ملف| يوسف إدريس: المعارك الكبيرة.. والمعارك الصغيرة
كان يوسف إدريس (19 مايو 1927 – 1 أغسطس 1991) عصبا عاريا يسير علي قدمين، منذ بدأ الكتابة لم يتورع عن دق طبول الحرب، وخوض المعارك الإبداعية والسياسية والثقافية. معارك رأى كثيرون أنها بلا جدوى، خاصة أنها انعكست بالسلب على منتجه القصصي. على العكس من هذه الأراء، كان يرى أن «الكاتب ليس صانعا ماهرا لكراس مُذهبة أو كراسي مقاه، ليس حرفي قصة ورواية ومسرحية، وإنما روحه معلقة بروح شعبه، في مشنقة واحدة أو في باقة حرية واحدة».
حلم الحرية
بدأ إدريس الكتابة والنشر قبل يوليو 1952، ولكنه تفجر إبداعيا مع الثورة التي كانت تبحث وقتها عن مبدعين يعبرون عنها، فكان هو في الطليعة. احتفى به طه حسين وقدم مجموعته القصصية الثانية «جمهورية فرحات» التي وجد فيها العميد «من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول (أرخص ليالي) على تعمق للحياة وفق دقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها..».
ورغم أن إدريس وجد في ثورة يويو مناخا مناسبا للتعبير، إلا أنه أصدم بها مرات عديدة، انتقاده لعبدالناصر، وانضمامه لأحد التنظيمات السرية الشيوعية قاده أن يقضى عدة شهور في المعتقل عام 1954، لذا تحدث كثيرا عن حلم الحرية المفقودة: «إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها».
ولكن رغم ذلك كتب إدريس تقريبا كل ما أراد، وعندما خرج من سجنه أقسم ألا يقرب السجن مرة أخرى.. وهو ما اعتبره البعض بداية لمهادنة السلطة، ولكن لم يكن في إبداعه ما يؤكد ذلك أو يقوله. إبداعه هو التجلي الأكبر لرفض السلطة.. رغم أن مواقفه الشخصية تقريبا لا تعكس ما جاء في هذا الإبداع، فقد كان إدريس صديقا شخصيا للسادات قبل أن يتولى رئاسة الجمهورية، عملا سويا في منظمة التضامن الإفريقي الآسيوي وكتب له إدريس العديد من كتبه. وتردد أنه كان أحد كتاب مقالته اليومية في «الجمهورية». كما كتب باسمه كتابين، أحدهما عن فكرة «الاتحاد القومي» والثاني عن القصة الداخلية لحرب السويس ونشر في الهند بعنوان «ثورة على النيل».. كان ذلك قبل أن ينقلب على السادات ويكتب عنه كتابه الذي ظل ممنوعا في مصر سنوات طويلة: «البحث عن السادات» الذي كان هجائية شديدة لفترة السبعينيات. ويشكل مع الكتابين اللذين كتبهما أحمد بهاء الدين «محاوراتي مع السادات»، ومحمد حسنين هيكل: «خريف الغضب» ثلاثية الهجاء العربي الحديث لرأس الدولة.
ولكن لم يهادن إدريس حسبما يلاحظ جابر عصفور ولكنه كان: «واعيا بالأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تحول بين المبدعين وممارسة جسارتهم الإبداعية إلى المدى الذي يعصف بالمحرمات التي كادت تشمل كل شيء، والممنوعات التي يتسع مداها بالقدر الذي يتسع به مدى الاستبداد والتسلط مقرونا بالتعصب والتطرف على كل مستوى من المستويات. وأغلب الظن أن إدريس كان واعيا بمعنى من المعاني بالجذور القديمة والأصول الراسخة للقمع في تراثنا، تلك الجذور والأصول التي أودت بحياة الكثيرين من المبدعين على امتداد العصور».
مديح الحرب
كان إبداعه يفيض بالنقد لكل السلطات، يتحداها تقريبا، في الوقت ذاته كان صديقا شخصيا لمعظم رؤساء العالم العربي، صادق صدام حسين، وحصل على جائزته، وفي العام الذي يليه طلب من صدام أن يحصل على قيمة الجائزة مرة أخرى بعد أن ضاعفها الدكتاتور العراقي، وظل صامتا عندما غزا صدام الكويت، لم يتحدث أو ينتقد فقد كان ابنه يعمل وقتها في الكويت مهندسا، وخاف عليه.. وربما أصابه هذا الموقف، وهو الذي لم يعرف عنه الصمت أو اتخاذ مواقف وسط في تلك الظروف، بالاكتئاب، الذى أصاب قلبه وتوقف عن الحركة ومات في 2 أغسطس في اليوم الذى بدأت القوات الأمريكية حرب عاصفة الصحراء. فتحي غانم حكى أنه شاهد على واقعة حدثت في بغداد أثناء سطوة صدام. كان إدريس مدعوا وحضر جزءا من ندوة عن الحرب وفوجئ بالعراقيين يمدحونها فأعلن غضبه من مديح الحرب.
قال هذا في ظل ديكتاتور مغرم بالحرب وأمجادها وهزائمها. ورغم أن الكثيرين لا يحفظون إلا حكاية الجائزة وأموال صدام، فإن وجه يوسف إدريس يظل ناقصا بدون الحكايات الصغيرة.
إدريس بالشورت
لم يكن صدام هو الحكاية الوحيدة في حياة إدريس، هناك أيضا الرئيس السوري حافظ الأسد، وهناك صورة شهيرة تجمع بينه وبين الأسد والرئيس المخلوع حسنى مبارك. إدريس بالشورت، وابنته نسمة تقدم لضيوف والدها القهوة…
الزيارة لم يكن مخططا لها لأن إدريس لم يكن يرتدى ملابس رسمية، وقيل أن الأسد هو الذي طلب زيارة إدريس عندما كان مع مبارك في الساحل، لكن الثابت أن مبارك لم يحب إدريس فقد كانت كتاباته صادمة دائما، وحادة وعنيفة وتخربش بقوة في جدار السلطة التى يمثلها.. كما أن إدريس لم يحترم مبارك أيضا لأنه كان قريبا من السادات ويعرف حقيقة مبارك وظروف اختياره للمنصب وسخرية المحيطين من السادات من اختيار «نايب لا يهش ولا ينش»!
نبش قبور الموتى
لم تكن زيارة مبارك لإدريس بمثابة عودة العلاقات بينهما، ولكن كانت محاولة للصلح بعد خلاف حول الكتاب الذي أصدره إدريس عن السادات.. وهو ما يحكيه إدريس في كتابه عن السادات، إذ قرر كتابة مجموعة مقالات في جريدة القبس الكويتية عام 1983 تحت عنوان: «البحث عن السادات».
المقالات كانت إعلانا عن اكتشاف «مؤامرة» على المنطقة العربية بدأت بوصول السادات إلى منصة الحكم في مصر ويقول إدريس إن غضبه تحرك بعد غزو إسرائيل لبيروت (1982) واتضحت له الحقائق في مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الذي استقال احتجاجا على ما حدث في كامب ديفيد.. وأيضا بعد إعلان بعض الحقائق في مذكرات هنري كيسنجر.
عقب نشر المقالات بدأت حملة عنيفة ضد إدريس ممن أسماهم «عصابة السادات في الصحافة». لم يتركوا وصفا إلا وصفوه به، وكانت بداية الحملة بإشارة مبارك نفسه في إحدى خطبه التي وصف فيها إدريس بالزبون، وأن هجومه على السادات كان مدعوما من الرئيس الليبي معمر القذافي.
وقد حكى إدريس في مقدمة الكتاب، أنه بالفعل قابل القذافي وأنه حين عاد إلى القاهرة كتب تقريرا عن الزيارة سلمه إلى سكرتارية الرئيس بعد أن عرف أنه من الصعب مقابلته.
واستمرت الحملة تتهم إدريس بنبش قبور الموتى.. وأنه نافق السادات حيا وهاجمه ميتا وإن السادات قام بعلاجه على نفقة الدولة. ورفض المجلس الأعلى للصحافة سماع دفاعه قبل أن يدينه.. ورفضت بقية الصحف الحكومية أن تتيح له مساحة للرد. وقال يوسف إدريس في مقدمة الكتاب إن هذا لم يحدث في بلاد الماوماو.. بل حدث في القاهرة في عام 1983 وفي ظل انفراجة ديمقراطية وفي ظل حرية صحافة.
مئات من المعارك، لم يكن إدريس عبرها يهرب من الإبداع إلى الصحافة، بل كان يري إبداعه أقل مما يريد، كان يبحث عن إبداع فني حقيقي «يكنس العناكب والعقارب والثعالب والفئران النرويجي التي تكالبت على ضمائر الناس تنهشها وتزلزل قيمها». معارك ربما استنفدت طاقة إدريس، وقدرة قلبه على الاستمرار.. منها الكثير الحقيقي، ومنها أيضا ما كان عشقا للنجومية، لذا انتهى باعتذاره.
اقرأ أيضا
مصري مجهول يهاجم إدريس وهيكل.. والشرقاوي يطالبهما بالصمت
خالد عبدالناصر: لهذا لم أسامح يوسف إدريس
وقائع معركة غير أدبية بين يوسف إدريس وأصحاب البنطلونات القصيرة
16 تعليقات