من نجيب محفوظ: أربع رسائل.. وأربع روايات
بدأ نجيب محفوظ التفكير في كتابة روايته “أولاد حارتنا” عام 1934. ربما يكون الأمر مدهشا، وخاصة أن الرواية نشرت في جريدة الأهرام عام 1959 أي بعد ربع قرن كامل. هذا ما تكشف عنه واحد من الرسائل التي ننشرها هنا. في مايو 1934 حملت مجلة “المعرفة” مقالا لكاتب شاب يدعى نجيب محفوظ يقدم فيه قراءة لرواية جورج برنارد شو ” العودة إلى متوشالح”.. كتب محفوظ ثلاث حلقات عن رواية شو.. وكيفية يمكن توظيف الشخصيات الدينية داخل النص الفني. والصراع بين العلم والدين. مات بطل رواية شو عن عمر 950 عاما.. وكانت أمنية بطل الرواية أن يتمكن العلم من تقديم اكتشافات تطيل من عمر الإنسان.. ليتجاور الـ300 عاما.. وهو عمر الحكمة حسب رأى الفلاسفة. يكشف محفوظ في رسالته إلى مترجم “أولاد حارتنا” الانجليزى فيليب ستيورات تأثره برواية شو ، بل “إنه الكتاب الغربي الوحيد الذي يمكن إقامة علاقة بينه وبين أولاد حارتنا”. هذا الاعتراف قد يعيد تقديم قراءات نقدية جديدة للرواية الأكثر إثارة للجدل فى تاريخ الأدب العربي. وخاصة أن متوشالح كما هو معروف ابن النبى إدريس وجدّ النبى نوح، توفي عن عمر يناهز الـ969، قبل سبعة أيام من بداية الطوفان، كما تقول المراجع التاريخية، وكتب «برنارد شو» روايته عام 1921. وهذا يمكن أن يقدم تفسيرا جديدا لشخصية الجبلاوى، ليس باعتباره شخصية أسطورية، إنما شخصية بشرية!
حكاية محفوظ مع أدب الرسائل متشعبة، يقول: “ما من أديب عربي أرسل لي رسالة إلا وعنده رد منى”.. هكذا تحدث محفوظ ذات مرة، كانت الرسائل جزء من تواصل أديب نوبل مع القراء أو المثقفين. كتب رسائل إلى أم كلثوم، وطه حسين، وبعد أن اكتشف رحيل المويلحي كتب له رسالة يبكيه فيها ولكنه لم يرسلها، وتبادل رسائل مع أصدقاء الطفولة بعد سفره إلى خارج مصر، وكانت رسائل غير رسمية، بلا تكلف، جريئة من بينها ما يقرب 20 رسالة إلى صديق دراسته الدكتور أدهم رجب.
وفي رسالته إلى مترجم روايتيه “السكرية”، “بداية ونهاية” إلى الفرنسية فيليب فيجرو (Philippe Vigreux) يجيب على بعض أسئلة المترجم الخاصة بالرواية، متمنيا أن يقوم بترجمة الحرافيش. وفى رسالته الثالثة.. يكشف عن أوضاع بداية الخمسينيات “كان الألم كثيرا.. والأمل قليلا”.. أما رسائله إلى صديق دراسته د.آدهم رجب يمكن أن تقدم رصدا لبدايات محفوظ، وتأريخا لقاهرة الأربعينيات. وفي الرسالة المنشورة يشير محفوظ إلى رواية “خان الخليلي” وبطلها شكري ابن شقيقته.. ويعتبرها أنها “الماستربيس” بالنسبة له. ولم يكن الأمر حقيقيا فقد كتب محفوظ العديد من الأعمال الهامة التى يمكن اعتبارها أعمالا فذة. هنا الرسائل الأربعة، وقد نشر الرسالة الأخيرة الصحفي ضياء الدين بيبرس في مجلة أكتوبر عقب فوز محفوظ بنوبل عام 1988.
إلى مترجم أولاد حارتنا فيليب استيوارت:
عزيزي الأستاذ فيليب ستيورات
تحية طيبة، وتهنئة خالصة على المولودتين الجديدتين: 1- ابنتكم 2- روايتكم، ومعذرة عن تأخري فى الرد فقد أمضيت الصيف وجزءا من الخريف في الإسكندرية لأسباب صحية ولكنى الآن في صحة لا بأس بها. وقد قرأت مقالتك، وأعجبت بفكرتها، ووجدت فيها حلا موفقا بين من اتهموا روايتي بالإلحاد ومن وصفوها بأنها عمل صوفي. وأعجبني كذلك متابعتك لأصلها عند برنارد شو، وهذا يتفق مع إعجابي به وبعمله الكبير “الرجوع إلى متوشالح ” بصفة خاصة. ولعل الدكتور مندور كان الناقد الوحيد الذى ألمح إلى مثل هذه الفكرة عندما قال عنى أنى نقلت فكرة تقليدية عن الله دون تعرض لله ذاته. أنك جدير بكل شكر، أولا لترجمتك الرواية بأسلوب شهد له كل من قرأه بالجودة والجمال، وثانيا بكتابة هذا المقال هذا المقال الجيد. ولك منى أطيب التحيات.
إلى مترجم “السكرية” فيليب فيجرو:
صديقى الأستاذ فيجرو
تحياتي وأشواق، مع سرورى لعلمي بشروعك فى ترجمة “بداية ونهاية”، وكنت رجوت مدام فخرى أن تعهد إليك بالحرافيش ولكن للأسف كان قد فات الأوان. أهنىء نفسي وأهنئك بالانتهاء من ترجمة “السكرية” ولكن ينسلا فضلك أدبنا العربى على مدى الدهر ما بذلك من جهد وما أصبت من توفيق. وإليك يا عزيزي الإجابة على تساؤلاتك:
- الصحيح والأسهل فى الفهم ما رأيت، وما جاء فى طبعة دار القلم خطأ.
- الحقيقة لا أذكر اليوم من مات من أبناء ياسين، ويستحسن أن تترجمها كما وردت فقد تكون الإشارة إلى ذلك سبقت فى “بين القصرين”.
- في جملة “المسألة تتوقف على الآباء” تعريض بما هو معروف عن سيرة ياسين.
- سي عبده اشتهر به عبده الحمولي.
- سيدى المتولى ولى.. وبه يسمى العامة بوابة زويل فيقولون بوابة المتولى لقربها من ضريحه.
- اسم فورستر يكتب هكذا… (forster).
وستجدني دائما رهن إشارتك، رغم أن الضغط على لم يخف حتى الساعة. ولك صادق التحية والمودة.
(21 -4-1989) المخلص نجيب محفوظ
إلى منير شفيق:
أخى منير
تحياتى إليك. وأرجو أن تكون فى حال جيدة وسعادة شاملة بعد ما أصابك بسبب نهاية “بداية ونهاية”.. ومعذرة عن هذه النهاية فقد كتبت القصة لأول مرة عام 1950، وكان الألم كثيرا والأمل قليلا. وعن “بين القصرين” فسوف تطبع هذا العام. أما خان الخليلى فأظن أنك لن تجدها إلا فى دار روزاليوسف. ودمت.
المخلص: نجيب محفوظ
إلى أدهم رجب
عزيزي أدهم الساذج..
تحيتي إليك في وحشتك الإسكندرانية التي أعتقد أنها وحشة “محلية” تقتصر على بيئتك، لأن الإسكندرية سوق أدب كبيرة وهل أنسى أن مكاتبها طلبت رادوبيس مثنى وثلاث، ولكنك وقعت في جماعة متخصصة يصدق عليها المستعان على ما يصفون، ألم أقل لك شد الرحال إلى مصر وادخلها آمنا ولك فيها متاع إلى الأبد؟ لقد أنشأنا ندوة أدبية في قهوة عرابي تجتمع كل جمعة وتحتفل بأدباء لجنة النشر الجامعيين وغيرهم من أدباء الشباب ثم تدور المناقشات وتقرأ المؤلفات حتى لقد فات مأمون وهددنا أكثر من مرة بالضرب والطرد.
وسروري بشروعك في الكتابة لا يوصف وموضوعك جليل يتسع فيه المجال ويا حبذا هو من موضوع أتوق لمثله لأني كما تعلم أجهل بالريف منك في الأدب، لا مؤاخذة لابد من مزاح ولعله يمكن أن يلهمني شيئا أكتبه عن الفاكهة المحرمة علي، اكتب وتوكل على الله فالأديب الحق في أوله عبارة عن سلة مهملات وإني بالاستقالة فمادمت تتصدى لموضوع اصطلاحي فينبغي أن يكون رائده الأمل لا اليأس أو فما الفائدة من كتابته كتابة الاجتماعيات غير الفن للفن؟
أم كلثوم أجهدت نفسها أمس لدرجة الإعجاز أنا الآن أكتب رواية ربما كانت الـ(master piece) بتاعي وأخشى ألا اكتب مثلها في المستقبل، وأرجو أن تكون أقوى قصة مصرية بغير استثناء وسوف ترى وهي عن المرحوم شكري ابن أختي، أرجو أن تكتب لي على ورق أبيض وبخط واضح وأن تبلغني نشاطك الأدبي أولا بأول، ومني لك القبل.
المخلص: نجيب محفوظ
اقرأ أيضا
وقائع معركة مجهولة بين محفوظ وعباس صالح
ماذا قال أبطال أعمال نجيب محفوظ على الشاشة عنه؟
15 تعليقات