معارك بهاء: لم يحارب طواحين الهواء
خاض أحمد بهاء الدين في حياته الصحفية العديد من المعارك مع رجال الدولة ومع رجال الدين ومع زملاء له في الوسط الصحفي إلا أنه استطاع – برغم معاركه الكثيرة التي استنزفت طاقته وأعصابه- أن يكتسب احترام الجميع باختلاف التيارات، والحقيقة أن معارك بهاء بتنوعها تحتاج وتستحق أن يفرد لها كتابا بأكمله، ومن ثم سنرصد بعض من تلك المعارك بشكل بانورامي
جاهين والمدعي الاشتراكي
بدأت أحداث هذه المعركة الطويلة في شهر أغسطس 1974، عندما أعلنت لجنتي الصحة والإسكان بمجلس الشعب أن هناك إهمالا وقصورا في مرفق مياه القاهرة وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن هذا التقصير واعترفت وزارة الصحة بأن هناك شوائب غريبة من الكائنات الحية في المياه ولكنها – على حد زعمهم- غير ضارة بالصحة. كما اعترف رئيس مرفق المياه بأن بعضا من هذه الشوائب تسرب في المواسير إلى المنازل. هكذا بدأت الأخبار وتوالت الحوادث والتحقيقات وجلسات مجلس الشعب.
وفي يوم السادس والعشرين من سبتمبر ظهرت مانشيتات الصحف أن الوزارة الجديدة برئاسة عبدالعزيز حجازي تحلف اليمين مساء اليوم، ومن ضمن الوزراء كان دكتور مصطفى أبوزيد وزيرا للعدل مع احتفاظه بمنصب المدعي العام الاشتراكي – هكذا كتب بجوار اسمه وكان الدكتور مصطفى أبوزيد قد عين في وظيفة ابتكرها السادات لمحاربة خصومه وهي المدعي العام الاشتراكي، وكان ذلك وقت قضية 15 مايو التي عرفت بقضية مراكز القوى – وفي نفس الصفحة كان الخبر التالي “تحقيق عاجل تتولاه النيابة في تلوث المياه”، وقد قررت النيابة حفظ القضية وأن المتسبب في تلوث المياه مجهول، وهنا ظهر دور الفنان المبدع صلاح جاهين لتبدأ مع ريشته معركة في صحيفة الأهرام هى كما وصفها أحمد بهاء الدين أول معركة صحفية من نوعها خاضتها صحيفة ضد وزير انتهت إلى إخراج الوزير منذ زمن طويل جدا، ويقصد بها هنا منذ ثورة يوليو، ففي الأول من نوفمبر رسم صلاح جاهين في نافذته صورة للمدعي الاشتراكي، ولم يرسم صلاح جاهين المدعي الاشتراكي في صورة مسيئة ولكنه رسمه بكامل أناقته مرتديا بدلته وفي مكتبه وهو يملي على كاتب التحقيق في موضوع تلوث المياه وكتب أعلى الرسم “لا أحد مسؤول عن تلوث المياه” والمدعي الاشتراكي يقول للكاتب: “تقيد ضد مجهول.. المجهول اللي أنت عارفه بتاع حريق الأوبرا وقصر الجوهرة وسرقة عصاية توت عنخ آمون واختفاء الصابون”، وفي اليوم التالي رسم صلاح جاهين كاريكاتيرا آخر بعنوان “الحكم بعدم مسؤولية أحد عن تلوث مياه الشرب” ورسم فتاتين أحدهما تقول للأخرى: ده عريسي مهم قوي في البلد وهو المجهول اللي بيعمل الحاجات اللي بتسمعي عنها.
وقتها كان بهاء هو رئيس تحرير الأهرام، وكان جاهين يستشيره في كل رسم كاريكاتيري بالتليفون صباح كل يوم. وقد وافقه بهاء على فكرة رسم المدعي الاشتراكي في صورة كاريكاتيرية. يقول بهاء: وجاءني صلاح جاهين منزعجا في مكتبي وقال لي إنه تلقى بالتليفون استدعاء بالذهاب غدا إلى النيابة للتحقيق معه في الواقعة المنسوبة إليه وهدأت من روعه وقلت له أن يذهب إلى الموعد، وألا يقول أكثر من أنه استخدم حقه في التعبير عن الرأي وأنه عرض الرسم على رئيس التحرير المسؤول، وأنه يطعن في حق المدعي الاشتراكي ومكتبه في التحقيق معه ويطلب السماح له باستدعاء محام ومندوب من النقابة “ورئيس التحرير المسؤول “، وفي اليوم التالي- يوم ذهاب جاهين للنيابة- ظهر في صدر الصفحة الأولى للأهرام بيان بعنوان التحقيق مع صلاح جاهين كان نصه: “استدعى أمس الأستاذ عبدالحميد صادق المحامي العام بمكتب النائب العام الرسام صلاح جاهين للتحقيق معه بناء على طلب الدكتور مصطفى أبوزيد فهمي بوصفه المدعي العام الاشتراكي في الكاريكاتير الذي نشره الأهرام أمس ولمس الأول تعليقا على تقرير نتيجة التحقيق في شأن تلوث مياه القاهرة، وقد نسب إليه ارتكاب جنحة إهانة إحدى السلطات العامة. وقد أبدى الرسام صلاح جاهين في التحقيق أنه كان يصدر فيما نشره من كاريكاتير عن حقه في التعليق على أمر من الأمور التي تهم الرأي العام، وأن التقرير محل التعليق تقرير إداري وليست له أي صفة قضائية وأن مناقشة التقرير لا تعني المساس بسلطة التحقيق وأنه أراد به الحث على تحديد المسؤولية عن عدم تزويد مرفق المياه بالكلور وقطع الغيار في الوقت المناسب وأنه استقى معلوماته عن التقرير مما نشرته الصحف بشأن المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه نتيجة التحقيق الإداري”.
أعطى أحمد بهاء الدين في هذا البيان درسا لمسؤولية رئيس التحرير الأدبية أمام العاملين في الجريدة فلم يتهرب أو يلقي التبعة على جاهين، ولكنه تصدّر المشهد بهذا البيان الذي ينطوي على التحدي والإعلان عن دخول معركة ولم يكن ذلك بمألوف، وأحدث هذا النشر ضجة كبرى جعلت الذين ذهب إليهم صلاح جاهين لا يفتحون معه أي تحقيق في انتظار تعليمات جديدة، وعاد جاهين بلا تحقيق، ولكن الدكتور مصطفى أبوزيد لم يترك الأمر يمر، فقد أرسل ردا مطولا وعنيفا للأهرام على البيان، وتوالت الردود بين أحمد بهاء الدين ومصطفى أبوزيد وانتقلت المعركة إلى الجمع بين منصبي وزير العدل والمدعي العام الاشتراكي، ويقول بهاء: اتصل بي الرئيس أنور السادات تليفونيا وقال لي إيه الحكاية مع مصطفى أبوزيد؟، أنتو مش تسيبوا الراجل بقى؟، ولا أنت عايز الناس تقول أن الأهرام رجع يشيل وزراء ويحط وزراء؟
وقلت له: اسمح لي يا ريس، المقارنة التي في بالك لا أساس لها إطلاقا وهو الذي تجنى علينا وليس العكس ومنذ أحيل الأمر إلى اللجنة التشريعية توقف الأهرام عن نشر أي شئ عنه حتى لا يساء تأويله وضحك بهاء وقال: وأنا يا ريس واثق مائة بالمائة من قرار اللجنة التشريعية مهما كانت الظروف.. وقد انتهى الموضوع فعلا بتأييد اللجنة التشريعية لرأي الأهرام وصدر قرار بإبقاء مصطفى أبوزيد مدعيا عاما وتعيين وزير آخر للعدل.
بهاء والشعراوي
كان بهاء من الكتاب الذين تصدوا لبعض آراء وفتاوى الشيخ الشعراوي، ففي عام 1989 أفتى الشعراوي بأن نقل أعضاء الجسم حرام، فالجسم ملك لله تعالى ولا يملك الإنسان أن يتصرف فيما لا يملك بدليل أن الانتحار حرام، وقال الشعراوي إن نقل الأعضاء هو تأجيل لقاء الإنسان بربه أي تأجيل الموت ثم ختم الشعراوي قائلا: أنتو حتمنعوا الموت؟. فكتب بهاء بأن هذا الرأي خطأ والمقارنة بالانتحار غير صحيحة، فالانتحار هو إزهاق للروح وأن ما قاله الشعراوي هو سخرية من غرف الإنعاش ومن غسيل الكلى للمصاب بالفشل الكلوي، هو إلغاء لعلوم الطب وإغلاق المستشفيات ومن يمرض يترك لمصيره لأن لقاء الله لا يجوز تعطيله ولا داعي لمحاولة إنقاذ مصابي الكوارث وختم بهاء بسؤال: هل يعالج الشيخ الشعراوي في المستشفيات وعلى يد الأطباء حين يمرض أم لا؟
بهاء وحزب التجمع
بعد وفاة صلاح جاهين كتب حزب التجمع نعيا للراحل ونشره في جريدة الأهرام ، وكان النعي مثيرا للجدل فقد كتب الحزب في النعي: “صلاح جاهين الذي عبر بكلماته وبريشته عن شعب مصر في الخمسينيات وعن ثورته ومعاركه في الستينيات” وهنا يقول بهاء: وكأن صلاح جاهين لم يملأ الدنيا في السبعينيات والثمانينيات بما قد لا يرضى اليمين أو اليسار ولكنه يرضى ضميره أولا”، استمرت المناوشات بين بهاء وكتّاب حزب التجمع حتى انفجرت معركة كبرى بينهم في أغسطس 1986 أثناء إعداد حزب التجمع حفلا لتأبين صلاح جاهين وتجاهلت صحيفة الأهرام ذكر أن الحفل مكانه حزب التجمع وانتقد بهاء عدم تقديم أغنية لسعاد حسني في الاحتفال كانت مقررة في الفقرات وتغاضى عن تجاهل الأهرام لحزب التجمع ففتح الأستاذ صلاح عيسى عليه النار في صحيفة الأهالي بمقال بعنوان: “نحن وأحمد بهاء الدين وصلاح جاهين” كانت من بين الاتهامات التي وجهها عيسى أن بهاء هو الكاتب التقدمي الوحيد الذي ساند السادات في حملة سبتمبر 1981 ضد فصائل المعارضة ومع ذلك كان الوحيد الذي استثنته الأهالي من هجومها على كل من أيد هذه الحملة.
اقرأ أيضا
ملف| أحمد بهاء الدين.. جماليات الكتابة الديمقراطية
قصة اللقاء الأول بين بهاء وروزاليوسف
عندما هدده كامل الشناوي بنشر قصائده: بهاء شاعرا
6 تعليقات