الدبلوماسية وتفرغ للشعر فقط، وكان يعيش بين القاهرة وبيروت، حتى جاء 5 يونيو القاصم للظهر، ولم يتحمل نزار الكارثة فوقع مريضا ودخل المستشفى، وبين الصحو واليقظة انتبه ليكتب قصيدته الباكية المنتحبة “هوامش على دفتر النكسة”.
أما مصر، فكانت تموج بالأحداث، ففي يوم 9 فبراير من العام ذاته خرج الطلبة في مظاهرة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة) متوجهين إلى قصر عابدين، وقتل وجرح أكثر من 200 فرد وأطلق البعض على هذا الحادث اسم “مذبحة كوبري عباس”، وامتدت الثورة الطلابية إلى أسيوط جنوبا والإسكندرية شمالا، وأسفرت تلك الأحداث عن 28 قتيلًا و432 جريحًا.
***
ومن الناحية الثقافية كانت القاهرة عامرة بالأحداث الثقافية، فبعد الحرب العالمية الثانية تضاعف عدد الأفلام المصرية من 16 فيلما عام 1944 إلى 67 فيلما عام 1946، ولمع هذه الفترة عشرات المخرجين والممثلين مثل: ليلى مراد، شادية، فاتن حمامة، ماجدة الصباحي، مريم فخر الدين، تحية كاريوكا، نادية لطفي، هند رستم، عمر الشريف، يحيى شاهين، إستيفان روستي، فريد شوقي، أحمد رمزي، صلاح ذو الفقار، أنور وجدي…..
وشكل تمسك نزار قباني بالمكان جملة من الأبعاد النفسية والسياسية والقومية والدينية والتاريخية التي تفسر عنايته به، حيث إن للمكان دلالة واضحة في شعرية نزار قباني ساهمت في التشكيل الجمالي لنصوصه، وكشفت عن أن الوطن لدى نزار لم يتخذ بعدا جغرافيا محددا، بل حمَّلهُ بدلالات تتصل بالقضايا الاجتماعية والسياسية التي كانت سببا في نضجه الفني.
ورغم كل هذا، لم يترك نزار القاهرة، ولم تتركه القاهرة، بل ظلت تعيش فيه، وإن لم يعش هو كثيرا بها. ولكن ظلت زياراته ورحلاته إليها لا تنقطع، وفي شتاء كل عام لابد له من زيارة للقاهرة، سواء دعوه في معرض الكتاب أم لم تتم دعوته، فهو دائما مدعو من النيل ومن الأهرامات، ومن قنوات وترع الفلاحين، ودائما مدعو من الطلاب والشباب والعشاق في كل مكان من أرض مصر.
***
وعندما يعقد السادات صلحا مع العدو، لا تهدأ روح نزار الشاعرية، إلا بقصيدة هي أقرب للبكاء والنزيف منها للهجاء، وتهتز مصر كلها لقصيدته التي كتبها عن السادات، ولم يغفرها له أبدا حواريو السادات، فقد كانت القصيدة غاضبة لاذعة لرئيس أكبر دولة عربية. ومع كل هذا، لا ينقطع الحبل السري بين نزار ومصر، وتمر السبعينيات بكل آلامها ومذاقها العلقم على كل عربي، فقد قطع العرب كلهم علاقاتهم بمصر، ويأتي عقد الثمانينيات بجموح رياحه، وخماسين أجوائه، ونشاهد نزار قباني أول من كسر المقاطعة عن مصر، وجاء يدعو العرب بأنهم لن يكونوا بدون مصر، وأن مصر لن تكتمل عروبتها إلا بهم.
وتستقبل الجماهير نزار قباني استقبال الفاتحين، وتنعقد له أكبر المهرجانات في معرض القاهرة للكتاب كل عام، ليحضرها عشرات الألوف من الجماهير، ويتألق نزار وسط الجموع، ويظل واقفا بالساعات الطويلة وهو يشدو ويغرد أمام الجموع، فهو كما يقول: “أنا صوت الجماهير”.
تعود نزار على مصر وتعودت مصر عليه، وصارت تعتبره واحدا من شعرائها ومن أولادها. ويعود الفضل للناقد أنور المعداوي وغيره من النقاد المصريين في ترسيم شعريته، وتدشينه كشاعر، ثم توزيعه في طبعات شعبية بخطوة عبقرية مشتركة بين الحاج محمد مدبولي ونزار قباني، حيث تمت طباعة مئات الألوف من دواوين نزار قباني وبيعها في نسخ شعبية بسعر نصف جنيه، ثم جاء الدور على الفن فقامت نجاة الصغيرة وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد بغناء قصائده، فكان الانتشار الأوسع لنزار قباني، وأصبح نزار للمصريين والعرب كما الماء والهواء.
***
كان نزار قباني عندما يأتي إلى مصر كأشهر نجوم الفن المعروفين، وعندما تعقد له ندوة في معرض الكتاب، كان المعرض يومها يبدو كمظاهرة، والقاعة رغم ضخامتها تضيق بالجمهور فيقف خارجها أكثر مما في داخلها. هكذا صنعت مصر نزار على عينها، ووضعته في قلبها، وحفظته كأيقونة، وهو الذي جعل الشعر مثل “الخبر اليومي” ومثل قراءة الجريدة.
لكن تتعقد الأمور باشتعال الحرب الأهلية في لبنان، وتقتل زوجته بلقيس الراوي بحادث نسف السفارة العراقية في بيروت في ديسمبر/كانون الأول 1981، ويلملم نزار أحزانه ويقرر الانتقال إلى القاهرة عام 1983، ولكن لم يتركه الصحفيون والكتاب، وهاجمه البعض بسبب قصيدته ضد السادات، واستمرت الحملة لعدة شهور شارك فيها موسى صبري وأنيس منصور وعدد آخر من الصحفيين المصريين.
على الجانب الآخر، لم يعدم نزار من يدافع عنه، ومنهم محمد حسنين هيكل والكاتب أحمد بهاء الدين، ويوسف إدريس، والموسيقار عبد الوهاب، وفي مثل هذا المناخ، غادر نزار القاهرة وانتقل للإقامة في سويسرا عام 1984، ثم لندن، ولكن القاهرة حتى رحيله لم تغادره لحظة، ولم ينسها يوما.
غادر نزار القاهرة بجسده فقط، وبقيت القاهرة معه يحملها في حقائبه أينما رحل وأينما حل، فهو لا ينقطع عن زيارتها، وأصدقاؤه على تواصل دائم معه، وفيها عاش وعشق واقترن ، وإليها يعود كما يعود الطائر المسافر.
اقرأ أيضا:
خالد عزب يكتب: «تاريخ الغناء الشعبي».. التاريخ المنسي للأغنية المصرية