ملف| في ذكراه: قصة أول حوار سياسي أجراه محمد حسنين هيكل
على مدار عمره الصحفي اشتهر محمد حسنين هيكل ببراعته في فن الحوار الصحفي. حيث اتخذ منهجا بعيدا عن الحوارات الجافة التي لا تخرج عن سياق السؤال والجواب. ولكن هيكل حوّل حواراته إلى حكايات لا يمل منها القارئ ووصل ذروة هذا الأداء في الحوارات التي جمعها في كتابه الشهير «زيارة جديدة للتاريخ». وكان وقتها قد وصل لقمة مجده الصحفي وتمكنه من الكتابة.
ولكن كيف كان حال المحاور الصحفي هيكل في بداياته الصحفية؟ ومن هو أول شخصية سياسية حاورها؟ ومتى وهل كان اختلف أسلوب بداياته عما عهده عليه القارئ في سنوات شهرته؟
أول حوار سياسي
في رحلة البحث في أرشيف هيكل الصحفي وجدنا أن أول حوار صحفي سياسي أجراه في حياته الصحفية كان في مجلة روزاليوسف. وكان هيكل قد انتقل إلى مجلة روزاليوسف عام 1943 بعد رحلة قصيرة قضاها في “الإيجيبشيان جازيت”.
أما الحوار فكان في شهر أكتوبر عام 1944 مع الوزير الصيني المفوض في مصر. ومن المعروف أن هيكل ارتبط بعلاقات مميزة بعد ذلك مع قادة الصين السياسيين بعد ثورة 23 يوليو وكلل هذا الارتباط الوثيق بسلسلة مقالات كتبها عام 1973. ثم جمعت في كتاب بعنوان “موعد مع الشمس- أحاديث في آسيا”.
في الخامس من أكتوبر عام 1944 نشر هيكل حواره الصحفي الأول مع الوزير الصيني المفوض في مصر، والذي كان قد استلم عمله في المفوضية الصينية من شهور قليلة وذهب إليه الصحفي الشاب صاحب الواحد والعشرين عاما ليأخذ معه حديثا صحفيا.
أسلوب هيكل
لم يختلف أسلوب هيكل الصحفي المبتدأ عن هيكل الصحفي الكبير المخضرم، فقد بدأ الحوار بمقدمة بلاغية يصف فيها للقارئ كيف استقبله الوزير وكيف رحب به. يكتب هيكل: “منذ عدة شهور قليلة اختار المارشال شيانج كاي شيك الدكتور هيوتن تسينج لبعثه هنا لدى صاحب الجلالة ملك مصر. والوزير المفوض يعتبر من أقدم رجال السلك السياسي في الصين فقد بدأ حياته الدبلوماسية سنة 1913 سكرتيرا بمفوضية باريس، ثم ظل يترقى حتى أصبح رئيسا للقسم الياباني بوزارة الخارجية الصينية، ثم مديرا للقسم الآسيوي بها ثم قنصلا في روسيا.
جاءني بنفسه إلى الصالون الفخم في المفوضية الصينية حيث كنت أجلس ليدعوني إلى مكتبه وأبى أن يتقدمني إلى المكتب فسبقته إلى الداخل وجلسنا ساعة ونصف، ثم استأذنته في الانصراف. وفي أثناء خروجنا من مكتبه انحنى لي انحناءة عميقة وانحنيت له فأعاد الكرّة وأعدتها وهكذا أكثر من خمس مرات.
ثم طلب إِلَى أن أتقدمه فلم أقبل فقال: أنت هنا في المفوضية ضيفي! فقلت له والمفوضية بأكملها في مصر وأنا مصري فأنت إذن ضيفي أولا. ومع ذلك أبى وأصر على أن أتقدمه وظل معي حتى الباب الخارجي للمفوضية وتكررت الانحناءات مرة ثانية وانصرفت بعد ساعة ونصف قضيناها نتحدث وألقيت على الرجل أكثر من عشرين سؤالا أجاب عليها كلها”.
تطرق حوار حسنين هيكل مع الوزير الصيني إلى الأوضاع السياسية في الصين من أحزاب وبرلمان وعن الجيش ثم عن التعليم ونسبة المتعلمين وأوضاع المسلمين هناك وعن المرأة والزواج في الصين وطقوسه. ثم سأله هيكل عن رأيه في ملك مصر وعن المرأة المصرية والجمال المصري.
إسماعيل صدقي باشا
بعد هذا الحديث بشهر كان الصحفي الشاب على موعد مع أول حوار سياسي مطول مع مسؤول مصري كبير، وكان ذلك المسؤول هو إسماعيل صدقي باشا ووقتها لم يكن صدقي في الوزارة، وكان صدقي باشا يتدخل في الأسئلة ويقبل أسئلة ويرفض أخرى وكان ذلك واضحا من المقدمة التي كتبها هيكل للحوار.
فقد كتب: “قدمت لدولة صدقي باشا عشرة أسئلة وأمسك دولته بالقلم وشطب خمسة منها قائلا: إن هذه الأسئلة ليست في المجلات. أما الخمسة الباقية فقد قبل دولته أن يجيب عنها، وكنا كلما قلنا لدولته إنه يستطيع أن يجيب باختصار ابتسمت ابتسامته الخالدة وقال: مش ممكن..!!”.
وعندما انتقل حسنين هيكل للعمل في مجلة «آخر ساعة» مع الأستاذ محمد التابعي عام 1944 كان أول حوار من نصيب إسماعيل صدقي أيضا، وكعادة صدقي أصر على أن يراجع الأسئلة والأجوبة قبل الطبع.
ويكتب هيكل مقدمة للحوار المنشور في آخر ساعة بتاريخ 19 أغسطس 1945 قائلا: “هذا حديث دار بيني وبين دولة صدقي باشا منذ مدة وطلب مني دولته أن أكتبه وأن أعرضه عليه وكتبت الحديث وسلمته نسخة منه في مكتبه ببنك مصر، وقرأ دولته الحديث وقال إنه يحسن تأجيله بعض الوقت ثم إدخال بعض التعديلات عليه في مواضع عينها، وسافر دولته بعد ذلك إلى الإسكندرية، ثم إلى فلسطين وفي جيبه صورة الحديث، وعاد دولته من فلسطين ولم أستطع الاتصال به لنتفق على نشر الحديث الذي أعتقد أن هذا أوانه، وأخيرا فإن هذا هو الحديث بعد محاولة إصلاح ما رأى دولته إصلاحه بطريقة نرجو أن تكون وافية الغرض الذي ارتآه”.
حسين سري باشا
وفي مجلة آخر ساعة توالى حواره الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل، فبعد حوار إسماعيل صدقي وفي نفس العام– 1945- كانت هناك حوارات مع الدكتور هيكل ثم حسين سري وعلي ماهر والنقراشي، ويروي هيكل في مقدمة حواره مع حسين سري كيف أن سري باشا “سخط” فيه ولم يكن مستعدا للحوار ثم بلباقة شديدة استطاع هيكل أن يقنعه بأخذ حوار معه، فيقول هيكل:
“رفع دولته نظره عن ورقة كان يتصفحها لحظة دخلت عليه.. وقال أو سخط على الأصح:
أفندم؟
ولم أجدها بداية مشجعة لحديث قد يطول فقلت لدولته:
هل تسمح؟
ونظر دولته إلى في دهشة وقال: بأيه
قلت: بابتسامة.. اسمح بابتسامة فقط!
ونظر دولته إلى دهش للمرة الثانية ولكنه لم يقل شيئا فبادرته:
أتراها كثيرة؟؟ لنجعلها إذن نصف ابتسامة!
ولم يحدث ما توقعت.. لم يثر سري باشا ولم يغضب وإنما ضحك وصدقوني لقد ضحك من قلبه وبدأنا نتحدث..”.
النقراشي باشا
أما حوار حسنين هيكل مع النقراشي باشا فقد اصطحب معه نجم آخر ساعة وقتها ورسام الكاريكاتير الأشهر “صاروخان”. وكان صاروخان يرسم رسومات تسخر من رجال السياسة في مصر.
وعندما اصطحبه هيكل لمنزل النقراشي ليأخذ عدة رسومات أثناء إجراء الحوار شعر أن هيكل يورطه ويحرجه مع من يسخر منهم في رسوماته وقال لهيكل “والله مش أصول يا أخي”.
ويكتب هيكل مقدمة هذا الحوار شارحا ما حدث بينه وبين صاروخان في منزل النقراشي. كتب هيكل: “والله مش أصول يا أخي.. قالها لي الأستاذ صاروخان بلهجته العربية الأرمينية وهو يشير إلى الحراس المسلحين بالمسدسات أمام دار رئيس الوزراء في مصر الجديدة. ولم اسأل صاروخان إيضاحا لأن أحدهم تقدم منا ويده على حزامه الذي فيه مسدسه ليتحقق من أننا فعلا أولئك الذين ينتظرهم دولة النقراشي باشا..
وأخيرا وصلنا إلى مائدة حولها بضعة كراسي في حديقة الدار. وهنا سألت صاروخان عن سر احتجاجه. فإذا به يتلخص في أننا نورطه مع العظماء فنجعله يرسم لهم صورا يضحك الناس منها ثم نأتي به بعد ذلك ليقابلهم وهو غارق في عرق الخجل والكسوف ومسدسات الحراس أيضا، هذا هو ما قصده صاروخان حين قال: والله مش أصول يا أخي!
وفجأة سمعنا وراءنا كحة فالتفتنا فإذا النقراشي باشا مقبل علينا يرتدي جلبابا فوقه عباءة مطرزة بالذهب وبادرنا دولته وهو يعتذر عن مقابلتنا بهذا الزى قائلا:
إنني مضطر لأن أرتدي الردنجوت حتى أكون في استقبال جلالة الملك ومن ذلك ترون أنني مضطر إلى الإسراع بالعمل.
وهكذا أسرعنا:
صاروخان يرسم.. وأنا اسأل! ”
ولم يسمح لهم النقراشي باشا سوى بنصف ساعة فقط وعندما انتهت قال لهم: كفاية بقي!! وانصرف.
ونشر مع الحوار رسما بريشة صاروخان: هيكل جالس مع النقراشي الذي ارتدى عباءة وجلبابا وصاروخان أسفل المائدة يرسم وهو يبتسم.
اقرأ أيضا:
برنامج كشكش بيه: عندما قابل هيكل نجيب الريحاني
2 تعليقات