ملف| جمال الغيطاني.. مقاوما الفناء
رغم أن جمال الغيطاني ولد في 9 مايو 1945 اليوم الذي أعلن فيه رسميا توقف الحرب العالمية الثانية. إلا أن حياته امتلأت بالحروب والمعارك الفعلية والمجازية. لم يتوقف يوما عن إعلانها وخوضها بجسارة، ودفع في أوقات كثيرة أثمانا باهظة لها.
كان يواجه الموت يوميا عندما اختار أن يعمل مراسلا عسكريا لجريدة أخبار اليوم، وفصل من العمل في بداية حكم السادات. ثم تجميد من الكتابة الصحفية طوال سنوات السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات. وعندما عاد للكتابة الصحفية لم يتوارى أو ينعزل في برج عاجي، بل خاض العديد من المعارك الصحفية دفاعا عن حرب الاستنزاف، ومعارك أخرى دفاعا عن آثار مصر وتراثها الممتد.
***
كان الزمن هو سؤال الغيطاني الدائم الذي يقوم عليه مشروعه الأدبي. وكانت الكتابة لديه هي إعادة بناء للذاكرة أو محالة ترميمها. الكلمات هي وسيلته للبناء، هكذا يستعيد في «التجليات» الأب الغائب أو يعيد بناء مبنى احترق أو إعادة بناء نصوص لم تعد موجودة، أو أغنيات ضاعت في زحمة النسيان، أو ما يسميه هو “ما كان كيف يمكن أن يكون؟” في لحظة أخرى!
كان يكتب لإنقاذ الأشياء التي أحبّها من الفناء، أو يخلدها قبل أن تختفي أو تتواري. مثلما فعل في كتابة «استعادة المسافرخانة: محاولة للبناء من الذاكرة».
الكتاب إعادة بناء من الذاكرة لأحد أجمل معالم الهندسة الإسلاميّة في القاهرة الفاطميّة. يبدأه الغيطاني من لحظة تلقّيه خبر احتراق المبنى. ثم يعود إلى مرحلة الطفولة حيث كان المسافر خانه مثيرا للغموض وللخيال. يكتب «المكان مهجور وفي الليل يكون خاويا إلا من حارس لا يزيد العمارة إلا غموضا… الذين دخلوا القصر قلة، والحكايات عديدة عن كنوز من الزمن مطمورة تحته.
ويتحول المكان إلى بؤرة للحفاظ على الماضي. فهو البيت الذي ولد فيه الخديوي إسماعيل وتوالى عليه المئات. كل واحد فيهم ترك ذكرياته في هذا المبنى الذي لا يمثّل فقط – كما يقول الغيطاني- مرجعا للفن المعماري الإسلامي في مصر. إنما ذاكرة للرؤية الفانية. إذ لولا العمارة لاندثرت الأفكار والصياغات المؤدية إلى تجسيد النظرة التي كان يتطلع إليها القوم إلى الواقع اليومي. هكذا يقودنا الغيطاني إلى رحلة فلسفية صوفية معمارية، وإنسانية بين جدران المبنى والزمن اللامرئي والمعنى الخفي الكامن في تلك العناصر. نرى في هذه الرحلة البشر الذين مرّوا على المكان… موكب عبدالناصر عندما يمر في الأعياد للصلاة في جامع الحسين. ونستمع إلى أصوات الحارة كصوت المؤذن، والنساء وهديل الحمام. كلّ هذا الجمال احترق، ولم تبق إلا الذاكرة. وحدها قادرة على ترميم عالم تصدّع، فتبعثه من جديد.
***
هذا الملف محاولة لقراءة عمارة القاهرة، بعيون واحد من حراسها وعاشقيها ومؤرخيها. العارف بها المدرك لقيمة تراثها والطبقات المتعددة لهذا التراث. كما نستعيد بعضا من معاركه دفاعا عن هذا التراث وهو محاولة أولى تتبعه محاولات أخرى.
اقرأ أيضا:
جمال الغيطاني.. استئصال ذاكرة المدينة
كان جمال الغيطاني يجيد قراءة الأثر من أحجاره
قاهرة جمال الغيطاني.. مدينة بنفس صوفي
جمال الغيطاني.. معاركه وكلماته
«سلام».. من نصوص جمال الغيطاني
«الأبدية».. من نصوص جمال الغيطاني