«نادية طه»: روايات «محفوظ» فرصة لإحياء السياحة الثقافية في القاهرة

عملها داخل القاهرة التاريخية كمفتشة آثار دفعها للبحث عن الوجه الآخر للمدينة القديمة. كان لنجيب محفوظ الفضل الأكبر في تغيير حياتها بالكامل، إذ عادة ما كان يزعجها الروتين اليومي الذي فرضته عليها الوظيفة. تقول: «اكتشفت عالم نجيب محفوظ عن طريق الصدفة. كنت أذهب يوميًا للعمل لتوقيع اسمي في كشف الحضور. كان الأمر يتم بشكل روتيني، ولم أجد ما أقوم به طوال اليوم؛ لذلك، عندما قرأت السيرة الذاتية لمحفوظ، عرفت أنه كان منزعجًا من الملل الذي سببه له الروتين الحكومي، وهذا تمامًا ما كنت أشعر به. وللمصادفة، فقد كان يعمل مثلي في منطقة الغورية، وقد قرر أن يستثمر وقته في القراءة والتجول داخل الحارة المصرية؛ لذلك ساعدني محفوظ في إعادة التفكير مرة أخرى في طريقة تعاملي مع الوظيفة الحكومية».
وبمرور الوقت، أصبحت بفضل محفوظ من دراويش المدينة القديمة، حيث فتنت بالأعمال التي كتبها عن الحارة المصرية، وأخذت تتجول يوميًا داخل الشوارع والحارات التي كتب عنها في أعماله الأدبية. تقول: «عندئذ ذهبت لأستاذي في الكلية، الدكتور حسام رفاعي، وقلت له: لماذا لا ندرس تراثنا من خلال أعمال محفوظ؟ فرحب بالسؤال وقال لي: إذن، كيف ستدرسينه؟ هل ستقومين بالاستعانة بأعماله الأدبية أم السينمائية؟ وبعدها طلبت منه الانتظار فترة من الوقت للإجابة على سؤاله. كنت في حيرة من أمري، لذلك تحدثت مع أستاذي الراحل، الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية، والذي نصحني بالتعامل مع محفوظ من زاوية الأدب لا السينما، حيث أشار عليّ أن الأعمال السينمائية لا تقدم عادة وفقًا لرؤية الكاتب، بل يكون للمخرج الكلمة الأخيرة في العمل؛ لذلك قررت الاستعانة بروايات الأستاذ «نجيب» في رسالتي للدكتواره».
مؤخرًا، ناقشت الدكتورة نادية طه، والتي تعمل حاليًا مسؤولة عن التراث الإسلامي داخل المجلس الأعلى للآثار، رسالتها للدكتواره، والتي حملت عنوان: «تراث القاهرة المادي واللامادي في روايات نجيب محفوظ». وقد أشرف على الرسالة كل من الدكتور حسام رفاعي، نائب رئيس جامعة حلوان، والدكتور الراحل حسام إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية عين شمس.
هنا نتحدث معها حول رسالتها ورؤيتها بخصوص المسارات «المحفوظية» وفرص اعتمادها خلال الفترة المقبلة، تمهيدًا لوضعها على الخريطة السياحية. كذلك نتعرف منها على رأيها فيما تحتاجه المدينة القديمة لإداراتها بطريقة صحيحة.
-
الرسالة تتحدث عن تراث القاهرة المادي واللامادي في روايات نجيب محفوظ.. لماذا اخترتٍ هذا الجانب؟
الأمر يرجع لملاحظتي المستمرة. لاحظت أن العديد من بلدان العالم لديهم نوع من السياحة يسمى «السياحة الأدبية»، وهي موجودة بشكل خاص في فرنسا وإنجلترا؛ لذلك حفزني الأمر على اختيار نجيب محفوظ ليكون بداية لما يعرف باسم السياحة الأدبية. فالهدف ليس فقط إبراز الجانب المادي للمدينة، بل تعريف السائح الأجنبي بالأدب المحلي الذي تنتجه الثقافة المصرية. وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال الخطط السياحية؛ ومن ثم تعريف شركات السياحة ببرامج السياحة الأدبية.
فمحفوظ، مثلًا، في روايته «زقاق المدق» قدم وصفًا دقيقًا للزقاق بكل تفاصيله، إذ أعطى فرصة للقارئ أن يتعرف على شكل المجتمع المصري في تلك الفترة من خلال رمزية الزقاق والشخصيات الرئيسية والمحورية بداخله، وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال تتبع المسارات المحفوظية داخل الرواية.
-
إذن، كيف يمكن تطبيق فكرة المزارات المحفوظية بشكل عملي؟
الفكرة طرحها الأستاذ جمال الغيطاني منذ سنوات، لكن محاولاتي للتعرف على ملامح مشروع الغيطاني لاستكمال ما بدأه لم تنجح. وبشكل عام، ومن خلال القراءة والتعرف على السياحة الأدبية الموجودة داخل أوروبا، فهذه الفكرة مبنية على عدة مستويات، منها مثلًا: الأماكن التي يذكرها الكاتب في أعماله الأدبية، وأيضًا حياة الكاتب ومعرفة تفاصيلها.
لذلك، قررت بناء المسارات المحفوظية بناء على الأماكن التي عاش داخلها محفوظ، ومنها منطقة الجمالية، والعباسية، والعجوزة. وقد حددت المسار الأول ليبدأ من منطقة الجمالية وينتهي عند بيت السكرية (بيت القياتي أو الأليلي). أما المسار الثاني، والخاص بمنطقة العباسية، فيبدأ من محطة مترو عبده باشا وصولًا إلى مقهى قشتمر. وأخيرًا المسار الثالث والخاص بالروتين اليوم لمحفوظ يبدأ من بيته بالعجوزة وينتهي عند مقهى ريش.
هذه المزارات يمكن البناء عليها بشكل مبدئي من خلال الروايات المحفوظية، فقد عملت على عدد 15 رواية، لكن من الممكن إضافة المزيد من المسارات، فمثلًا، يمكن لأي باحث أن يدرس رواية «اللص والكلاب»؛ ومن ثم يتتبع المسارات التي كتب عنها محفوظ في روايته. ومن حسن حظنا أن الأحياء التي كتب عنها محفوظ هي نفسها الأحياء التي عاش داخلها.

-
هل حاولت اعتماد المسارات من جانب الوزارات والجهات المختصة؟
انتهيت حاليًا من إعداد الخرائط، وأرحب بأن تستعين بها شركات السياحة، لكن من المفترض خلال الفترة المقبلة تقديمها لوزارة الآثار لاعتمادها. وأظن أن تطبيق المشروع على الأرض يجب أن يبدأ من خلال «تحسين حال» المناطق الخاصة بمسار محفوظ. ومن هذه المواقع: بيت القاضي، وضرب قرمز، وبيت بشتاك (منزل سي السيد). مع ضرورة وضع لوحات إرشادية للأماكن المحفوظية، بجانب وضع اقتباسات من رواياته داخل المواقع. لذلك، فاعتماد المشروع يجب أن يبدأ من خلال تحسين حال المناطق الواقعة في نطاق المسار المحفوظي.
-
عملت داخل القاهرة التاريخية منذ عام 2015 وحتى نهايات عام 2024.. كيف تنظرين إلى المنطقة؟ ما الذي تحتاج إليه؟
أولًا، يجب أن يتغير منظرونا للقاهرة التاريخية. ينبغي أن ندرك جميعًا أننا نتعامل مع مدينة تراثية حية، وألا يقتصر دورنا على تسجيل المباني المسجلة في قائمة وزارة الآثار. الأمر الثاني، يجب إدراك أننا نتعامل مع مدينة تاريخية لها ثقلها؛ لذلك من المهم الاهتمام بتراث المدينة المادي منه وغير المادي. كما يجب ألا يتمسك العاملون في مجال الآثار بالمدارس الكلاسيكية، وأن يتقبلوا فكرة الحفاظ على تراث المدينة الحي. فالتعامل مع المدينة من المهم أن يتم وفقًا لإطار إبداعي وليس روتيني. ومن يدير القاهرة كموقع تراثي ينبغي أن يدرك هذه الحقيقة..
-
ولكن تطبيق الأمر على الأرض يبدو صعبًا، خصوصًا أن القاهرة تعاني من تعدد الجهات المشرفة على تراثها.. هل تتفقين؟
على أي حال، يمكن حل الأمر من خلال إشراك مندوبين عن جميع الجهات في عملية إدارة القاهرة التاريخية. وهذا يعني ضرورة إشراك وزارات الإسكان، والنقل، والأوقاف، والسياحة، والآثار، والثقافة، والداخلية، إلى جانب جهاز التنسيق الحضاري. فالهدف من هذه المشاركة هو تحسين حال المدينة التاريخية والحفاظ على تراثها، سواء المادي منه أو غير المادي.
كما أنه من الضروري عقد ورش لكافة الجهات المعنية لسهولة التنسيق بينها، فجزء من أزمة التعامل مع القاهرة التاريخية هو غياب التنسيق بين الجهات، والحل يكمن في تحقيق الاستدامة عبر التنسيق والتفاعل. كذلك، ينبغي ضمان استمرارية العادات والتقاليد داخل الأحياء الشعبية، وهذا يحدث من خلال تحسين حال النسيج المجتمعي ودمجه بالتراث لضمان استمراريته. وقد لاحظت من خلال احتكاكي بالسكان المحليين أنهم على علم ومعرفة بقيمة تراثهم، لكنهم يحتاجون للمزيد من حملات التوعية.
-
أخيرًا.. ما هي خطتك للفترة المقبلة؟
أول ما سأقوم به هو تنفيذ وصية أستاذي، الدكتور حسام إسماعيل، الذي نصحني بضرورة طباعة الرسالة في كتاب باللغتين العربية والإنجليزية. إذ كان حريصًا على تقدميها للأجيال الشابة. وبالمناسبة سأظل مدينة لأستاذي حسام إسماعيل. لأنه دائمًا ما كان يحفزني على استكمال ما بدأته.
أتذكر أنه دائمًا كان يقول لي دائما: «حبي اللي بتعمليه، لأن في النهاية هيتكتب اسمك عليه، والناس مش هتفتكر أسماء الأساتذة اللي أشرفوا على العمل، لكن هيفتكروا مين اللي اشتغل وكتب الرسالة». لذلك، حفزتني كلماته على مواصلة العمل، وستحفزني أيضًا على مواصلة المشوار.
أما الخطوة التالية، فستكون البحث عن دعم لحفظ وتحسين حالة ميدان بيت القاضي، حيث ولد نجيب محفوظ وعاش جزءا من طفولته.
اقرأ أيضا:
بعد غلق «الوكالة الأمريكية للتنمية».. ما تأثير القرار على التراث المصري؟