“منديل الحلو” أقدم رسالة غرامية في الصعيد لم يغب عن حكايات العارفين
حين غنى المطرب الراحل عبد العزيز محمود أغنيته الشهيرة “منديل الحلو” كان يتحدث بلسان آلاف العاشقين الذين اتخذوا من “المنديل” رسولا للحب، يحمل نفحات الهوى المنبعثة من أنفاس صاحبه أو كتذكار من الحبيب نسجت عليه قسماته وكلماته.
وفي الصعيد قديما، كان “المنديل” الوسيلة الوحيدة للتواصل بين المحبين في خلسة عن الأهل، خوفا من التوبيخ والعقاب، في ثقافة كانت وما زالت تنظر للحب بشيء من الحذر الشديد، لكن ذلك لم يمنع المحبين من التواصل في الإطار المقبول مجتمعيا وهو الخطوبة والتي كانت تسمح بزيارات تتم بشكل دوري وفي حضور الأهل، وبرغم ذلك نجح بعض المحبين أو -المخطوبين- في اقتناص لحظات كان المنديل هو بطلها.
ثقافة المنديل
يشير الدكتور وائل سليمان، أستاذ التاريخ الروماني، إلى أن المنديل القماشي عرف في مصر القديمة وتحديدا في فترة الدولة الحديثة ( 1550 ق .م ) وكان قاصرا على الملكات والأميرات، حيث وجدت بعض الصور لملكات تحمل قطعة قماش تستخدم في مسح الوجه من منطلق الرقي الحضاري والاهتمام بالنظافة الشخصية لأفراد العائلة المالكة، واستمر التقليد معروفا في العصور التالية واتخذ شكله القريب من الشكل الحالي في العصور الرومانية (31 ق.م ) ليصبح المنديل من مقتنيات النساء للمحافظة على شكلهن نظيفا وبراقا، وينفي سليمان أن يكون المنديل قد استخدم استخداما ثقافيا في تلك الفترة.
ويلفت محمود حشمت، باحث في التراث، إلى أن المنديل في الثقافة الشعبية العربية له استخدامات عديدة، لافتا إلى أن المقطوعات الأدبية الشعرية التي تتحدث عن الحب والمحبين استخدمته كرمز للحب أو الحبيب، كما استخدم في الجنائز من قبل السيدات للتلويح به وتوديع جثمان الحبيب وفي طقوس الزواج يعد المنديل طقسا أصيلا وهو تغطية يدي العريس ووكيل العروس بمنديل قماشي، غالبا ما يتنافس الحضور على خطفه تيمنا به لجلب الحظ الجيد في الزواج.
ويوضح حشمت أن ابرز استخدام للمنديل في الموروث الشعبي هو منديل ليلة الدخلة والذي كان تقليدا قديما في صعيد مصر لإثبات عذرية وطهارة العروس حين يعرض محتويا على دماء العفة، موضحا أن هذا التقليد اختفى تماما حاليا من مدن وقرى والصعيد .
الإشارة في المنديل
بابتسامة مشربة بحمرة الخجل وبعد أن أصرت ألا أذكر اسمها وان أشير إليها فقط بالحاجة، 80سنة من عزازية دشنا، تقول إن التقاليد بدشنا قديما كانت تمنع الخطيب من أن يرى خطيبته إلا في ليلة العرس، وكانت عملية الرؤية مقصورة على أقاربه من النساء فقط، مثلا والدته أو أخته وكانت إحداهما تصف له العروس وصفا شبه دقيق من حيث الطول والعرض والقوام والملامح، ولكن كان العريس دائما ما يحاول اقتناص لحظة يستطيع أن يرى العروس رأي العين.
وتضحك قائلة: “والعروسة كمان حتموت وتشوف عريسها” ، وتروي الحاجة أنها كانت مخطوبة لقريب لها ولكنها لم تره ولم يرها، وفي أحد الأيام وبينما كانت خارجة بصحبة قريبة لها لشراء مستلزمات الزواج، لمحت شخصا يتبعها وإذا ما توقفت توقف على بعد خطوات منها، وكانت قريبتها تعرفه فقالت لها أنه عريسها.
وتتابع الحاجة “بصراحة اتلخطبت وخفت إني أبص لحد يشوفني ويقول لأبويا ويضربني، بس في نفس الوقت كنت عاوزه أشوفه ويشوفني” وتسترسل الحاجة وبعد لحظات اهتديت لفكرة وهي أن أقف عند باب أحد المحلات وتظاهرت بأن منديلي سقط مني ، وعلى الفور فهم عريسي الإشارة والتقط المنديل ثم اقترب مني وناداني قائلا: منديلك وقع منك فالتفت إليه وكشفت البردة عن وجهي والتقطت المنديل وشكرته وانصرفت مسرعة.
وتشير الحاجة إلى أنها شعرت بخفقات متوالية في قلبها في تلك اللحظة التي كان المنديل بطلها.
رفيق الوحدة
سعيد حسان، موظف من دندره 64 عاما، يروي أنه ارتبط بالخطوبة في فترة السبعينات ووقتها تغيرت التقاليد من حيث السماح للعروسين بالجلوس معا بشرط حضور أحد الأهل، لافتا إلى أن العروسين كان يسمح لهما بتبادل أطراف الحديث العام أو تبادل النظرات المحسوبة، ولكن أحيان كان يتاح لهما ثوان أو دقائق منفردين ربما بالصدفة أو عمدا.
ويروي حسان أنه يتذكر في أحد المرات وبينما كان يجلس مع خطيبته في حجرة الصالون في حضور والدتها، قرع جرس باب المنزل فخرجت حماتي لتتفتح الباب، مصبفا “لم أضيع الوقت وبسرعة تبادلت مع خطيبتي كلمات المودة والحب وعبرت لها عن ترقبي للزواج، لتبتسم لي في خجل منعها من الكلام ولكنها وبسرعة أعطتني منديلها، الذي حمل آلاف الكلمات والمشاعر وظل معي رفيقا ومؤنسا في وحدتي حتى الزواج فكنت كلما نظرت إليه تذكرتها”.
تذكار الحب
شريف محمود ، 32 سنة من الأقصر ، مندوب مبيعات، يلفت إلى اختلاف العادات بشكل كبير حاليا في الصعيد والتي باتت تسمح للتواصل بين الخطيبين والخروج سويا أحيانا كما أن التطور الكبير في تكنولوجيا الاتصالات وتوافر مواقع التواصل الاجتماعي سهل من الأمر، ليصبح المنديل مجرد تراث، ولكن استحدث الشباب حاليا وسيلة جديدة للتعبير عن الحب وتتمثل في منديل كتب الكتاب الحديث وهو عبارة عن منديل مطبوع عليه اسمي العروسين مع علامة قلب وغير مسموح لأحد باختطافه كما كان يحدث في مع المنديل التقليدي ولكن يحتفظ به العروسان كتعبير عن دوام الحب والوئام بعد الزواج ، لافتا ألي يحتفظ بمنديل زواجه كتذكار يوثق لرباط الحب المقدس وهو الزواج.
أبو منديل
ويلفت الشيخ محمد عبد القادر ، نائب الطريقة البرهامية في دشنا، 80 سنة، إلي أن المنديل ارتبط ببعض المشايخ والأولياء في قصص امتزج العشق الإلهي فيها بحب الحبيبة، ليتحول المحب من حب الحبيبة إلى حب خالقها.
ويروي الشيخ قصة “أبو منديل” والذي خطب فتاة جميلة رائعة الحسن ومن شدة حبه لها أخذ منها منديلها لينظر إليه تارة وتارة أخرى يتحسسه ويشمه كلما اشتاق إليها.
ويتابع الشيخ بأن “أبو منديل” هام في حبها وهام في وصفها وفي لحظة من لحظات الكشف الإلهي نظر فوجد أن حبيته بعد أعوام ستشيخ وتفقد حسنها وجمالها أما الله المبدع دائم وباق، فهام في حب الله وظل محتفظا بالمنديل ولكن كان كلما نظر إليه خاطب حبيبه المبدع فعرف بالشيخ أبو منديل.
المنديل والقنديل
الشاعر حمدي حسين، في ديوانه الأخير (سفر على ضهر طير بالنفر) وفي قصيدة (صلاة الغائب الحاضر) يتحدث عن معاناة المحب الذي لم يجد سوى المنديل ليخفف عليه آلام الفراق ولكنه يزيدها ويلهبها فيورد قائلا :
لما أتعب أروح في النوم على دراعي تنام هيا
لحد ما يوم ببص بعيني في الصورة مفيش في الصورة غير هيا
وانا فيني وبأعمل إيه رابط قلبي بالمنديل وانا اللي عليل
وكيف اربط على قلبي ؟ وكيف أطفيه وأولع فيه؟ بميت قنديل
وكيف اكويه، جروح العاشقين اكبر من المناديل، من القناديل من السموات
لبست التوب جديد ابيض جابتهولي على جسمي على طولي كفن أموات
خلاص يا حب لا خد ولا هات
تعليق واحد