نجيب سرور في بريد القراء لثوار يوليو: أنتم أملنا الأخير
اشتهر الأستاذ محمد التابعي بتحرير بابين من أهم أبواب مجلة آخر ساعة في الأربعينيات والخمسينيات وهما “من أسبوع لأسبوع” و”بريدي”، الأول كان مخصصا لمقاله الأسبوعي وهي مقالات أحدث بعضها ضجة كبيرة في حينها وشكلت علامات بارزة في تاريخ الصحافة المصرية. وهو صاحب رسالة نشرها للأديب الكبير نجيب سرور.
أما الثاني فكان مخصصا لعرض رسائل القراء والرد عليها وكان هذا الباب أشبه بدفتر أحوال يعرض جميع أنواع المشكلات والآراء من السياسة للفن للاجتماعيات والرياضة والدين، وكثيرا ما كان التابعي يكتب رأيه الشخصي في الرد على القراء وكثيرا ما أثارت ردوده معارك فكرية.
وكانت واحدة من هذه الرسائل التي نشرها التابعي عام 1953 لنجيب محمد سرور، الطالب بكلية الحقوق، جامعة إبراهيم (عين شمس حاليا) من قرية أخطاب بالدقهلية، الذي أصبح هو نفسه الشاعر الكبير المثير للجدل في حياته وبعد وفاته نجيب سرور (1932-1978).
حذاء الباشا
نشأ نجيب سرور في قرية أخطاب، محافظة الدقهلية، وكانت تقطنها إحدى الأسر الإقطاعية التي كانت تمتلك أغلب الأرض وتمتلك الفلاحين أيضا، وكان لنجيب سرور وهو طفل موقفا مأساويا مع هذه الأسرة وقد جسد هذا الموقف في قصيدته الشهيرة “الحذاء” حين ضرب الباشا والده بالحذاء أمام عينيه، وكان لهذا الموقف أبلغ الأثر على نفس الطفل نجيب سرور، وعندما قامت ثورة يوليو توسم نجيب سرور خيرا خصوصا بعد أن علم أن أعضاء هيئة التحرير في طريقهم لبلدته، ولكن ما حدث مع والده من سنوات حدث معه أيضا، حيث قامت الأسرة الإقطاعية بحجزه وأوسعوه مع زملاءه المعترضين ضربا وركلا.
والرسالة هي صرخة من نجيب سرور ضد الإقطاع والفساد، وتحمل الرسالة خوفا مبطنا على العهد الجديد حتى لا يكون نسخة من العهد البائد فكانت الرسالة تحمل عنوانا ذات دلالة وهو “إحذورا… أن نيأس”، والغريب أن هذا ما حدث لنجيب سرور فيما بعد فقد تملك اليأس منه حتى كانت نهايته المعروفة.
بصمات سرور
والواضح من الرسالة أنها تحمل بصمات وأسلوب نجيب سرور المعروف في الكتابة والنقد، وقد وصف الأسرة المالكة في قريته بأسرة الأولمب التي تملك الأرض وتستعبد من عليها.
هذه الرسالة تعد وثيقة مهمة في حياة نجيب سرور فقد كتبها قبل أن ينشر قصيدته الحذاء بثلاث سنوات، ونشر قصيدة الحذاء لأول مرة عام 1956 في مجلة الرسالة الجديدة، وكتب مقدمة لها قائلا “كان الباشا إلها يملك أربعة آلاف فدان.. ويملك معها أربعة آلاف نفس.. قال لي ذلك الصديق الذي قص علي هذه القصة، ولم يكن حاقدا بقدر ما كان آملا في مستقبل أفضل!!..” ثم بدأ القصيدة من المقطع:
بذاك المساء
أتانـا الخفيـر و نـادى أبي
بأمر الالـه!.. ولبى أبي
وأبهجنى أن يقــال الالـه
تنـازل حتى ليدعـو أبى!
ثم بعد ذلك بسنوات أعاد نشرها بحذف المقدمة النثرية وكتب بدلا منها المقطع التالي:
أنـا ابن الشـــقاء
ربيب (الزريبــة و المصطبــة)
وفى قـريتى كلهم أشـــقياء
وفى قـريتى (عمدة) كالاله
يحيط بأعناقنــا كالقــدر
بأرزاقنـــا
بما تحتنــا من حقول حبــالي
يـلدن الحيــاة
مؤكدا بذلك أنه هو نفسه ذات الصديق الذي تحدث عنه عام 1956 حين نشر القصيدة لأول مرة، وبرغم أن نجيب سرور قد طلب من التابعي التعليق على الرسالة، إلا أن التابعي لم كتب أي تعليقات قائلا: أنها ليست في حاجة إلى التعليق، وإلى رسالة نجيب سرور إلى محمد التابعي.
إحذروا.. أن نيأس
هذه صرخة من الأديب نجيب محمد سرور، الطالب بكلية الحقوق جامعة إبراهيم، أنشرها بدون تعليق لأنها ليست في حاجة إلى التعليق، وكل ما أرجوه أن تعني هيئة التحرير بتحقيق ما جاء فيها.
” إنك تعرف الكثير عن قريتنا الموءودة “أخطاب” وتعرف للحرية قداستها وتعرف في حقد العبد على القيود والأطواق والأسوار، فلا تكن من القسوة بحيث تلقي بخطابي هذا إلى سلة المهملات وستعلم أي رجاء يناط به وأي أمل عليه يعلق.
كنا ثلاثة من أبناء أخطاب. أحدنا بكلية الطب والثاني بكلية الآداب وأنا بكلية الحقوق، وقد قابلنا السيد الصاغ إبراهيم الطحاوي بعد أن قرأنا خبر زيارة رجال الثورة لبلدتنا أخطاب في يوم الجمعة الماضي وشرحت له ظروف البلدة التي عرفتها أنت من كتابي الدفين ” في سوق العبيد”.. وعرف سيادته كيف أن هذه الزيارة ستستغل أسوأ استغلال للتنكيل بالفلاحين والغلو في قهرهم وإذلالهم لأن لها دلالة واحدة في نظر الفلاحين: هى أن العهد الجديد -كالعهد البائد- ملك لأسرة الأولمب.. وعرف كيف بذل دعاة الأولمب جهودهم لتوكيد هذه الدلالة في أذهان الأهلين الذين طالما انتظروا وصول موكب العهد الجديد إلى سوق العبيد.
رسالة نجيب سرور
وطمأننا الصاغ الطحاوي.. ووعدنا ألا تكون هيئة التحرير بأخطاب إلا من أسماء نقدمها نحن إلى رجال الثورة.. خوفا من احتكار الأسرة المذكورة لعضوية الهيئة. كما طلب إلينا أن نكون في استقبالهم بعد أن أخبرناه بأنهم سيعملون على منع أبناء الفلاحين من المتعلمين من مقابلة الأبطال الزائرين حتى يثبتوا في أذهان الفلاحين ما سبق أن أكدوا من ظن…
وهكذا سافرنا إلى بلدتنا أخطاب.. وكنا دعاة لنشر في القرية اليائسة مفهوما جديدا للزيارة. هو المفهوم الذي من أجله اعتزم أبطالنا زيارة أخطاب. لا ذلك المفهوم العبودي الذي حرصت الأولمب على نشره في أرجاء القرية. وامتلأت القرية أملا ورجاء وتفاؤلا. وعرفت أن الضيوف ضيوفها هى لا ضيوف الأولمب.
وفي صباح الجمعة تكتلت الحشود لاستقبال الضيوف والهتاف بحياتهم وحياة الحرية وحياة الجمهورية.. بعد أن كادت تخرج لا لشىء إلا للتفرج على الضيوف. وجلسنا نحن الثلاثة بالسرادق نعد للاستقبال بينما وقفت الجماهير بعيدا تردد هتاف الأمل والرجاء.
نهاية الرسالة
وعرفت أسرة الأولمب أي ذخيرة من الشكاوى والتظلمات يعدها ثلاثتنا لاستقبال قادة الثورة.. فاستدرجنا عميد الأسرة إلى خارج السرادق. وفوجئنا برجاله يطبقون علينا.. ووضعونا في سيارة تحت سيل من الركل واللكم والشكم.. وانطلقت بنا السيارة إلى مركز أجا وحجزنا هناك من الساعة التاسعة صباحا حتى العاشرة مساء!! أتدري لماذا ؟، لكي لا يصل صوتنا إلى الأبطال الأحرار.. لكي لا نرفع إليهم تظلمات في حلكة جناح الغراب.. لكي تتم المؤامرة فتكون هيئة التحرير من خمسة عشر عضوا منهم اثنى عشر عضوا من هذه الأسرة وثلاثة من التابعين الموالين.. أجل كي تبقى هيئة التحرير هيئة شكلية من باب “تسديد النمر”..
فقد كانوا يرشحون الأسماء بعد أن يحذفوا منها لقب الأسرة. أي كانوا يسخرون من رجال التحرير.. ثم أتدري ماذا قال عميد الأسرة عنا للمأمور ليسوغ القبض علينا؟، قال: أننا شيوعيون – أي والله-.. وأقسم لك – وهذا ما قلته للسيد الطحاوي- أنهم أي الأتاربة لو استطاعوا أن يقبضوا على قادة الثورة بتهمة الشيوعية.. وأن يبعثوا بهم في سيارة المركز لفعلوا.. فإنهم لن ينسوا لهم تحديد الملكية الذي أفقدهم مئات الأفدنة.. وإلى هنا أترك لك أمر التعليق والتعقيب.. ولكن بقيت كملة أخيرة أقولها لك ولقادة الثورة.. أنني وزملائي من طلبة إخطاب بالجامعات والمعاهد الدينية والمدارس الثانوية.. لن نكون مواطنين صالحين في وطننا الكبير مصر إذا كان آباؤنا عبيدا أذلاء مقهورين في وطننا الصغير أخطاب.. أنكم أملنا الأخير”.
تعليق واحد