«معاوية»..سهم طاش فأصاب الهدف!

هذا مسلسل أريد به الجدل. والجدل ليس دوما شيئا مذموما إذا ما نكأ جرحا ملأه الصديد، نساه العبيد أو تناسوه، معتقدين أنه غير موجود.
مثلما فتح مسلسل “الحشاشين” صفحات مهملة من تاريخنا الدموي المجهول، ها هو «معاوية» يعود إلى صفحات أقدم في الزمان، ليرصد أصل الفتنة، ومنبت العنف. وبغض النظر عن الأهداف “السياسية” للمسلسلين، وما قيل عن “نية” الأول في نقد جماعات العنف ضد الدولة، وما يقال عن نية الثاني في تمجيد عنف الدولة، وبغض النظر عن التنابذ الطائفي الذي ازدادت حدته مؤخرا بعد مصابنا ومصيبتنا في غزة، تلك الطائفية التي تزداد حدتها كلما منينا بهزيمة خارجية، وكلما طعنت كرامتنا، وتدلى ذلنا كطوق في العنق.
بين القصد والمحتوى
ربما لا يكون الوقت مناسبا بالطبع لصنع مسلسل يفتح هويس الطائفية الذي انداح على مواقع التواصل بكل عفنه وعنفه، وعلى بعد كيلومترات من حولنا تقام مذابح القتل على الهوية، ويقتل “الأشقاء” بعضهم البعض بمساعدة أعدائهم. ربما، ولكن بما أن المسلسل قد صنع وعرض في كل الأحوال، فلا مفر من الجدل، والجدل ليس دائما شيئا مذموما. لنستعير من فلاسفة الجدل منطقهم، ومن نقاد الأدب حكمتهم، ولننظر فيما يطرحه، وفيما يحتويه «معاوية»، وهناك فارق بين الاثنين، فالنص قد يقصد طرح شيئا، ولكن ما يصل إلى الناس منه ليس هذا الشيء بالضرورة.
وإذا جاز لنا أن نستخدم بعض أفكار الناقد ميخائيل باختين حول “المبدأ الحواري”، والفيلسوف جاك دريدا حول العلاقة بين الدال والمدلول، أو اللغة وحقيقة الشيء الذي تصفه هذه اللغة، وحول تعدد المعنى وتصدعه داخل أي نص، مهما حرص صاحبه على الدقة، إذا جاز لنا ذلك، وهو يجوز بالطبع، لنحاول تطبيقه على «معاوية» لنرى إلى أين يمكن أن يمضي بنا.
المعنى نفسه يتصارع ويتعدد ويتناقض
نحن، مبدئيا، أمام نص درامي يضم صراعا، أو مجموعة من الصراعات، وشخصيات كثيرة يعبر كل منها عن شخصيته وأفكاره وموقفه ضمن هذا الصراع. وبما أنه يوجد شخصيات و”حوار”، فإن المعنى نفسه يتصارع ويتعدد ويتناقض. صحيح قد يكون معاوية بن أبي سفيان هو محور العمل وبطله، ولكن خصومه موجودون، قد يحاول العمل الانتصار لبطله ويبرر أفعاله، ولكن المتلقي، خاصة إذا كان حصيفا، أو ميالا للشك والتساؤل، فسوف يعطي أذنيه أكثر لحوار خصومه.
خذ عندك، مثلا، شخصية مالك بن الحارث الأشتر، وهو يجادل الأمير معاوية في الحلقة التاسعة من المسلسل. يعترض الأشتر على الفجوة الطبقية الهائلة بين فئة الحكام والمرضي عنهم، الذين يعيشون في القصور، مثل معاوية، وبقية المسلمين الفقراء من أهل الكوفة. ولكن معاوية يرى أن مالك “حاسد نعمة لا طالب حق”. المشهد قد يقصد به إدانة مالك وأمثاله، لكن منطق الحوار والممثل القوي المقنع الذي يؤدي الدور، في مقابل الأداء البارد اللزج للممثل لجين إسماعيل في شخصية معاوية، قد ينقل للمشاهد معنى آخر، أو على الأقل يثير شكه في رواية معاوية.
الجدل المفيد
على مدار حلقات المسلسل التي عرضت حتى الآن يمكننا أن نجد مواقف مشابهة عدة. صحيح أن المسلسل، مثل معظم، إن لم يكن كل، المسلسلات “التاريخية” المماثلة، تقدس شخصيات بعينها و”تشيطن” أخرى، ولكن وجود هذه الشخصيات داخل دراما وحوار متبادل، وممثلين يرتدون إهاب الشخصية ويتبنون منطقها، يمكن أن يحدث جدلا مفيدا داخل وعي المتلقي.
وكما حدث بسبب “الحشاشين” في العام الماضي، حين راح الناس يفتشون ويقرؤون عن إناس ربما لم يسمعوا عنهم من قبل، فإن “معاوية” أيضا يشجع الكثيرين على البحث في هذا التاريخ وقراءة الروايات المختلفة حوله، لتكوين رأي متوازن ومتزن.
في أحد المشاهد الجميلة في «معاوية» يتبادل اثنان من الولاة على مصر الاتهامات، ويطلب الخليفة عثمان بن عفان رأي الإمام علي بن أبي طالب. وبأداء إياد نصار العظيم للشخصية، يقول الإمام علي ما معناه: هناك ثلاثة احتمالات، الأول أن يكون أحدهما صادقا والثاني كاذبا، وفي هذه الحالة يجب عزل الكاذب، والثاني أن يكون الاثنان على حق، وفي هذه الحالة يجب عزلهما معا، والثالث أن يكون الاثنان كذابين، وفي هذه الحالة يجب عزلهما معا أيضا.
في الحقيقة، كل التاريخ يحتاج منا إلى هذا الموقف المتشكك. فليس هناك صادق مطلق وكاذب مطلق، وادعاء عكس ذلك هو سبب كل المذابح التي حدثت وتحدث، منذ أن بدأ هذا التاريخ. والأقرب للدقة أن التاريخ مزيج من الصدق والكذب معا. ولكن إلى أن نتعلم هذا الدرس. فقد تمر قرون أخرى علينا من الكراهية وتبادل الاتهامات، أو ربما ننقرض قبل أن نتعلمه.
الأخطاء وجهة نظر
مهما قيل عن مسلسل «معاوية» من “أخطاء” تاريخية، فإن التاريخ “وجهة نظر” في كل الأحوال، والدراما هي وجهة نظر في التاريخ في كل الأحوال، وبالتالي نحن أمام وجهتي نظر في وقائع لم نشهدها، في مدلول عليه لا نعرفه ولم نعايشه، وليس أمامنا سوى التراشق بالدوال، علما بأن كل دال منهم، سواء كان كتاب تاريخ قديم أو حديث، أو مسلسل أو فيلم، هو “غابة” من الدوال والمعاني.
في المسلسل يتحدثون كعادة الأعمال التاريخية المماثلة عن المثاليات والأخلاقيات والقيم المطلقة، وبالطبع كان لدى هؤلاء العظماء الأوائل منظومة من المثاليات والقيم والعقيدة الصلبة، ولكن الطبيعة البشرية والصراعات النفسية والطبقية تفرض نفسها. ومنذ عهد النبي (ص) والخلافات تدب حول توزيع الغنائم. لا يستطيع أي كتاب تاريخي أو مسلسل أن يتجاهل هذه الحقائق، حتى لو حاول تخفيفها أو إخفاءها، وهي حاضرة بقوة في مسلسل “معاوية”، وتؤكد أن تحت سطح أي صراع، صراعات أخرى، وطبائع بشرية ومصالح متناقضة.
يمتلئ مسلسل «معاوية» بطبقات من هذه الدوال. كل شخصية وموقف درامي يحمل تناقضاته الكامنة، من أول هند بنت أبي عتبة، إلى أبي سفيان وابنهما معاوية، وهلم جرا.
حتى الأخطاء الفنية، مثل عدم دقة الملابس والديكورات القادمة من عصور أخرى وأعمال فنية أخرى، هي معان إضافية تتناحر فيما بينها. القالب الدرامي للمسلسل، حياة القصور وصراع الحريم “السلطاني” القادم من المسلسلات التركية. من الظريف مثلا أن الأبطال من سكان قريش والصحارى المجاورة أكثر بياضا وتمتعا بالملامح الأوربية من الروم الذين تغلب عليهم السمرة والنحافة! تصميم المعارك الهوليوودي، والموسيقى التصويرية، التي تحمل نغمات عصرية معزوفة بآلات لم يعرفها المسلمون الأوائل. من الطريف أن معاوية يلاعب نفسه الشطرنج على طريقة الأفلام البوليسية، مع العلم بأن العرب عرفوا الشطرنج عن طريق الفرس، الذين يحاربهم ويكرههم معاوية ويخاصمهم المسلسل!
جميلات جيمس بوند
ناهيك طبعا عن الجميلات اللواتي يمتلئ بهن المسلسل كما لو كان فيلما لجيمس بوند، من أول هند التي تشيخ وتموت في أبهى صورة، حتى لتبدو أصغر من ابنها، إلى جويرية التي تبدو كملكة في “حريم السلطان عبد الحميد”، وأسماء جلال، التي تطل على المسلسل من ” أشغال شاقة جدا”، فتحيل خيال المشاهد لا شعوريا إلى هشام ماجد، والبدوية الناعمة كالياسمين عائشة بن أحمد، القادمة من الريف الفرنسي مباشرة.
وقبل كل هؤلاء، لجين إسماعيل، الذي يصعب تخيل أنه صحراوي من شبه الجزيرة منذ ثلاثة عشر قرنا مضت، والذي يبدو ابنا لجومانا مراد أكثر منه ابنا لهند بنت عتبة! لجين/ معاوية أقرب إلى بطل هوليوودي، فارس مغوار وسيم مفتول العضلات، يحرص المسلسل على تصويره عاريا يستحم، لا مرة واحدة، بل أربع مرات (حتى الآن فقط)، آخرها في حمام سباحة القصر بصحبة فاتنة جذابة عارية الكتفين خارجة للتو من فيلم إيطالي.
لعبة الشك!
ما أقصده أن المعاني وطبقات التاريخ والجغرافيا تتداخل، وأن ذلك ليس سلبيا بالضرورة إذا كان يفضي بنا إلى التفكير في هذه المعاني والطبقات، وإلى إدراك أنه لا توجد حقيقة، بل ظلال من الحقائق المتباينة، المتناقضة أحيانا، وأن الماضي لا يوجد، بل يتم تخيله. لنستمتع بلعبة المسلسل بروح مرحة، فالتاريخ لن يفارق قبره، ولا أحد سيغير قناعاته بمسلسل، ولكن الجدل الإيجابي من شأنه فقط أن يجعلنا أكثر تشككا، وتسامحا، وقبولا للآخر داخلنا، قبل الآخر الذي نكرهه. ربما يكون صناع المسلسل قد قصدوا هدفا بعينه، ولكن العمل نفسه لا يمكن أن يصبح رهينة معنى واحد. ومجرد أن نصنع مسلسل هو شيء ديموقراطي في حد ذاته، يتيح للمتخاصمين أن يعبروا عن أصواتهم بشكل متحضر، على عكس الواقع، وليت برابرة الـ”سوشيال ميديا” يتعلمون من ذلك.