ملف| «السكون الذي ترقد تحته عاصفة»: أول مقال كتبه هيكل عن ناصر
في 18 يونيو 1952 وقبل ثورة يوليو بخمسة وثلاثين يوما، قدّم علي أمين لقراء آخر ساعة رئيس التحرير الجديد محمد حسنين هيكل، وكتب علي أمين مقالا يقدم فيه هيكل وانتهى بقوله إنني اليوم أقدم لكم استقالتي لأعود محررا عاديا في (آخر ساعة) وأقدم لكم مع الاستقالة رئيس التحرير الجديد محمد حسنين هيكل، وكان هيكل وقتها يبلغ من العمر 29 عاما، وبعد أيام من توليه رئاسة التحرير قامت ثورة يوليو، وقد كان هيكل أول مدني يدخل مقر قيادة الحركة فور وقوعها في ليلة 23 يوليو، وبعدها بدأت علاقته مع جمال عبدالناصر لتصبح أهم وأقوى علاقة بين صحفي وحاكم ربما في التاريخ الحديث، كانت أول مقالات هيكل بعد الثورة يوم 30 يوليو 1952 بعنوان «اسكتوا أنتم ودعوا غيركم» يتكلم كان المقال عبارة عن محاكمة للسياسيين في العهد البائد، مذكرا إياهم بمواقفهم أمام فاروق فكتب هيكل: «لا فائدة من كل هذا المجهود الذي يبذله زعماء الأحزاب السياسية ليجدوا لأقدامهم موضعا يقفون فيه على مسرح الأحداث اليوم، أي بطولة يتظاهرون بها اليوم بطولة مزيفة، وأي مجد يدعونه لأنفسهم مجد مسروق منهوب».
مقال هيكل
كان المقال حماسيا ملتهبا غاضبا ولكنه لم يتحدث عن الثوار الجدد، المقال التالي لهيكل بعد الثورة كان عن تطهير الصحافة، أما المقال الثالث فهو أول مقالات محمد حسنين هيكل عن ثوار يوليو وكان بعنوان من هم ضباط قيادة محمد نجيب.. الستار الحديدي الذي وضعوه حول أنفسهم، وكان تاريخ هذا المقال 27 أغسطس 1952 أي بعد الثورة بشهر وثلاث أيام ووقتها لم يكن مسموحا بذكر أسماء أعضاء حركة الجيش، فلم يذكر هيكل أسماء أحد منهم ولكنه كان بالرمز ووصف كل ضابط منهم بعبارة تناسبه وكان نصيب جمال عبدالناصر وصف السكون الذي ترقد تحته عاصفة وقبل التطرق إلى نص المقال يجدر بنا الإشارة إلى نقطتين هامتين:
أولهما: إن أول من فك هذا الحظر على أسماء ضباط الحركة كان مصطفى أمين في مقاله الشهير سر الضباط التسعة، وذلك يوم 14 أكتوبر 1952 في صحيفة الأخبار- بعد مقال هيكل بـ47 يوما- وهو المقال الذي أحدث ضجة كبيرة وقتها.
ثانيا: إن هيكل لم يتطرق طيلة حياة عبدالناصر إلى ذكر أي لقاءات بينهما قبل الثورة، سوى ذلك اللقاء الذي حكى عنه في مقاله السكون الذي ترقد تحته عاصفة في منزل نجيب قبل الثورة بأيام، أما باق اللقاءات فقد تحدث عنها بعد وفاة عبدالناصر، وقد ذكر أنه التقى بعبدالناصر قبل الثورة أربعة مرات.. والآن إلى نص مقال هيكل:
السكون الذي ترقد تحته عاصفة
سمعت عنه قبل أن ألقاه، كانوا يتحدثون عنه في الفالوجا المحصورة كما يتحدثون عن الخرافات والجن العمالقة، كان جريئا إلى أبعد حدود الجرأة وفي الوقت نفسه كان هادئا إلى أبعد حدود الهدوء، وكان هذا المزيج من الجرأة والهدوء شيئا عجيبا مثيرا. وكان كل زملائه يحبونه، واشتهر بينهم باسم تدليل كانوا يطلقونه عليه وينطقونه بأنفة وإعزاز، حينما يتكلمون عنه وهم جالسون في الخنادق في خط النار. وكان كثيرون في الفالوجا يحبون الاستماع إليه فقد كان يتكلم لغة جديدة ويثير فيمن حوله مشاعر جديدة قوية، وعندما كانت المعارك تهدأ يهرع إليه نفر من الضباط حيث يكون ثم تدور أحاديث تتجه كلها إلى الوطن البعيد حيث يفصل بينه وبينهم عدو يحاصر مواقعهم من كل ناحية، وكان تخليص وطنهم أهم عندهم من تخليص أنفسهم من الحصار الذي كانوا فيه. وعاد من الفالوجا هادئا ساكنا وفي نفس الوقت هائجا ثائرا. وكتب البوليس السياسي عنه تقارير وصفته بأنه من الإخوان المسلمين واستدعاه رئيس الوزراء القائم بالحكم وقتذاك لمقابلته وسأله: هل أنت من الإخوان؟، وكانت تهمة الالتصاق بالإخوان المسلمين في ذلك الوقت تهمة مخيفة وكانت مفاجأة لرئيس الوزراء حين قال الضابط: نعم أنا منهم. ودهش رئيس الوزراء وصمت لحظة ثم قال: لقد أعجبتني شجاعتك ولست أطلب منك تعهدا لي بألا تشترك في أعمال عنيفة. وحين خرج بعد انتهاء اللقاء وعرف بعض زملائه ما حدث أقبلوا عليه يسألونه: ولكنك لست منتميا إلى جماعة الإخوان المسلمين فلماذا قلت إنك منهم؟. وقال هو بهدوء: لقد كان سيتصور أني أتهرب وأجبن إذا قلت إني لست منهم. الذين اتصلوا بعمله يقولون إنه جندي محترف، الجندية في دمه وفي أعصابه وفي عقله، ويستشهدون على ذلك بفترة قضاها في كلية أركان الحرب وكان العقل المدبر للكلية، ومن خريجي هذه الكلية جاء معظم ضباط حركة القوات المسلحة. ثم التقيت به لأول مرة، وكان اللقاء في بيت اللواء محمد نجيب قبل أربعة أيام من حركة القوات المسلحة. وكان يبدو أبعد بكثير مما سمعت عنه، كان يرتدي قميصا أبيض وبنطلونا رمادي اللون، وبدا كأنه شاب عادي لولا الشيب الكثير الذي ملأ شعر رأسه، وكنت قبل أن يدخل هو إلى بيت اللواء محمد نجيب جالسا مع اللواء نتحدث عن موضوع الساعة في ذلك الوقت وهو حل مجلس إدارة نادي الضباط، وحين دخل هو واصلنا الحديث في الموضوع نفسه وكان هو ساكتا لا يتكلم. وقلت له: ماذا.. هل ستتركون المسألة هذه المرة تمضي؟. وقال في هدوء: ماذا نفعل؟ قلت: افعلوا أي شيء. ولكن لا يمكن أن تمضي المسألة هكذا. وقال في بساطة: أهذا رأيك؟ قلت في عصبية: وهل لك أنت رأي سواه؟ ثم التقيت به للمرة الثانية في الساعة الرابعة من فجر 23 يوليو، كانت الحركة قد فرغت منذ أقل من دقائق، وكانت رئاسة الجيش تعيش في جو غريب، حركات القوات حولها من كل ناحية، والدبابات والسيارات المدرعة ومدافع الميدان والمدافع الرشاشة، واقترب مني في صوت رقيق متزن يقول: ما هو رأيك.. هل يكفي هذا؟ ثم رأيته كثيرا بعد ذلك، رأيته يلزم مكتبه سبعة أيام متواصلة، وإذا غادره فإلى المكتب المجاور، حيث يشهد مؤتمرا، ورأيته يتكلم في كل الموضوعات ويقترح حلولا لكل المشاكل. وبعضها بعيد عن العسكرية بعد السماء عن الأرض. ورأيته يجلس على ذرى القوة دون أن يحس بها فإن رأسه لم يدر ولم يركبه الغرور. لقد كان في هذا كله كما وصفوه أيام الفالوجا مزيجا من الجرأة المتناهية والهدوء الوديع.
اقرأ أيضا
التخلص من بقايا فاروق: وداعا أيها الطربوش
مصائر الضباط الأحرار في نبوءة عرافة فرنسية
في البحر الأحمر.. قرأ «عبد الناصر» ديمقراطية خالد محمد خالد
في مكتبة فاروق: 150 ألف مخطوط.. ووثائق زعماء الثورة الفرنسية
18 تعليقات