منصورة عز الدين في «أطلس الخفاء»: عندما يخلق الروائي جنته الخاصة
أفكر أحيانا في أن الروائي– كل روائي– يشبه روايته، وأن كل روائي يكتب بالطريقة التي كان سيعمل بها في المهنة التي تشبهه، والتي كان يمكن– لو ضل طريقه للكتابة– أن يمتهنها. ثمة روائي معماري؛ لا يعمل إلا في أرض خلاء، يقيم معمارا ليشغلها. معمارا لم يسبقه إليه غيره، مثل نجيب محفوظ. وثمة روائي بنّاء؛ يمكنه إعادة بناء المعمار نفسه عددا من المرات، لكنه يفعلها بمهارة كبيرة، مثل إحسان عبد القدوس. وثمة روائي غنائي؛ كان يمكن أن يكون شاعرا غنائيا، حتى ولو لم يكتب عن الحب، مثل بهاء طاهر. وثمة روائي حكّاء يدور في الساحات الشعبية ليروي سير شعبية عن البسطاء، وينشدها أحيانا، مثل خيري شلبي. وثمة روائي يشبه منسقي الحدائق؛ يعرف كل نبتة وكل لون وكل عطر، يؤمن بأن الجنة– تلك التي غادرناها مضطرين– يمكن أن نخلقها حيث نكون.
منصورة عز الدين تبدو لي مثل ذلك الروائي منسق الحدائق؛ لا تزاحم أحدا، ولا تشغلها المزاحمة. لا تقيم معمارا لأنها ترغب في انبساط الفضاء أمامها، في أن تتمكن من مد البصر من أية زاوية وركن لتتطلع إلى الأفق. يمكنها من مكانها رؤية العالم كما لو أنه خُلق لتوه.
في روايتها الأخيرة “أطلس الخفاء” 2022 الصادرة عن دار الشروق ثمة شخص يتأهب للإحالة للتقاعد، مطلّق، يرغب في اعتزال العالم، للحد الذي يجعله يخلق العزلة إن لم يجدها. يعمل في جريدة قومية لكنه يعمل على هامشها: في الأرشيف. وبحجة تحسين دخله– رغم عدم حاجته لذلك– فإنه يعمل مصححا لغويا، لأنه يرغب في تصحيح خريطة العالم، فإن لم يكن قادرا على إصلاح العالم فعلى الأقل يمكنه إصلاح أخطاء اللغة التي يجترؤها الذين يسكنونه. وهو في عزلته يهيم في استبصاراته: استبصارات سريالية أقرب للأحلام لكنه يبصرها متيقظا. وهي كالأحلام يغيب عنها الصوت، أي صوت، وفي المرات النادرة التي يبدو فيها كأنه يسمع أصواتا ما فإنه يدرك انبعاثها من عقله أو في عقله لا من العالم، حتى ولو كان العالم مجرد استبصار.
**
مادة الاستبصارات هي مادة ذاكرته لكنها تبدو كأنها ذاكرة أقدم، كأنها ذاكرة لا تخصه وحده؛ وإنما تخصنا جميعا؛ تخص أسلافنا. وعلى الرغم من أن أسلافنا ليست لديهم أخته ولا حبيبته ولا جدته ولا أمه، فإن أسلافنا كانت لديهم أخت وحبيبة وجدة وأم، كما لو أن سيرته الذاتية هي سيرتهم الذاتية، أو فلنقل إن سيرته الذاتية هي السيرة بألف ولام التعريف. سيرة من الرغبة في الاختفاء، ليس الرحيل، ولكن الاختفاء. إن يكون المرء غير مرئي مسألة، وأن يكون غير موجود مسألة أخرى. بالنسبة لهذا الشخص– مراد– فإن انعدام الوجود هو المراد، لكن انعدام الوجود بالنسبة له يساوي الوجود المكتمل، يساوي استعادة لحظة من التاريخ لا يمكن استعادتها: لحظة الوجود في “العالم الأول الذي وطأته أقدام آدم وحواء بمجرد نفيهما إلى الأرض، أو ربما تمثل الجنة نفسها”.
هذه اللحظة هي المعنى الحقيقي لاستبصارات مراد، تلك الاستبصارات التي قرر تدوينها بنفسه، والتي حدس أنها لا تتجلى إلا للمختارين، والتي تشبه “نثار من ذاكرة جمعية موروثة”. لهذا السبب فإن زمنها يمتد لـ “ذكريات الجنين”. يقول مراد: “أنا متأكد من أنني أعتاد سماع هذه الأصوات والإيقاعات، فيما أسبح في عتمة الرحم، وها هي تجلياتي مشكورة تعيدني إلى أيام هناءاتي غير الواعية”.
**
في الرواية صوتان: صوت الراوي العليم الذي يشكّل السردية الإطار التي يتحرك فيها مراد كشخصية حقيقية لديه عالم محدد ووظيفة معلومة وبيت يطل على شارع يمر به الغرباء. وصوت مراد نفسه خلال تدوينه لاستبصاراته. ورغم أنه– مراد في السردية الإطار– يدرك أن استبصاراته غرائبية فإنه يفكر في البداية في تدوينها بضمير الغائب “فمراد المستبصر لا يشبه شخصه الضعيف الفاني، بل هو تجسّد أرقى وأعلى وأعلم من ذاته” لكنه يعود ليقرر تدوينها بضمير المتكلم ذلك لأنه “لا مسافة تُذكر بين حالين للشخص نفسه، وإشراقاته ينبغي نسبها له وحده”.
فهو أنا والآخر، أنا والنحن، واستبصاراته لا تخصه وحده بل تخص الجميع، كما لو أنه وسيطا بيننا وبين العالم: العالم اللازمني، حيث اللاوجود يعني الوجود نفسه. وربما بسبب ذلك فإن العالم الذي يستبصره يميل للانحدار، لكن الانحدار هنا لا أظنه جُغْرَافِيًّا أو مَكَانِيًّا ولكن انحدار زماني إذا شئنا، كما لو أنه حفر في الزمن لا في المكان، كما لو أن الإنسان لن ينتهي في حفرة وإنما سينتهي في فجوة زمانية ما، فجوة ربما تعيده لأول الخلق.
**
الاستبصارات أيضا تطرح الأسئلة بخصوص الوجود، ليس فحسب بخصوص وجود مراد في العالم وإنما بخصوص الوجود البشري نفسه، كما لو أن أية وجود بشري هو ممثل للوجود في أكثف حالاته وأكثرها تمددا. في إحدى الاستبصارات يشاهد مراد سفينة تُبحر عند الأفق فيتساءل إن كان على متنها شخص ذو شأن “أينشتين جديد مثلا أو إنسان سوف يلعب دورا ولو بسيطا في إخراج العالم من بؤسه” لكنه يتساءل “متى خلا العالم من البؤس؟ ومن بإمكانه إضفاء معنى على المعاناة والرتابة؟”.
ويرى في استبصار آخر مجموعة من الحاصدين الذين “يؤدون مهمتهم بهمة، ومع هذا لا يبدو لي أنهم يحققون تقدما يُذكر” ورغم تعاطفه مع الحاصدين فإنه يكتفي بالتلصص عليهم فلا يمد يده لمعاونتهم ولا يفكر في تحذيرهم من عبث ما يقومون به. يقول “حتى لو عرفت، بالقدر المخاتل الذي يتيحه الحدس من معرفة، السر الكامن خلف هؤلاء الحاصدين ومهمتهم العبثية، فلن يفيدني هذا في شيء، والأهم أنه لن يفيد قوم الحُصاد هؤلاء، فمصيرهم– كما يتراءى لي– محدد سلفا”.
**
لكن يظل الاستبصار الأكثر رؤيوية والذي يشكل نقطة البدء في معرفة الطريق لإصلاح العالم وما أفسدته الضغينة هو الاستبصار الأخير لمراد: “قلبي يحدثني بأن الشقاق الحقيقي بدأ على الأرض بالطوفان وما أحدثه من هوة لا سبيل إلى تجسيرها بين البشر؛ هوة تقسمهم إلى أشرار وأخيار، هالكين وناجين، من آمنوا بالفلك طوقا للنجاة ومن كفروا به وسخروا من صانعه. وعلى الرغم من هذا، أؤمن بأنني قادر على تطبيب هذا الجرح ومحو آثاره إن دفعت كل طرف لإدراك وجود الطرف الآخر، ولو عبر الحدس والخيال”. هذا الاستبصار يمكن أن نحدس بأنه يقود الرواية نفسها بين طرفي الواقع والاستبصار، بين العالم كمادة وبين العالم كروح، ونقطة تلاقي السردين: السرد الإطار الذي ينتظم في لغة استعمالية، والسرد التدويني الذي ينتظم في لغة مجازية، بين عالم الواقع وبين عالم الخيال، بين اليقظة وبين الحلم، بين الصخب: صخب الشوارع وضجيج المدينة وبين صوت عبد الوهاب وموسيقاه، بين المتن والهامش أو الأرشيف، بل وبين الغياب والحضور.
تمثل أطلس الخفاء فصلا جديدا من فصول المشروع الروائي الكبير الذي تعمل عليه منصورة بدأب وهدوء منذ روايتها الأولى متاهة مريم 2004. واللافت والباعث على الإعجاب في هذا المشروع أنه متفرد للغاية، ويشبه أغاني عبد الوهاب الذي يبدو أن منصورة تتشارك الافتتان به مع بطلها، خصوصا أغانيه المبكرة الرائقة مثل “عندما يأتي المساء” التي لها سحر وطلاوة لا تضاهيها أغان أخرى.
اقرأ أيضا:
حاتم حافظ يكتب: 100 عام من الحركة النسائية.. ما الذي تحقق؟