«من رسائل العميد» إلى هيكل باشا: في نقد «ثورة الأدب»
أخي العزيز:
قرأت كتابك الممتع الذي تنشره الرسالة اليوم وستنشره السياسة بعد غد وسيقرؤه الناس مرتين. فأذن لي في أن أشكر لك هذا الكتاب أجمل الشكر، لأنه راقني حقا وأثار في نفسي من حبك والإعجاب الشديد ببراعتك ولباقتك ما تثيره آثارك الأدبية كلها في نفسي حين اقرأها. وأذن لي في أن أعود فأثني عليك لأني لن أتعب من الثناء عليك، ولن يعنيني أن أدهشك أو أخجلك، أني لم أتعود قط أن أحفل بدهشك أو خجلك. وإنما تعودت أن أقول الحق سواء عليّ إرضائك حتى أنتهى بك إلى الخجل أم أسخطك حتى أنتهى بك إلى الثورة أو إلى غضب هادئ فيه مكر هو أشد من الثورة.
فاخجل يا صديقي ما وسعك الخجل، وادهش يا صديقي ما وسعك الدهش، واغضب يا صديقي ما استطعت احتمال الغضب. فأنت كاتب بارع، وأديب فذ كثير الإنتاج كأنك الجني قد أخذت تحب الإعلان بعض الشيء في هذه الأيام حتى أنك لتنشر ردك علي مرتين وفيك إسراع إلى الحكم وفتور عن البحث ورغبة عن الاستقصاء تضطرك أحيانا إلى الخطأ وتصرفك أحيانا عن الحق. وفي أسلوبك الرائع البارع وبيانك الفائق الرائق شيء من الضعف بقربه أحيانا من الابتذال..
ويخيل إلي أيها الصديق العزيز أن هذه الملاحظة وحدها هي التي آلمك بين الملاحظات الأخرى التي أخذت بها كتابك ثورة الأدب. فأذن لي في أن أصر عليها وألح فيها.. وأذن لي في أن أصر أيضا على كل رأي فيك لا أغير منه حرفا، ولا أنقص منه شيئا.. فأنت تجيد حتى تصل إلى الإبداع وتضعف حتى تشرف على الابتذال. ولك أن تلومني ما شئت لأني لم أهدك إلى واضع الضعف في أسلوبك فقد يئست من هدايتك. لأنك كما تقول محب لأسلوبك كما هو مشغوف به على علاته لا تريد أن تغيره ولا أن تصلح مواضع النقص فيه.
**
وكل ما أخشاه أيها الصديق أنما هو أن تتهمني بالإسراف عليك والغلو في نقدك وقد كنت هممت أن أضرب الأمثال من ثورة الأدب لضعف أسلوبك فيه أحيانا، ولكني كرهت ذلك واكتفيت بالإشارة. فأما وأنت لا تحب الإشارة ولا ترضى إلا التصريح. فأذن لي في أن أضع يدك على طائفة من مواضع الضعف لا في ثورة الأدب بل في هذا الكتاب القيم الذي ترد به علي في الرسالة اليوم وفي السياسة بعد غد..
فأنت تقول في هذا الكتاب ولست أخفيك ولعلك توافقني على إن الخير في أن تقول ولست اخفي عليك وأنت تقول ويرى أنها ماتزال لما تهدأ.. ولعلك توافقني على أن لما هنا ثقيلة جدا مفسدة للأسلوب لوقوعها هذا الموقع النابي بين فعلين. وأنت تقول لن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا.. ولعلك توافقني على أن الصواب إلا إياي. ومثل هذا كثير أيها الصديق العزيز في هذا الكتاب وفي ثورة الأدب.. ولعلك ترى أن الخطأ والابتذال شيء. وأن البساطة والإيجاز والقوة شيء آخر.. وأنك تستطيع – إن أردت- أن تكون بسيطا موجزا قويا دون أن تخطئ أو تدنو في الابتذال..
**
أما بعد فقد أعجبني منك أيها الصديق أنك سجلت في كتابك على ثنائي عليك كله تسجيلا.. ففيم كان هذا التسجيل؟ أخائف أنت أن أنساه؟ وكيف أنسى ما سجلت المطبعة؟ أخائف أنت أن أنكره؟ فثق بأني قد أثنيت عليك صادقا وما تعودت أن أعطي باليمين وأسترد بالشمال؟ بعض هذا المكر وبعض هذا الذكاء.. فالأمر بينك وبيني أرفع من المكر وأمتن من الدهاء وأوضح من أن يحتاج إلى التسجيل والتشديد في الحساب..
أما بعد فهل تأذن لي في ملاحظة يسيرة جدا كنت أود لو لم احتج إليها، ولكن حياة الأدباء في هذه الأيام تضطرني إليها.. كم أحب للأدباء ألا يضيقوا بالنقد وألا يحفلوا بالرد عليه إلا أن تدعو إلى ذلك حقيقة علمية لا ينبغي إهمالها، فماذا يعينك أن يحسن رأي الناس أو يسوء في أسلوبك، فإن كان هذا يعينك أو يؤذيك، فالخير في أن تجعل هذا سرا بينك وبين نفسك لا أن تعلنه إلى الناس.. وأنا أرجو أيها الصديق العزيز أن تقبل مني تحية كلها الحب والإعجاب..
مجلة الرسالة- 15 يونيو 1933
اقرأ أيضا:
ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور
«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟