من جديد.. معاول الهدم تستأنف إزالة الجبانات التاريخية بعد وقف الدفن بها
عادت معاول الهدم سيرتها الأولى في استباحة جبانات القاهرة التاريخية، وسط حالة من التعتيم الحكومي بعد فرض سياج من الغموض، ومنع موثقي الجبانات من الدخول، وإخلاء المقابر من أي شهود. ليلف جو من إخفاء الحقيقة حول مصير المقابر التراثية التي تقرر على ما يبدو التضحية بها. فما يدور مؤخرا من إجراءات توضح معالم هجمة غير مسبوقة على جبانات القاهرة. ستتركها حطما بعد إزالة العديد من المقابر التراثية بما تضمه من محتويات نادرة.
الأنباء التي ترشح هذه الأيام من مصادر متعددة تحدثت لـ«باب مصر» أكدت أن أعمال الهدم والإزالة ستبدأ خلال أيام. بعد اتخاذ عدة إجراءات للبدء في أعمال الإزالة التي يتوقع أن تكون الأكبر في تاريخ الجبانات خلال العصر الحديث. إذ تم إخلاء منطقة ترب الإمام الشافعي من السكان الذين يقطنون أحواش المقابر. وتم الطلب من حراس المقابر والترابية بمغادرة المكان. فضلا عن منع التصوير داخل الجبانات، وترددت معلومات عن تجريد بعض الأحواش من تراكيب رخامية غاية في الجمال والندرة من قبل مجهولين. ولم يتم التأكد من صحة هذه المعلومات بسبب إغلاق الأحواش.
***
الحديث عن إزالة المقابر بترب الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، تزامن مع إعلان محافظة القاهرة في 19 مارس دراسة المسار البديل لطريق صلاح سالم تمهيدا لبدء التطوير. ولا يعلم يقينا المسار الذي ستمر منه الطرق والكباري الجديدة التي تشكل المحاور المرورية الجديدة لمنطقة غرب القاهرة. إلا أن الواضح هو التضحية بالجبانات خصوصا أن محافظة القاهرة وزعت في منتصف إبريل منشورا رسميا على الترابية وحراس المدافن. بوقف الدفن في مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة. ونقل الجثث وعمليات الدفن الجديدة إلى مدافن التعويضات بالعاشر من رمضان.
الأمر لم يتوقف عند الجبانة الشرقية للقاهرة والتي تشمل منطقة الإمام الشافعي والإباجية والتونسي والتي تعرضت لانتهاكات متتالية خلال العامين الماضيين. بل أن عمليات الإزالة للمقابر يبدو أنها ستتمدد شمالا صوب ترب باب النصر. إذ أصدرت محافظة القاهرة منشورا لمدير مديرية الشؤون الصحية بالمحافظة يتضمن قرار المحافظ بـ”إيقاف الدفن بجبانة باب النصر”، ما يعني أن عمليات “التطوير” ستزور تلك المنطقة قريبا، ربما لتوسيع شارع البنهاوي وخلق مساحة بإزالة المقابر لخلق ساحة انتظار تخدم الفندق الغريب الذي يقام حاليا داخل القاهرة المسورة من جهة باب الفتوح.
***
الأزمة أن الجبانات التي يفترض أن تتعرض للإزالة بشكل كبير، تضم العديد من الأحواش والمقابر التي تعود لشخصيات سياسية وثقافية مهمة في التاريخ المصري. ففيما يخص منطقة ترب الشافعي والسيدة نفيسة؛ من المتوقع إزالة حوش محمد راتب باشا السردار، وحوش عائلة العظم السورية. والفريق إسماعيل سليم باشا، ورشوان باشا عبدالله، والبرنس يوسف كمال. ونشأت دل قادن زوجة الخديوي إسماعيل، وعلي باشا فهمي، ومحمود سامي البارودي، وأحمد شفيق باشا، وإبراهيم الهلباوي. ومحمد محمود باشا، وحوش إسماعيل حقي أبو جبل، وغيرها من أحواش في مسار التوسعات.
أما إذا انتقلنا إلى باب النصر، فسنجد مجموعة من الأحواش الخشبية ذات الطراز المميز. كما تقع قبة تعرف باسم معبد الست زينب العلوية، وهو موقع قديم يعود إلى العصور الوسطى وقد ذكره المقريزي في (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار). وكما ذكره غيره من كتاب المزارات، ويعد معبد زينب نقطة استدلالية غاية في الأهمية للباحثين في تراث القاهرة، كونه واحد من أقدم المواضع في ترب باب النصر. ربما لا يسبقه في هذه المنطقة إلا قبة أمير الجيوش بدر الجمالي المعروفة باسم قبة السعدي. وإذا كانت الأخيرة بعيدة عن عمليات التوسعة المتوقعة لشارع البنهاوي، فإن قبة الست زينب قريبة جدا من نهر الشارع باتساعه الحالي، فهل سيتم إزالتها من أجل التوسعة المتوقعة؟
***
المخاوف من الإجراءات المستجدة لها ما يبررها، لأنها تأتي ضمن خطة حكومية معلنة لإزالة 2760 مقبرة بهدف إنشاء مجموعة طرق وكباري. إذ شهد العام الماضي تعديات بالجملة على جبانات القاهرة. وصلت لذروتها بمحاولة هدم مقبرة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في أغسطس الماضي. ولم تتراجع الحكومة إلا عندما تحول الأمر إلى أزمة رأي عام. هنا اضطرت القاهرة التراجع عن تدمير مقبرة طه حسين. وإن أزالت كل المقابر المحيطة بها، فضلا عن بناء كوبري فوقها أطلقت عليه كوبري طه حسين!
واستمرت التعديات قبل أن تتوقف في سبتمبر الماضي نتيجة حملات على مختلف المستويات من معنيين بتراث المدينة. لكن مع ضرب ستار من الكتمان الكثيف في ترب الشافعي والمنطقة القريبة منها، تزامن ذلك مع توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي، لتشكيل لجنة برئاسة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي (تخصصه الدقيق: تخطيط مدن)، لدراسة آليات التعامل مع مقابر الشافعي والسيدة نفيسة. لكن على ما يبدو أن توصيات اللجنة لم تلق آذانا صاغية ما دفع أربعة من أعضائها للاستقالة في يوم واحد.
***
الآن نعود إلى المربع صفر، هناك على الأرض إجراءات إزالة واسعة للمقابر لا أحد يعلم مداها في ظل تعتيم إعلامي ومنع للتصوير في الجبانات. وتجاهل كامل لكل التوصيات والمطالب من المتخصصين والمهتمين والمحبين. بل وعدم الاستماع للحلول البديلة التي تحقق الاستفادة المرورية من منطقة الجبانات دون المساس بها وما تحتويه من كنوز تراثية. لا تقتصر على ما هو موجود على السطح من أحواش تعود إلى مائتي عام في المتوسط. بل أن الحقيقة التاريخية التي يعرفها جميع المتخصصين أن جبانات القاهرة مبنية كطبقات فوق بعضها البعض، تعود أقدمها لنحو 1400 عام تقريبا.
تواجه الجبانات تعديات غير مسبوقة في اللحظة الراهنة، بهجوم سيحذف من سجلات الوطن كنوزا تاريخية وتراثا فريدا لا يمكن استعادته. فنحن هنا لا نقف أمام التطوير ومشروعات التطوير. بقدر المطالبة بتوازن واضح واهتمام حقيقي بتراث هذا البلد وما يحتويه من تنوع وفرادة يستحق الحفاظ عليه، والتعامل معه بحرص شديد. من هنا رفضنا للتعدي على الجبانات وما تشكله من أهمية كونها جزء من تراث القاهرة. تلك المدينة التي عاشت جباناتها لألف عام لم تشهد فيها مثل هذا الخراب والعدوان الحاصل في يوم الناس هذا!
اقرأ أيضا:
قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة