ملف| «حسام إسماعيل».. الفارس يلملم أوراقه ويرحل
رحل منذ أيام قليلة الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية، بعد صراع قصير مع المرض. ولد حسام في عام 1955 بشارع ولي العهد بالعباسية، كان الأكبر من بين إخوته. اختار دراسة الآثار بمحض إرادته رغم معارضة الأسرة في بداية الأمر. فقد تتلمذ على يد جيل من الأساتذة كان يحب أن يطلق عليهم اسم أساتذة جيل ثورة 1919.
فمثلًا درس له الدكتور عبدالمنعم أبوبكر، والدكتور عبدالعزيز صالح، والدكتورة سعاد ماهر التي كان لها الكثير من الفضل عليه. إذ شجعته دائمًا على مواصلة العمل. كذلك تتلمذ على يد الدكتور عبداللطيف إبراهيم، مؤسس علم الوثائق في الجامعات المصرية. التحول الكبير في حياته كان بفضل اقترابه من أستاذته ليلى علي إبراهيم، إذ اعتبرته ابنًا لها ودعمته هو وجيله كله. وضعته على الطريق الصحيح، لذلك كان مدينًا لها بالفضل في كل ما حققه.
اشتبك حسام إسماعيل بشكل دائم مع قضايا الآثار فرفض الجلوس في موقع المتفرج؛ لذلك قرر خوض الكثير من المعارك دفاعًا عن الآثار. كان آخرها استقالته من لجنة حصر المباني التراثية، اعتراضًا على هدم الجبانات التاريخية. والأهم من ذلك كان حسام صاحب قلب «أبيض» أحبه كل من اقتربوا منه. كان داعما حقيقيا لهم، فضلًا عن تواضعه الشديد.. يتحدث في هذا التحقيق مجموعة كبيرة من محبي حسام، يحكون معنا بعض من ذكرياتهم معه.
سلام يا صديق العمر
بعد أن أجريت حوارًا خلال العام الماضي مع الدكتورة دوريس أبوسيف، أستاذ كرسي الفنون الإسلامية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، اتصل بي الدكتور حسام. كان سعيدًا جدًا فقد خصته دوريس في حوارها نصًا وقالت: «تركت ليلى علي إبراهيم برحيلها فراغًا كبيرًا في حياتي. وهذا الفراغ لم يستطع أحد أن يملؤه، لا أهلي ولا أي شخص آخر، باستثناء حسام إسماعيل، فهو أقرب شخص ليّ، وزيارة القاهرة، بالنسبة إليّ هي «التمشية» برفقته والتعلم منه، ومناقشته. فقد استطاع حسام ملء فراغ ليلى؛ لذلك أنا مدينة له بالكثير».
بدا على صوت حسام وقتها علامات التأثر بكلمات دوريس وكان فرحًا وأضاف على كلامها أنه لا يتخيل حياته بدونها. وأن مدينة القاهرة بغيابها تصبح مظلمة «أنا بكون مطمن لمَّا دوريس بتكون موجودة».
استقبلت دوريس خبر وفاة حسام إسماعيل بالبكاء. فقد حاولت بشتى الطرق خلال فترة مرضه الأخير الاتصال به، إلا أن محاولتها لم تفلح أبدًا بسبب معاناته المستمرة. تقول: كان حسام صديق العمر بالنسبة إليَّ. عرفته في أواخر السبعينيات، منذ الإعداد لدراساتي في الفن الإسلامي بالجامعة الأمريكية في القاهرة. وقد عرفتني ليلى إبراهيم عليه، كان حينها يعمل في هيئة الآثار وكان اتصالنا حينها بخصوص أمور إدارية. وكان متعاونًا معنا جدًا، وقد استمر التواصل بيننا.
اهتمامات مشتركة
سرعان ما تطورت علاقة دوريس بحسام. حيث تشاركا سويًا الكثير من الاهتمامات، خصوصًا الموضوعات التاريخية وتحديدًا تاريخ الفن «كان التعامل معه مثيرًا، عرفته شابًا ذكيًا ومتفهمًا ومهتمًا لدرجة كبيرة. وتبادلنا الكثير من المعلومات وأجرينا المناقشات المثيرة حول تخصصنا المشترك. أصبحنا أصدقاء، كان مثلي تمامًا؛ أي جزءا من دائرة العلماء والطلاب المحيطين بليلى عليّ إبراهيم، الذين تعلموا منها واستمتعوا بصحبتها. فقد كانت ليلى إبراهيم تحبه وتحترمه كثيرًا. وبعد أن انتقل إلى المسار الأكاديمي، توطدت صداقتي به، وفيما بعد ساهم في الكتاب التذكاري الذي خصص لها، بعد وفاتها».
بعد انتقال دوريس إلى ألمانيا سنة 1986، كانت تتردد على القاهرة باستمرار، وكانا سويًا يقومان بجولاتهما من خلال زيارات متعددة للمدينة القديمة ومعالمها الأثرية داخلها. فهذه اللحظات لا تنسى -على حد وصف دوريس- فمن خلاله تعرفت على زملائه وطلابه وعلى كتاباتهم أيضًا.
فراغ الرحيل
ترى أبوسيف أن من أبرز الأمور اللافتة للنظر في حسام أنه كان مساعدًا للآخرين. فقد اعتاد أن يجمع كل النسخ المطبوعة والنسخ الفوتوغرافية للمنشورات الحديثة، ثم ينسخها ويوزعها على زملائه وأصدقائه وطلابه.
تقول: في إحدى زياراتي، أخبرني أن ماكينة التصوير في الجامعة كانت معطلة، لذا كان عليه أن يحضر آلته الخاصة به من المنزل ليساعد الطلاب، لذلك فقد كان حسام واحدًا من أكثر الأشخاص سخاءً الذين قابلتهم. فقد امتلك شعورًا دائمًا بالمسؤولية والرعاية تجاه مجتمعه الأكاديمي، بجانب امتلاكه للعلم والمعرفة الكبيرة، ولم يستأثر بهذه المعرفة لنفسه أبدًا بل قدمها للآخرين.
كانت مكتبته الهائلة والضخمة مفتوحة لأي شخص يحتاج إليها. كما أن إنتاجه -عالي الجودة- يغطي مجموعة هائلة من المواضيع حول العمارة والعمران والحفاظ على التراث. إذ امتلك عقلية منفتحة ونقدية؛ لذلك برحيله سيترك فراغًا كبيرًا جدا، وسيفتقده الجميع وأنا فخورة وممتنة لهذه الصداقة.
ذكرياتي في «حلوان» مع حسام إسماعيل
برنارد أوكين، أستاذ الفن والعمارة الإسلامية بالجامعة الأمريكية في القاهرة، حكى لنّا أيضًا ذكرياته مع صديقه حسام إسماعيل فقد تكونت صداقتهما منذ وقت طويل. حيث تعرف عليه عن طريق صديقتهما دوريس أبوسيف، خلال مرحلة الإعداد لكتابها الخاص عن مآذن القاهرة. إذ يتذكر «أوكين» أن حسام كان يرافقها -أبوسيف- دومًا في زياراتها الميدانية للتعرف على النقوش الكتابية الموجودة على المباني.
يقول: عندما بدأت مشروعي لتسجيل كل النقوش الكتابية عن آثار القاهرة التاريخية حتى سنة 1800 ميلاديًا. كان حسام حينها الخيار الأول لمساعدتنا في قراءة تلك النقوش الكتابية من خلال الصور التي صورناها في المشروع. إذ كانت مهارته في هذا الأمر لا تقدر بثمن تجاه المشروع.
كانت مكتبة حسام في حلوان مصدرًا مهمًا لـ أوكين ولكل طلابه. يقول: «كان سخيًا وكريمًا معنا فقد سمح لنا باستعارة الكتب، فأنا لديَّ داخلها الكثير من الذكريات السعيدة معه خاصة تلك الأوقات التي قضيتها في نقاشات مثمرة معه. فقد أتاحت له تلك المكتبة أن يكون عالمًا أكثر إنتاجية. حيث أنتج العديد من المشاريع المختلفة؛ بما فيها مشروعه التعاوني حول خان الخليلي ودراساته العميقة على آثار رشيد والدرب الأحمر في القاهرة وغيرها الكثير والكثير».
ليرتاح جسدك المنهك
قبل أن نبدأ بالحديث عن علاقة الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس اتحاد الآثاريين العرب وأستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، بالدكتور حسام إسماعيل، لابد من الإشارة لعدة نقاط. فقد دافعا سويًا عن آثار القاهرة القديمة. وكانت جريدة «أخبار الأدب» وقتها الحاضنة الثقافية للجمع بين كليهما حتى وفاة حسام.
الكحلاوي يمسك دائمًا بسيفه دفاعًا عن الآثار بكل شراسة. وحسام في المقابل كان يعبر عن صوت الحكمة فيؤخذ بآرائه الفنية التي تكتب على صفحات الجريدة. لهذا فقد أطلق الغيطاني على حسام لقب «العالم» وأطلق على الكحلاوي لقب «العالم الأثري النبيل». كان دورهما تكامليًا؛ أي حسام والكحلاوي، وقد وقفوا جميعًا مع الغيطاني في خندق واحد دفاعًا عن الآثار والمخططات التي كانت تستهدف نسيج المدينة المهددة حتى الآن.
حين طلبنا من الكحلاوي الكتابة عن حسام عبرَّ عن حزنه وقال: «حاربوه حيًا وميتًا». إذ أعاد ذكر موقفًا كان حسام دائمًا ما يذكره للمقربين منه، ولكن ما أزعج الكحلاوي في هذه المرة إصرار بعض الأساتذة على وصف الأستاذ الدكتور حسام إسماعيل بلقب الأستاذ المساعد رغم وفاته وهو أمر يتنافى مع الحقيقة. لم يرد الكحلاوي الحديث عن هذا الأمر في البداية لكونه أحد الذين أنصفوا حسام في حياته وخصوصًا في هذه الجزئية لكننا أقنعناه بالحديث عن الواقعة لتكون شهادة منصفة للدكتور حسام بعد رحيله.
فارس الآثار
يقول الكحلاوي في بداية حديثه: “رحل الأستاذ الدكتور حسام إسماعيل أحد فرسان الدفاع عن الآثار، وأحد أجناد مصر الأوفياء في هدوء بعد أن صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، حزنًا وكمدًا على ما يحدث من اعتداءات على الآثار الإسلامية وجبانات القاهرة الإسلامية. فقد جمعنا خندق واحد تحت مظلة الراحل الكبير الكاتب والصحفي جمال الغيطاني. الذي كان قريبًا من سدنة الحضارة المصرية الذين لا يتملقون أو يهللون أو يوافقون على الاعتداءات على الآثار تحت مظلة التنمية والتحديث والتطوير، وكان «حسام» يعمل دائمًا بصمت ويجاهد بقوة الفساد والمفسدين”.
ويضيف: قدر الله أن أكون من الذين أنصفوه من الظلم الذي كان يعيش تحت وطأته من بعض الأساتذة الذين كانوا لا يرغبون في ترقيته إلى درجة أستاذ في الآثار الإسلامية. ولذلك قيموا كل بحوثه التي تقدم بها لنيل درجة الأستاذية أنها لا ترقى إلى تلك الدرجة. وقد تظلم الراحل من قرار اللجنة إلى المجلس الأعلى للجامعات الذي أحال إليَّ الأوراق والبحوث لفحصها وإبداء الرأي.
ظلم كبير!
ويستطرد: عكفت وقتها على قراءتها جيدًا فوجدت ظلمًا كبيرًا قد وقع عليه. وكتبت تقريرًا من 17 صفحة أكدت فيه على أحقية الدكتور حسام على أن تتم ترقيته إلى درجة أستاذ في الآثار الإسلامية. ولكن أصحاب «المصلحة» لم يعتمدوا القرار وانتظروا بلوغه سن الستين حتى لا يتمتع بحقه وبدرجة أستاذيته. فهذه صورة من الظلم الذي كان يلاحقه في حياته من حقل عمله؛ لذلك وأنا أتحدث عنه لأنعيه أشعر بمرارة أن كل المخلصين لم ينالوا حظًا في جامعتهم. ولكن طالهم الحقد والغل والتآمر من أقرب الأقربين ومن أقرانهم ويبقى عزائي فيه حب المخلصين الذين زاملوه في ميادين الكفاح.
رفيق الرحلة
يتذكر الكحلاوي آخر لقاءات جمعتهما. كان ذلك خلال عقد اجتماع اللجنة الاستشارية التي عقدت بمقر الآثاريين العرب للدفاع عن جبانات القاهرة التاريخية. وأعقبها ندوة عقدت أيضًا بهذا الخصوص في نقابة الصحفيين. يقول: «إلى رحمة الله يا رفيق الدرب وأعلم أننا سنمضي على الطريق الذي جمعنا في حب مصر والذود عن آثارها. فلتسكن روحك الطاهرة في عليين وليرتاح جسدك المنهك من الآلام والأمراض التي افترسته».
حسام إسماعيل «ضميري الحي»
وليد عاكف طالب الدكتوراه بجامعة هارفارد هو أيضًا أحد من تأثروا بأفكار حسام إسماعيل. إذ كان أستاذه في جامعة عين شمس وزميل له في نفس الكلية بعد أن عين معيدًا قبل أن يقرر التقدم باستقالته في نهاية الأمر لمواصلة الدراسة في الخارج.
يقول: يعرف كل طالب علم أن المُعلم ليس فقط المتمكن من مادته العلمية، الحافظ للاصطلاحات، العارف بالدراسات، البارع في المحاضرات وإدارة النقاشات. بل هو أيضًا الشخص الذي يمكنه احتواء طلابه وإرشادهم وتشجيعهم، وأن يكون لهم الناصح الأمين. كان دكتور حسام إسماعيل بالنسبة إليَّ وما زال – رحمه الله– هذا المعلم الذي حينما تواجهني صعوبات أتذكر نصائحه، وعندما يتلعثم لساني أتذكر ثقته وثباته وهو يتكلم، وعندما تأخذني الجلالة بأنني درست طويلًا وحان وقت الراحة، أسمع صوته يرن في أذني بأنني من «الطلبة المصريين»، فأهرع لمواصلة العمل، وكأن صوته صار جزءًا من ضميري الحي.
دكتور حسام هو الأستاذ الذي ساعدني «كطالب مصري» (وهي إحدى عباراته المشهورة) منذ بداية رحلتي الجامعية في عام 2004 أن أنفض غبار الكسل وأن أتوقف عن لعق الملعقة الفضية (بالنسبة لي كانت نحاسية، على ما أظن) التي أطعمنا بها أساتذتنا طوال مراحلنا التعليمية قبل الجامعية.
يضيف: علمني أن أبحث عن الإجابات بنفسي قبل أن أسأله؛ علمني أن أقضي الساعات في مكتبة كلية الآداب بين الكتب القيمة التي يملؤها غبار الزمن. باحثًا عن معلومة كان هو – بلا أدنى شك – قادرًا على إعطائي إياها في لحظات. ولكنه أدرك أن صلب العملية التعليمية لا يتمثل في الإطعام والتحفيظ، بل في تزويدنا بالأدوات، وتعليمنا البحث وكيفية التفكير النقدي.
آفاق جديدة
وكحال غالبية الأساتذة والطلاب المصريين عرف وليد دوريس أبوسيف من خلال حسام إسماعيل. إذ يقول: كان له الفضل في دعوة بروفيسور دوريس أبوسيف لإعطاء ندوات لنا حتى نكون على دراية بما يحدث في «الغرب» من تقدم في مجال الفن والعمارة الإسلاميين.
أذكر منهم أنها جاءت مرتين وأنا في مرحلة التعليم الجامعي. في اللقاء الأول كنت مبهورًا بما قالت، وإن لم أذكر معظمه الآن؛ لعلي كنت في السنة الثانية. أما في المرة الثانية، فأذكر كل كلمة قالتها؛ أذكر الموضوع، أذكر الصور، وأذكر نقاشي معها. يكفي أن أقول إنني الآن أقوم بعمل أطروحة دكتوراه حول عمارة البحر المتوسط، معتبرًا صقلية الإسلامية -النورماندية جزءًا لا يتجزأ من موضوعي، كله بفضل دعوة دكتور حسام لبروفيسور أبوسيف التي أطربت آذاننا بالتبادل الثقافي الذي تمخض عنه أثر عميق للفن الإسلامي في عمارة جزيرة صقلية. محاضرات أبوسيف كانت أول نافذة لي على المدرسة الأكاديمية الغربية التي تختلف بطبيعة الحال عن المدرسة العربية. فكانت دافعًا لي أن أواصل البحث والقراءة، بل وتعلم لغات متعددة، وهو ما ساعدني على السفر إلى عدة دول أوروبية ثم إلى الولايات المتحدة ساعيًا لطلب العلم.
صاحب الضحكة الرنانة
لم يتوقف دعم الدكتور حسام إسماعيل لوليد عاكف عند هذا الحد. إذ عامله على المستوى الإنساني كابن له فيقول: أذكر أنه كان داعمًا لي منذ اللحظة الأولى. كلنا نسمع عن الأساتذة المتعنتين الذين يضعون العراقيل أمام طلابهم حتى لا يتركوهم وحيدين في الصروح التعليمية المصرية التي نعرفها جميعًا. دكتور حسام كان هو المشرف على أطروحتي للماجستير ثم الدكتوراه اللتين أزمعت القيام بهما في مصر. فهو لم يدخر وسعًا في تسهيل كل السبل لسفري، ولم يدخر وسعًا في تشجيعي وتحفيز همتي.
لو أحياني الله مثل حياتي حياتين، لن أنسى لدكتور حسام أنني عندما تعثرت في السفر في الرحلة الجامعية لمدينتي الإسكندرية ورشيد في العام الرابع من دراستي الجامعية، تدخل هو وعرض عليَّ منحة من القسم بمقتضاها يمكنني السفر مجانًا. ولاسيما أنني كنت «الأول على الدفعة» ومن الطلاب المتفوقين. لم أقبل المنحة، إذ أعانني الله على تدبير أموري. ولكني لن أنسى أنه أبى أن يذهب زملائي في رحلة تعليمية وتثقيفية مهمة بدوني.
رحم الله أستاذنا وحبيبنا الموسوعي صاحب الضحكة الرنانة، والمكتبة الفائضة بكتب من كل حقل وحدب ولغة. لم أجد حتى هذه اللحظة من أعلم بآثار القاهرة منه؛ فهو خريطة للقاهرة ووعاء لتاريخها. جمع بين نشاط وروح مفتش الآثار ودرايته بخبايا كل مبنى وزاوية، وبين فقه المعلم المدرس الذي أفخر أنني من تلاميذه.
في صحبة حسام إسماعيل
بدأت في المقابل علاقة الدكتور محمد عبدالستار عثمان، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة سوهاج، منذ ثمانينات القرن الماضي. إذ يحكي عن بداية تعارفه بـ«حسام». يقول: «عندما بدأ العمل على دراسته العليا في قسم الآثار الإسلامية بكلية الآداب بسوهاج – جامعة أسيوط. حيث درس السنة التمهيدية للماجستير، ثم سجل لدرجة الماجستير، وبعد حصوله على الماجستير سجل لدرجة الدكتوراه.
وكان من أوائل الباحثين الذين شغفوا بدراسة عمران القاهرة في القرن التاسع عشر أو ما يعرف بـ«القاهرة الخديوية» بالرغم من أنه عاشق لآثار القاهرة منذ بداية نشأتها. إذ يتميز بفطرة صحيحة ومصالحة مع النفس ومع الآخرين، وهو خير من يعرف حارات وأزقة المدينة القديمة، وكذلك مواضع آثار قرافتها الباقية. وليس هذا بمستغرب بالنسبة للسياق الذي تربى بداخله حسام فقد نشأ في أعطاف المدينة خلال مرحلة صباه قبل أن ينتقل إلى العباسية ثم ينتقل مرة أخرى للإقامة في ضاحية حلوان. وكثيرًا ما تراه متجولًا في شوارع وطرقات القاهرة حاملًا حقيبته على كتفه بما فيها من أدوات تساعده على التوثيق والتسجيل.
رافقته أو رافقني في بعض جولاتي عندما كنت أحقق للمواضع الوارد ذكرها في كتاب «الكوكب السيار لقبور الأبرار» للسكري الذي قمت بتحقيقه منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وكان خير معين لي في هذا العمل الميداني، واكتشفنا سويًا بعض الآثار المملوكية التي لم تكن معروفة والتي ورد ذكرها في هذا المخطوط».
جولات مستمرة
تتابعت زيارتهما؛ أي «حسام وعبدالستار» للمدينة وظلت مستمرة لدراسة آثار القاهرة وملاحظة الرؤى والأطروحات الجديدة عنها «لحسام أيضًا فضل آخر لم يقتصر على شخصي ولكن امتد ليشمل آخرين. ويتمثل هذا الفضل في معاونته الكريمة للحصول على الكتب من مظان وجودها. فهو متابع جيد لكل إصدار جديد، وكانت لديه القدرة للتوصل إلى نوادر الكتب التي طبعت منذ زمن بعيد ولا تتوفر منها نسخ يمكن الحصول عليها بيسر.
وهنا أتذكر ما طلبه مني الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري المفكر الكبير رحمه الله. عندما أراد أن أهديه إلى من يوفر له مصادر معينة في التاريخ المملوكي يريد اقتنائها. فأشرت عليه بالتواصل مع الدكتور محمد حسام لأنه خير معين له في ذلك، لاسيما وأنني كنت في ذلك الوقت في المملكة العربية السعودية، وقام حسام بذلك على خير ما يرام. وشكره عبدالوهاب المسيري الذي ظل متواصلًا معه حتى وفاته».
مسيرة طويلة
تعايش حسام إسماعيل مع الكتب داخل بيته تعايشًا عضويًا -على حد وصف- عبدالستار. فعندما زار مكتبه الواقعة في مقر إقامته بضاحية حلوان تفاجأ بوجود آلاف من الكتب النادرة التي يتعايش معها «تعايشًا عضويًا». إذ كانت موجودة في كل مواضع داخل شقته التي يسكن فيها منفردًا لا يصاحبه فيها كتبه. يقول: كنت كثيرًا ما أسأله عن قراءة هذه الكتب كلها التي تتنوع علومها وتزخر بفنونها. فكان يقول: «الخطوة الأولى أن يكون الكتاب بين يديّ ولي أن اقرأه عندما يحين الوقت المناسب لذلك».
كان لحسام أيضًا الفضل في تعريف عبدالستار بأعلام من المفكرين والكتاب. وعلى رأسهم الدكتورة دوريس أبوسيف التي تعمل أستاذة للآثار الإسلامية في جامعة لندن، والتي كانت أيضًا تستعين بالدكتور حسام لتزويدها بكل جديد يصدر في التاريخ والآثار داخل مصر. بجانب تعريفه بالدكتور برنارد أوكين، أستاذ الآثار الإسلامية بالجامعة الأمريكية والذي يعد أحد أصدقائه المقربين. يقول عبدالستار: «هذه المسيرة الطويلة التي تمتد من بداية العقد التاسع من القرن الماضي تجعلنا دائمًا نذكره بالخير وبفضله علينا وعلى جميع الآثاريين الذين تعاملوا معه».
وداعًا صاحب مدينة القاهرة
علاقة المؤرخ أبوالعلا خليل بالدكتور حسام إسماعيل بدأت منذ 30 عامًا. إذ تبادلا دومًا النقاشات التي ظلت مستمرة حتى رحيله، فهو يراه مثقف موسوعي صاحب حس إنساني نادرا ما تجده في إنسان. إذ جمع هاتين الصفتين؛ لذلك يعتبر أن رحيله كان مواكبًا تمامًا مع معشوقة حسام «القاهرة» التي أصبحت تأكل نفسها الآن وتلملم أوراقها لتصبح «مول كبير». وهو المصطلح الذي أطلقه حسام إسماعيل خلال إحدى أحاديثه الصحفية.
يقول: مات حسام وهو يشاهد ما يحدث في مدينته الأقرب وهي تتبدل نحو الحداثة المصطنعة، ورغم اعتراضنا إلا أننا مجبرين على الأمر. فقد رفع رايته بعد 50 عامًا كان عضوًا في لجان تنادى دائمًا بالحفاظ عليها.
مدينة المنفى والغربة
ويضيف أبوالعلا خليل: «شيعناك منذ أيام قليلة بدموع جارفة وقلوب جزعة إلى مثواك الأخير الذي يقع أسفل كوبري حديث جرى إنشاؤه على عجل داخل مقابر التونسي. ولا زلت أتذكر حتى الآن رائحة رديم المقابر التي جرى نبش أجداثها وتركت بقاياها تزكم الأنوف ويذرف عليها الدموع. ولعل هذا المآل والمصير يصير يومًا لرُفات العاشق الوله بهذه المدينة، فقد أحبها لكنها تخذله وهذا شأن كل محبين المدينة؛ لذلك فالقلب عليك موجوع فقد تركتنا ولا صوت يعلو على صوت تاريخ يهدر، وجرار يهدم لا يبقي ولا يذر.
فنحن نعزي أنفسنا ونحن نطوي صفحة مدينة تاريخية ساحرة وغاية أمانينا أن نتدارك عظامنا النخرة وأجداث الأحبة في أجولة حيث المنفى والغربة. فوداعًا أيها العاشق النبيل، أجرك على الله فعليه ومنه العوض. والأجر لمحبينك وأهلك وتلاميذك الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون».
اقرأ أيضا:
إسراء أبو زيد تكتب: وداعًا والدي «حسام»
خالد عزب يكتب عن حسام إسماعيل: محاولة إعادة تأريخ وتوثيق تراث الدرب الأحمر