نجاة علي تكتب: الاحتفاء بالقيمة

أظن أن هناك أشخاصًا على المرء أن يمتنَ لوجودهم في هذا العالم، لأنهم يمنحوننا بحضورهم شيئًا من الطمأنينة والأمل. من بين هؤلاء الدكتور عماد أبو غازي، صاحب الهويات المتعددة، أبرزها جميعا (أستاذ الجامعة والمؤرخ والكاتب).
ربما لأسباب كثيرة ربطتُ في ذاكرتي بين عماد أبو غازي وأستاذي جابر عصفور، رغم فارق العمر بينهما واختلاف التخصص، فكلاهما مثّلَ لي معنى من معاني القيمة الثقافية الكبرى التي نفتقدها الآن -إلى حد ما- في حياتنا. وقد كان بإمكانك، مثلا، أن تختلف مع أي منهما في الرأي وأنت مطمئن- تمامًا- أنك لن تخسره أبدا، بل إنك على العكس سترى منه احترامًا كبيرًا لرأيك.
انتسب الاثنان أيضًا (أعني جابر عصفور وعماد أبو غازي) إلى مؤسسة عريقة – هي جامعة القاهرة، وكلاهما سليل لدعاة التنوير من مؤسسي هذه الجامعة، وعلى رأسهم لطفي السيد، وطه حسين وأحمد أمين، وأمين الخولي، سهير القلماوي ولويس عوض وعبد العزيز الأهواني وشكري عياد ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وعبد المنعم تليمة، وكثيرون غيرهم.
أتصور أن عماد أبو غازي انتسب إلى مدرسة طه حسين العقلانية في التفكير، وتبنى كمؤرخ منهجية الشك في كتاباته، ووضع الحقائق التاريخية- أو من يعتبرونها كذلك- موضع المساءلة المستمرة، وظل منشغلا بالبحث في قضايا الهوية الوطنية من منظور الحاضر. وفي ظني الشخصي أنه لو قدر لعماد أبو غازي أن يعيش في مصر في زمن ثورة 1919، لانتمى إلى حزب الوفد واعتنق أفكاره ومبادئه، لكن يا ترى، أين كان سيقف أبو غازي في المعركة العنيفة التي نشبتْ بين طه حسين وسعد زغلول؟
***
لا أعرف لماذا تتملكني قناعة بأن عماد أبو غازي مسكون جدًّا بمدينة القاهرة، وأنه لا يستطيع العيش في بلد آخر بعيدا عنها ويفارقها. فإذا حدث مرة والتقيته مصادفة في الطريق، وراقبتَه من مسافة كافية وهو يمارس رياضة المشي في الطريق ما بين الزمالك وجامعة القاهرة، سوف تجده منزعجًا وحزينًا من كم القبح الذي اجتاح البنايات والشوارع والمدينة كلها، والتشويه المتعمد الذي جرى لها على مدى سنوات.
منذ أيام قليلة، هاتفتُ الدكتور عماد أبو غازي لأسأله عن شيء، ففاجأني أثناء الكلام “بأنه أتم السبعين عاما”، ظننتُه يمزح في البداية، فراجعتُه، لكنه عاد ورددها مرة أخرى، ثم انتبهتُ إلى أنه يقولها وكأنه يحاول أن يستوعب كيف مضتْ الأيام سريعًا هكذا.. أما من شيء يمكنه أن يوقف عجلة الزمن!!
ربما يكمن عدم تصديقي للأمر يتعلق بروح الطفل التي أراها تسكن الدكتور عماد منذ أن عرفته، ولعلها هي ما جعلته ممتلئًا بالحيوية والنشاط دومًا. لذلك اعتقدتُ أنه لا يمكن أن يكبر أبدا أو أن ينال منه الزمن، هذا بالإضافة إلى طبيعته النقية التي تجعله لا يضمر كراهية في نفسه لأحد حتى لو أساء إليه.
***

وحين تعود الذاكرة بي إلى الوراء، ربما أكثر من عشرين عامًا، استرجع متى بدأتُ أسمع عن اسم عماد أبو غازي من بعض أساتذتي في قسم اللغة العربية الذين تربطهم علاقة شخصية به، وأيضًا من طلابه في قسم الوثائق والمكتبات الذين يعشقون محاضراته. لكنني أتصور أن المرة الأولى التي رأيته فيها شخصيا كانت في مبنى المجلس الأعلى للثقافة، حيث اضطررتُ للذهاب لتسليم بحث أعمال السنة الذي كلف الدكتور جابر عصفور دفعتنا به، وتأخرتُ أنا وبعض الزملاء –لسبب لا أتذكره الآن- عن تسليمه في الموعد المحدد.
وبعد محايلات مني ومن الطلاب، وافق أستاذي جابر على أن يعطينا مهلة أخيرة لتسليم البحث، لكن بسبب انتهاء الفصل الدراسي كان علينا أن نسلمه في مكتبه، حيث كان يشغل وقتها منصب الأمين العام للمجلس. فذهبتُ إلى هناك، وسلمتُ البحث لمديرة مكتبه ذات الخلق الرفيع الأستاذة نجلاء الكاشف، التي رحبتْ بي بلطف بالغ، واستأذنتْ من أستاذي أن أسلم عليه سريعا لأنه كان يبدو مشغولا في التحضير لمؤتمر كبير.
وبعدها بشهور قليلة، ذهبتُ للمجلس مرة أخرى بصحبة أستاذتي العزيزة فاطمة موسى، أستاذة الأدب الإنجليزي التي كانت رئيسة لجنة الترجمة آنذاك، وكانت تريدني أن أعمل في تحرير ومراجعة بعض كتب المشروع القومي للترجمة. وبالفعل شاءت الأقدار أن أعمل مع أستاذي جابر عصفور لسنوات.
***
ومن هنا تعرفتُ عن قرب على عماد أبو غازي الذي كان قد يشغل منصب رئيس الإدارة المركزية للشعب واللجان الثقافية. وكان يحظى بثقة أستاذي جابر ومحبته، وكان وجوده بجانبه يُحدث نوعًا من التوازن النسبي؛ لأن سقف طموح جابر عصفور في إنجاز مشروعات وفعاليات ثقافية تعيد للمجلس مكانه ومكانته كان كبيرا جدا، وهو ما جعله متوترًا طوال الوقت، لا يكف عن العمل، يضغط على نفسه وعلى من حوله كي يحقق ما يريد، خاصة في ظل وجود البيروقراطية المعطلة للعمل وضعف الميزانيات.
ويبدو أن طيف طه حسين كان يطارده كي يستكمل ما حلم به من نهضة ثقافية وتنوير. وأظن أن عماد أبو غازي كان يشارك جابر عصفور تلك الرغبة، لذلك تحمل- برضا تام- العبء الأكبر في تنفيذ تلك المشروعات الثقافية التي آمن بضروراتها هو أيضًا. صحيح أنهما أحيانا كانا يختلفان في وجهات النظر في بعض الأمور المتعلقة بالعمل لكن مشاعر الاحترام والتقدير كانت هي السائدة بينهما.
وفي الوقت الذي كان يزهو البعض من حولنا بما يفعل وبما لا يفعل، كان عماد أبو غازي يكتفي بأن يكون ذلك الجندي المجهول، زاهدا في الأضواء، وفي الحديث أيضًا عن الجهد الشاق الذي كان يبذله كي يخرج العمل في أفضل صورة.
***
أحسبُ أنني في بداية معرفتي بعماد أبو غازي لم أكن أعرف شيئًا عن تجربته السياسية وأصوله العائلية التي لم أسمعه يتحدث عنها أو يتفاخر بها، حتى فاجأني أحد أصدقائه ممن ينتمون للوسط الثقافي بأنه (أعني عماد أبو غازي) ليس مجرد أستاذ جامعة فقط، فقد انتمى إلى الحركة الطلابية في السبعينيات، وتعرض للسجن فترة حكم الرئيس السادات، وكاد أن يفقد مستقبله بسبب انخراطه في العمل السياسي. فأبديت اندهاشي لأن التركيبة الهادئة لعماد أبو غازي تكاد تخالف الصورة النمطية التي تكونت لديَّ عن المناضلين السياسيين الذين عرفتهم في الجامعة من أصحاب الأصوات العالية، فقد كانت الأيديولوجية التي ينتمون إليها مرجعيتهم في كل شيء، وكانوا متعصبين إلى حد إقصاء أي رأي مخالف لهم.
لكن بدا لي فيما بعد أن الهدوء الذي يميز عماد أبو غازي هو مجرد سطح يخدعك، لأنه يخفي تحته شخصًا ثائرا، يظهر أمامك فجأة في بعض المواقف. فأتذكر مرة أنني رأيته منفعلا جدا أثناء عملي معه، كان وقتها يتحدث بالهاتف مع مسؤولة الحسابات التي تسببت في تعطيل صرف مستحقات مالية شهرية لعامل مسكين. اشتكى العامل على استحياء للدكتور عماد ما فعلته هذه السيدة فانتصر له وأجبرها على إنهاء الإجراءات المالية سريعًا.
***
بدأت أستوعب مع الوقت السر الذي يجعل الجميع من حولي يحبونه بهذا الشكل. لعلها تلك الصفات الإنسانية الراقية التي تحلى بها، ومنها التسامح والتواضع واحترام الآخرين والوقوف مع صاحب الحق أيا كان. ولعل انتساب عماد إلى عائلة مستنيرة ومثقفة كان له دور عظيم في هذا التكوين. وقد رأيتُ بنفسي كيف أن هذه القيم لم تفارقه أبدا، حتى عندما تولى منصب وزير الثقافة، أو حتى حين غادر المناصب جميعا وعاد لطلابه في الجامعة ليمارس مهنة التدريس التي يعشقها.
والحق يقال إنني كنت سأشعر بالذنب وربما الندم أيضا لو لم أقل هذا الكلام الآن. لأن من حق عماد أبو غازي علينا، هذا الرجل النبيل الذي قضى أكثر من خمسين عامًا من حياته في خدمة الثقافة المصرية، سواء عبر مشاركته في تحقيق مشروعات ثقافية كبرى أو عن طريق العمل العام والتطوعي، أن نقول له شكرا، وأن نحتفي به لأن الاحتفاء بعماد أبو غازي هو احتفاء بالقيمة وبكل ما تجسده من معانٍ في حياتنا الثقافية.
شاعرة وناقدة