ملف| عماد أبو غازي.. الاشتراكيّة الفابية على طريقة برنارد شو

عماد أبو غازي في السبعين. ربما تسللت شعيرات بيضاء إلى شعره ولكنه لازال يحتفظ بحيوية شاب، مغامر، لا يتوقف عن التعلم، والمتابعة لكل ما يحدث في العالم. هادئ دائما، لكن خلف هذا الهدوء والسلام مع العالم هناك شيء آخر: تمرد هادئ، وثورة دائمة، وروئ فكرية متجددة.
***
عندما كان عماد يقود سيارته بنفسه، لم يكن يتجاوز السرعة المقررة حتى على الطرق السريعة. لا يخشى رادارات المراقبة. لكنّ احترامه للقانون جزء من طباعه الشخصية. كذلك الأمر بالنسبة إلى ثقافته الواسعة. هو ببساطة لا يحب الاستعراض، بل كانت الثقافة لديه سلوكاً فردياً يومياً. وكذلك الفن، الذي يمكن اعتباره الزاد الروحي لكل أفراد العائلة، كان بيتهم متحفاً تشكيلياً ومكتبة كبيرة. التماثيل التي وقّعها النحات المصري الكبير محمود المختار (خال والده) موزعة في كل ركن من الأركان. لهذا تجده يقول إنّ «البيت الخالي من الكتاب واللوحة والتمثال بيت ناقص». كانت الهدايا التي يتلقاها أطفال الأسرة لوحات تشكيلية من كبار فناني مصر. عندما ولد عماد، أهدى الفنان راغب عياد والده لوحة ما زال يحتفظ بها، وهكذا فعل مع باقي أشقائه. على جدران المنزل، تجاورت أعمال حامد ندا، ويوسف كامل، وتحية حليم، وجاذبية سري، وصلاح طاهر… هكذا نشأ على حب الفن، لكنَّه لم يدرسه، بل مضى في اتجاه عوالم أثيرة أخرى.
***
عمته ضياء أبو غازي التي درست الآثار، وكانت تعمل في المتحف المصري، حددت له الوجهة: «كان لها دور كبير في تكويني. منذ كنت في الثالثة، كنت أذهب معها إلى المتحف، وقد جعلتني هذه الزيارات أعشق التاريخ». في تلك الفترة كان والده يسميه «المؤرخ الصغير». قرر أنّه يريد النجاح في الثانوية بمجموع يؤهّله للالتحاق بكلية الآداب. وبذل المجهود اللازم لتحقيق هذا الحلم: دراسة التاريخ. لم يتردّد لحظة في قراره، ولم يندم عليه… عكس شقيقه الأكبر مختار الذي بدأ بدراسة التجارة ثمّ تركها إلى الفنون الجميلة، وشقيقته الصغرى نادية التي درست العلوم السياسية رغم تفوّقها في الأدب والفنون. صاحب «طومان باي ـــــ السلطان الشهيد»: «قادني أبي بطريقة غير مباشرة إلى الفكر الاشتراكي».
في المرحلة الثانوية، وقع بين يدي عماد كتاب «كفاحي» لهتلر. انتظر والده أن يفرغ من قراءته، فأعطاه «دليل المرأة الذكية في الاشتراكية ورأس المال» لجورج برنارد شو. الكتب قادته إلى الماركسية، وكانت فاتحة سنوات طويلة من النضال، أدّت به إلى السجن. النصائح العائليّة كانت تقول له إنّ العمل السياسي ليس «سوى مخاطرة لا داعي لها». لكنّ عماد لم يقبل النصح. سافر عام 1985 بعد تخرجه إلى الاتحاد السوفيتي: «شعرت أن هناك خطأً ما في هذا البناء». هكذا عاد إلى الاشتراكيّة الفابية على طريقة برنارد شو. يضحك: «أفراد الأسرة أكثر ميلاً إلى الليبرالية. جدتي شقيقة مختار كانت واحدة من المتظاهرات في ثورة 1919، وقد تعلمت من حكاياتها الكثير عن تلك المرحلة التاريخيّة الحاسمة». وماذا عنه؟ يقول: «أفكاري ألأساسية تشكلت في إطار المادية التاريخية».
***
السياسة التي تركها مبكراً، كان لها دور كبير في تحديد اتجاهات دراسته. لقد اختار التاريخ الحديث، لكنّ نشاطه السياسي وصدامه مع بعض الأساتذة أخذاه إلى التاريخ الإسلامي. دراسة الماجستير أرادها أن تكون «ثورات المصريين ضد الحكم الإسلامي في عصر الولاة»، فرُفِضَ اقتراحه. تقدّم بفكرة موضوع آخر ثمّ آخر، لكنّ الرفض بقي قائماً. لم يكن الرفض للمقترحات نفسها بل للطالب وأفكاره: «أفكاري من وجهة نظر الأستاذ كانت تمثّل خطراً في مجال التاريخ الإسلامي». أدرك عماد أنّه لن يكمل دراسته العليا في قسم التاريخ. التحق بـ«معهد البحوث والدراسات العربية»، وحصل على دبلوم في موضوع «الأحزاب السياسية في مصر وموقفها من القضية الفلسطينية 1971 ـــــ 1948». لكنّ شهادة المعهد لم يكن معترفا بهاً. بالمصادفة، أُعلن التقدم للحصول على دبلوم في ميدان الوثائق في كليّة الآداب، فتقدم إليه على اعتبار أن الوثائق أقرب إلى التاريخ. تخرّج بعد عامين من الدراسة، وكان الأول على دفعته، ليعيّن معيداً في قسم «الوثائق والمكتبات».
***
من والدته الفنانة التشكيلية والنحاتة رعاية حلمي تعلم الكثير: «حضورها في الأسرة دائم، ولمساتها في المنزل واضحة، تعلمنا وتوجهنا بشكل غير مباشر، وتنمى حواسنا على التذوق الفني، ترعى اهتماماتنا الصغيرة والكبيرة، كانت رعاية الله بحق، اسم على مسمى» ومن والده وزير ثقافة مصر السابق بدر أبوغازي، تعلّم «حب العمل والتاريخ والثقافة والفن التشكيلي وتوفيق الحكيم»، ويمكن أن نضيف: النزاهة والاستقامة. كانت تجربة بدر أبو غازي قصيرة جداً في وزارة الثقافة المصريّة. بقي سبعة أشهر في منصبه، وحين طلب منه السادات إخلاء متحف محمد محمود خليل، لكي يضمّه إلى بيته ويصبح «ملحقاً برئاسة الجمهورية»، اعترض الوزير على هذا الإجراء ورفض أن يسلّم المتحف. خرج مع أول تغيير وزاري، وخلفه قام بما طلب منه: بقي «متحف محمود خليل» ملحقاً برئاسة الجمهورية حتى تسعينيات القرن الماضي عندما عاد مرة أخرى متحفا كما أراد صاحبه.
هكذا كان الأب. أما الابن، فقد قضى فترة مقاربة لوالده وزيرا للثقافة. جاء إلى المنصب بعد ثورة باختيار المثقفين أنفسهم، جاء إلى الوزارة يحمل معه خطة إصلاحية، لم يلجأ إلى الصدمات الكهربائية في زمن الثورة، بل حاول أن يغير معتمدا على أن «وزارة الثقافة ليست قضيتها المثقفين والمبدعين، وإنما قضيتها الأساسية تقديم خدمة ثقافية للمواطن المصري لا للمبدع أو المثقف المصري»، حاول تقديم مفهوم جديد للإدارة الثقافية بحيث لا تدار المؤسسات من خلال رؤسائها ولكن تدار من خلال مجالس ادارة لا تكون من قيادات الوزارة، وإنما شخصيات ثقافية عامة تمثل اتجاهات مختلفة وأجيالا مختلفة من خارج مؤسسات الوزارة، وهو الأمر الذي يقودنا إلى «ديمقراطية الثقافة» الذي يؤدي إلى التقدم خطوات باتجاه «ديمقراطية المجتمع» نفسه فيما بعد. حاول أن ينجز في تلك الفترة القصيرة شيئا مختلفا، لكنه رفض أن يكون جزءا من قمع المتظاهرين، فاستقال بعد ثمانية شهور.
***
الديمقراطية هي القضية الأساسية التي تشغل أبو غازي، ينفر تماما من كل الوصايات والدكتاتوريات، كما يرفض كل الأفكار المغلقة التي يرى أن إنغلاقها سيقود حتما إلى فاشية.
***
هذه الملف في محبة، كل ما يعنيه عماد أبو غازي، الذي يسرب وجوده لأصدقائه وتلاميذه الإحساس بالأمان في العالم، وأن المحبة تذهب في أوقات كثيرة لمستحقيها. لذا كل من اتصلنا بهم للمشاركة معنا بالكتابة عنه، وافقوا على الفور، لم يتخلف أحد. وندرك أيضا أن هناك العشرات كانوا يريدون أيضا مشاركتنا.
اقرأ أيضا:
«عماد أبو غازي» يكتب: من ذكريات ليمان طرة