موكب رؤية هلال رمضان في أقدم صحيفة محلية بالفيوم
أصوات موسيقى تأتي من بعيد، الجميع ينتظر بشغف، أطفال وكبار يترقبون ظهوره، الشوارع الرئيسية تكتظ بالناس انتظارا لمروره، يصعد البعض لأماكن عالية حتى يرونه بوضوح، الآباء يحملون الأطفال.
تلخص هذه المشاهد “موكب الرؤية” قديما في قرى الفيوم، الذي كان يعلن عن بدء شهر رمضان.
خط سير
بحسب جريدة “المجتمع” أهم الصحف المحلية بالفيوم، التي كانت تصدر عن “دار ابن حنظل”، لصاحبها الإعلامي ابن حنظل، يبدأ خط سير موكب الرؤية في أربعينات القرن الماضي، من أمام مقر مديرية الفيوم، الذي حل محل مديرية الأمن حاليا، ويتحرك الموكب إلي ميدان قارون (السواقي)، ثم يسير باتجاه بحر يوسف حتى يصل إلي موقع قوة المطافئ (كبري المطافي حاليا).
وبعد ذلك يعود الموكب في اتجاه موازيٍ في سيره بحر يوسف، لكن بعكس سير مياهه، حتى يصل إلى ميدان قارون ومنه إلى نقطة بدء الانطلاق، وبعد التحول إلى نظام المحافظين في الإدارة المحلية، يبدأ الموكب من أمام مقر قوة المطافئ، ثم يتحرك باتجاه وسط مدينة الفيوم بالسير أيضًا بمحازاة بحر يوسف، حتى الوصول إلي مسجد عبد الله بك وهبي، الذي كان المحافظ يقف أمامه ومعه قيادات الإدارات المختلفة بالمحافظة، ليعطي للموكب ما يشبه شارة البدء، فيتجه الموكب إلى ميدان قارون “السواقي” ومنه يعود منتهيًا عند مسجد الروبي.
ما إن يمر الموكب في عودته، ينتقل المحافظ وجميع من معه إلى داخل المسجد لحضور احتفال ديني يبدأ بصلاة المغرب ويتلى فيه القرآن وتلقى فيه العظات وتوزع فيه الحلوى، بعدها يبدأ الجميع استعدادات السحور لصوم أول أيام رمضان.
وتسهر المدينة وأحياءها وتضيء الشوارع والمحال بالفوانيس والكلوبات، كما يظهر على قمة كل حارة فرن لصناعة الكنافة والقطائف، ويظهر ليلا بائع الفول المدمس والمخلل والزبادي، ثم يبدأ المسحراتي عمله.
الصحافة المحلية
توقف مشهد موكب الرؤية، ومنذ ما يقرب من ثلاثة عقود أخذ في الاختفاء تدريجيا، لكن الصحافة المحلية حفظت هذا المشهد، ونشرت جريدة “المجتمع” في عددها السادس الصادر في أغسطس عام 1946م، في “صفحة 14” تقريرًا وافيًا عن موكب الرؤية كان بعنوان “هلال رمضان”.
وجاء التقرير: “طاف موكب رؤية رمضان شوارع مدينة الفيوم يتقدمه رجال الهجانة والسواري وموسيقى المطافئ والبوليس، ثم موكب الطرق الصوفية، وموكب أصحاب الحرف، وكان يشرف على النظام الصاغ صالح زكي مأمور البندر، وحضرة اليوزباشى، جرجس شحاته، معاون البوليس”.
وتابع التقرير: “انتهى المطاف عند سراي المديرية حيث استعرض القوة سعادة مدير الفيوم وعزف النشيد الملكي, وفي المحكمة الشرعية استقبل فضيلة القاضي رئيس المحكمة المهنئين، وألقى فضيلة الشيخ خلف السيد، واعظ الفيوم، كلمته، كما أنشد الأستاذ النشرتي قصيدة رائعة، ووزعت الحلوى، وختم الاحتفال بآيات الذكر الحكيم من الشيخ محمد الجافي”.
الموكب قديما
اختفت هذه الصورة الآن، وحرم الأطفال من مشهد احتفالي رائع كان يشارك فيه أصحاب الحرف اليدوية والعمال مع مشاركة مهمة من كافة المؤسسات الحكومية، وسط حماية وتأمين وإشراف من عناصر الشرطة.
وعن ذكريات موكب الرؤية يقول الدكتور نبيل حنظل، الخبير السياحي ورائد الإعلام والصحافة المحلية، كان موكب الرؤية يبدأ بالطواف في شوارع المدينة، حيث كان ينقسم إلى ثلاثة مواكب رئيسية، الموكب الأول حكومي مكون من وحدات من الجيش والشرطة ومعدات الأجهزة التنفيذية، والموكب الثاني ديني خاص بالطرق الصوفية، أما الموكب الثالث فكان موكب الحرفيين الشعبيين.
يكمل حنظل، كان يقود الاستعراض قائد الطابور راكبًا حصانًا متقدما الموكب المكون من فرق الهجانة والسواري، والبيادة بالجيش، وقوات من الشرطة، ومعدات المجلس البلدي.
ويضيف، تتوسط الموكب فرقة الموسيقي النحاسية، ثم يأتي الموكب الثاني، لرجال الطرق الصوفية المترجلة والراكبة على الجمال أو الخيل، وهم يحملون اللافتات والرايات والأعلام، وهم يرتدون أزياءهم المميزة، إضافة لوجود أفراد الطريقة الرفاعية التي كانت تعرض أنواع من الاستعراضات، مثل أن يخرق الرجل صدغيه بمسلة كبيرة ولا يسيل دم، ويلعب آخر بثعبان يطيعه، وينتهي الاستعراض بمرور الموكب الثالث الذي يأتي في شكل كرنفال لأصحاب الحرف اليدوية والشعبية، وهم فوق عربات تجرها بغال، وفوق كل عربة ما يميز كل حرفه ونموذج من إنتاجهم، فتمر عربات النجارين والحدادين والبنائين والمنجدين والنقاشين والنحاسين.
وكان الأهالي بعد أن ينتهي الموكب يذهبون خلفه إلى منطقة الروبي، وهي المحيطة بمسجد الروبي الأثري، فهناك كانت تباع الحلوى والفوانيس، وينشد المنشدون الأغاني الدينية، وسط جو يشبه المولد احتفالا بقدوم رمضان وإلى موعد السحور وصلاة الفجر في المسجد.
مسرح الجامعة الشعبية
يقول الخبير السياحي، إنه لم يبعد الأدباء والمبدعون عن هذه الاحتفالات، إذ كان يقدم على مسرح الجامعة الشعبية بالفيوم برنامجًا حاشدًا يتضمن المسرحيات والفنون الشعبية والموسيقى العربية والأدب،إضافة إلى سرادق ضخم كانت تقيمه المديرية في ميدان قارون “السواقي حاليا”.
وتحتفل القرى ما بيوت الأعيان والعمد، التي كانت تسمى بالدواوين، وفيها كانت تقدم ما يشبه اليوم موائد الرحمن، وبعدها تبدأ السهرة بتلاوة القرآن والمنشدين.
وفي المقاهي كانت السهرات يحييها الشاعر أبو ربابة، الذي يحكي قصة الزناتي خليفة وبطولات ذات الهمة وعنترة ابن شداد، فضلاً عن المواويل والإنشاد الديني.
تعليق واحد