مملكة الظلال.. كيف عبرت السينما عن التطور الزمني لمنطقة وسط البلد؟
تحت عنوان «وسط مدينة القاهرة في مملكة الظلال 1952 – 2016»، تحدث دكتور مجيب الرحمن عامر الأستاذ بمدرسة العمارة العليا بجرونوبل بفرنسا في سيمنار نظمته شبكة «آمون» للباحثين فى السينما والأدب التى تشرف عيلها د. سلمى مبارك. تأتى المحاضرة ضمن برنامج ” آمون” عن كتابة المدينة في الأدب والفنون، وتحدث فيها الباحث دور الأفلام السينمائية في حياة المدن، وارتباط صناعة العمل السينمائي وفرض – المدينة الخيالية – نفسها على المدينة الحقيقية. عن طريق علم الدلالات واستخدام السينما لرصد تاريخ وتطور المدينة تحت ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية في الظل الخيالي للعمل السينمائي.
خيال المدينة
تناولت المحاضرة التى تعد جزءا من رسالة الدكتوراة لمجيب الرحمن تاريخ منطقة “وسط البلد” بالقاهرة في الفترة من عام 1869 حتى عام 1973. من خلال ظهورها في الأفلام السينمائية.
ويبرهن صاحب كتاب “تجليات مدرج 3002″، من خلالها على قدرة استخدام العمل الخيالي ومنه السينمائي في محاولة إثبات فهم طابع المدينة. من خلال أداة جديدة مختلفة عن الكتب والخرائط والوثائق المعتادة في الأبحاث وهي “خيال المدينة”.
مملكة الظلال
استخدم مُجيب مصطلح «مملكة الظلال» للتعبير عن السينما، وهو مصطلح استخدم في نهاية القرن التاسع عشر في روسيا. ويرجع استخدامه لأول مرة للأديب ماكسيم جوركي الذي كتب مقالة عن «مملكة الظلال» ووصفه لتجربة ذهابه الأولى للسينما.
وتناول المعماري المصري خلال المناقشة بُعد من أبعاد فهم المدينة. وهو البعد السينمائي أو «السينماتوجرافي» عن وسط القاهرة في الفترة منذ عام 1952 حتى عام 2016. من خلال سؤال رئيسي وهو “هل تملك الصورة السينمائية القدرة العرض لفهم المدينة؟ وإذا كان العمل السينمائي خيالي.. هل يمكن أن يُلهم الواقع؟”.
ويقول: “هذا ما نحاول الإجابة عليه عن طريق السينما المصرية وإلهام المدينة – وسط مدينة القاهرة – في عمل خيالي وليد حالة سياسية واجتماعية محددة ودوره في رسم الواقع. وذلك من خلال خمسة مقاطع لخمسة أفلام تجسد مراحل تطور مدينة القاهرة ووسط البلد خلال 60 عاما. قامت خلالها المدينة بدور البطل الصامت في هذه الأفلام”.
فلسفة الثورة
كادر الدراسة هو المدينة والمقصود بها وسط مدينة القاهرة الذي يمثل نقلة عمرانية ومعمارية للعاصمة وتاريخها. ورغبة الخديوي إسماعيل في إنشاء مدينة جديدة على أطراف المدينة القديمة العربية الإسلامية التي ظهرت لأول مرة في عصره. وعُرفت باسم المدينة الجديدة أو الأوروبية متأثرة بالعمران الفرنسي. ووصفها كأنها كائن فضائي هبط من السماء للأرض. وسرعان ما أصبحت رمزا للحركة الوطنية ومركزا للسلطة والثورة وشاهدة على كل الأحداث.
وربط المرحلة الأولى من إنشاءها وهي أوروبا الناصرية بكتاب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر “فلسفة الثورة” والمفاهيم السياسية المرتبطة بثورة يوليو 1952. ويقول: “يعد واحدا من الكتب المهمة لعدة مفاهيم مثل إلغاء الملكية والرتب والألقاب وسقوط الأحزاب ويتضمن عرض فلسفة أيدولوجية الثورة ومهمتها التاريخية في 3 دوائر وهي العالم العربي والإسلامي والإقليمي”.
ويتابع أن قلب القاهرة وهو وسط البلد. تم فتحه للطبقات الوسطى والدنيا وللعرب واعتبرت عاصمة العرب وقلعة العروبة الصامدة. مضيفا أن مرحلة حكم عبدالناصر شهدت خلالها وسط البلد حراك اجتماعي وتغيير عمران المدينة مع تغيير أسماء الشوارع وإحلال في الميادين والتماثيل. مثل وضع تمثال “نهضة مصر” في رمسيس. وإلغاء خطة وضع تمثال الملك فؤاد في ميدان عابدين. مع تعرض تماثيل أخرى للهدم مثل تمثال “ديليسبس” في بورسعيد بعد العدوان الثلاثي.
التجربة الناصرية
ورغم أن “مجمع التحرير” يُنسب إنشائه إلى العصر الملكي إلا أنه من مميزات منشآت التجربة الناصرية. كذلك إعادة تخطيط ميدان التحرير، وواجهة المدينة على النيل بطراز عالمي. واختلاف الناحية المعمارية كليا في هذه المرحلة. وبعد حكم السادات ونصر حرب أكتوبر يتم الاتجاه لفكرة الانفتاح الاقتصادي على السوق العالمي. حتى يأخذ المجتمع شكل جديد بعد اضطرابات الانفتاح في عام 1974، وتكريس قيم جديدة وموجة ثقافية مختلفة.
ويقول دكتور مُجيب: “يضطرب السادات للأيدولوجية الجديدة بعيدا عن الاشتراكي القومي لعبدالناصر، واضطراب التيارات اليسارية. ويتحالف مع نظيرتها الإسلامية التي سرعان ما تنقلب عليه. وتظهر أيضا العمارة المختلفة في عهده، بعد زيادة الفوارق بين الأغنياء والفقراء. ومن هنا تبدأ العشوائيات في الظهور مجاورة للأبراج الزجاجية”.
ازدواجية الفقراء والأغنياء
وكما قال ميلاد حنا عن الازدواجية بين مساكن الفقراء والأغنياء: “تُخفي الأبراج على النيل المدينة بكل مشاكلها”. ومن هذا المنطلق يقدم دكتور مجيب دراسته القائمة على ثلاث اتجاهات يتم معالجتها عبر اختيار أفلام للدراسة تتسم بـ4 “تيمات” أو صفات أساسية. توصل إليها من خلال تحليلها بالموازاة بين الواقع والسينما والعمارة.
والسمات الأساسية لتحليل الأفلام في الدراسة هي (الإحباط – الحيرة – الإنفجار السكاني – النوستالجيا أو الحنين للماضي). وقدمها من خلال خمسة أفلام، «باب الحديد» عن الإحباط. و«أرض الأحلام وحمام الملاطيلي» عن الحيرة. و«الحريف» عن الإحباط. و«عمارة يعقوبيان» عن الإنفجار السكاني. وأخيرا «آخر أيام المدينة» إنتاج عام 2016 للحنين إلى الماضي.
واستعان خلال الدراسة بهذه الأعمال في تحليل الأفلام الروائية الخمسة. باستخدام أدوات وهي (سنة الإنتاج – المحتوى – أحداث الفيلم – السيناريو – اللهجات – التقنيات المستخدمة – حركة الكاميرا – تصنيف الفيلم- طرز العمارة – وسائل المواصلات – التماثيل – تصرفات الناس – الفراغ العمراني- الإنتاج العام والخاص).
ويوضح مجيب، أن كل هذه العوامل اختلفت باختلاف كل فيلم. مضيفا أن اختيار الأفلام وفقا لقائمة أفضل 100 فيلم في السينما المصرية والتي صدرت عام 1996. أما الأفلام التي تم اختيارها بعد ذلك كانت بحسب مشاركتها في المهرجانات العالمية.
وسط البلد في عيون السينما
ويقول عن الفيلم الأول للدراسة إنتاج عام 1958: “نرى في فيلم باب الحديد عالم الباعة والنشالين من خلال البطل قناوي المصاب بمشكلة عقلية. وأضاع أحلامه في سبيل الحب الأفلاطوني لـ”هنومة” التي تحب شخصا آخر. وكسر الفيلم حركات غير تقليدية للعمال و الحركة النسوية. كذلك الحركة السريعة لفتح وسط المدينة لعدد كبير من المسافرين. ويتضح أيضا أصوات المسافرين وأصوات القطارات والناس والفراغ المهول لمحطة مصر واللهجات مثل لهجة قناوي الصعيدية”.
أما السمة الثانية وهي الحيرة والإحباط تناولها من خلال فيلم «حمام الملاطيلي». ويقول عنها: “تظهر المدينة كأنها كائن ضخم. ويتضح ذلك في بعض الكادرات مثل تصوير كادر من بعيد لمحمد العربي وهو يعبر ميدان طلعت حرب مع حالة من الحركة العشوائية. ويتضح بالفيلم شرور المدينة والسرقة والتسول ومخالفة كل القواعد. إذ تبدو المدينة هنا خرج السيطرة، وهي الفترة بين حربي 1967 و1973”.
ويضيف: “تظهر المدينة متشحة بالسواد والفوضى، والكاميرا تتسلق المباني التي شهدت عصر عبدالناصر. ويظهر في مشهد ميدان التحرير البشر كأنهم نمل على حد وصف ألبير قصيري في إحدى أعماله”.
وعن الفيلم الثالث وهو «الحريف» تتسم المدينة بالانفتاح والانفجار. ويبدأ الفيلم بشعر وهي بداية غير تقليدية تجسد سلوكيات وحالة جديدة للمدينة. ويقول: “يبدو من البداية أن للناس الحرية في أن يفعل كل شخص ما يشاء”. مشيرا إلى أن السينما والعمارة تعد لغة مشتركة. والسينما المصرية استطاعت بالفعل تقديم أعمال يرى فيها المشاهد منطقة “وسط البلد” بعين أخرى تحدد الحياة القاهرة في كل وقت.