مذبحة حدائق القبة: حكاية البلطجي النبيل (4-4)
تعبر مذبحة حدائق القبة عن الثقافة الثأرية من خلال مواقف عملية ونظرية تكشف عن عمق الفكر الثأري في وجدان أطراف المذبحة وسكان المنطقة.
نحن لا نستطيع فهم السلوك الثأري جيدا دون فهم الأبعاد الرمزية للعنف والعنف المضاد، وكذلك الطبيعة التصاعدية للسلوك الثأري. حيث يبدأ الأمر بكلمة على سبيل الضحك تقع في صدر الآخر موقع العدوان، وتجرحه داخليا، ويتحقق عمق الجرح من خلال تفاعل الحدث مع الذاكرة وما تحمله من علاقات بين الطرفين. ومن هنا يصبح الجرح عميقا أو سطحيا لا من خلال السلوك نفسه، بل من دلالاته وتفاعله مع رمزية المهانة والمكانة. ومن ثم يكون رد الفعل الثأري متناغما مع الجرح لا مع العدوان. وقد يحدث الجرح دون وعي من الطرف الأول، وهكذا يصبح العدوان متخيلا، ويكون رد الفعل أقوى في الغالب، ويتصاعد بسهولة من الشتم إلى الضرب، والقتل.
**
هذا ما حدث بالضبط في مذبحة حدائق القبة التي بدأت بكلمة على سبيل الدعابة، ثم تصاعد الأمر إلى الشتم، ثم الضرب، وأسفر في النهاية عن مصرع ثلاثة رجال.
يظهر الجانب العملي لثقافة الثأر في موقف “وليد” الذي تعرض للضرب من قِبَل “حسن بخيت”. لكنه لم يفكر في الذهاب إلى قسم الشرطة، بل لجأ إلى شقيقيْه كي يحصل على حقه. وهو تصرف شائع في المنطقة حيث يفضِّل الأشخاص حل الكثير من المشاكل بالطرق العرفية بعيدا عن الطرق القانونية. وهنا يكمن نبع من منابع الثقافة الثأرية، بغض النظر عن طبيعة المكان من حيث البداوة والحداثة.
للضربة التي تعرض لها وليد قوتها الرمزية التي تتجاوز تأثير الضرب على الجسد، أو البعد المادي للضربة، لتعبر عن إصابة نفسية قوية. أي أن شدتها لا تقدر بمدى الألم الذي تتركه في الجسد، بل من الجرح المعنوي. وهذا الجرح يحدث عندما نتعرض للضرب بشكل عام. لكن شدة الجرح وقيمته الرمزية ترتفع بالعلاقات التي تربطنا بالآخر أو بمكان الحدث.
**
تعرضنا للضرب في مكان لا أحد يعرفنا فيه يختلف عن تعرضنا للضرب في مكان ولدنا وعشنا فيه وتربطنا بسكانه علاقات قوية وعميقة. ومن هنا ترتفع قيمة الضربة بسبب الخلافات القديمة بين الطرفين بسبب الصراع على زبائن لعبة البلياردو. وبسبب عيون الآخرين، وارتباط المكانة بالمكان، والعلاقات الواسعة التي تجمع بين سكان المنطقة.
ترتفع القيمة الرمزية للضربة بسبب تصورات ثقافية معينة، منها علاقة الأطراف بالزمن. فالكبير الذي يضرب الصغير ليس كالصغير الذي يضرب الكبير. ولأن المضروب يعتبر في ظل الثقافة الشعبية بمثابة الشقيق الأكبر للضارب، بحكم العلاقات الطيبة والعميقة التي تجمع بينهما، وبين أشقائهما، والتي نشأت بحكم مولدهم في مكان واحد ونشأتهم معا. وقد بدأ عتاب الضارب بتذكيره بتلك القيمة الثقافية: “إزاي تضرب أخوك الكبير”. وهي قيمة لا تنتمي إلى عالم المدينة بل إلى عالم الثقافة المتجذرة في الوجدان الشعبي من قبْل أن يتوزع إلى أرياف ومدنٍ كبيرة.
**
الطاقة الرمزية للضربة تنتمي للعالم الداخلي للإنسان. ويختلف أثرها من إنسان لآخر، ونحن لا نستطيع قياس القوة الرمزية إلا بالمظاهر الخارجية. وقد ظهرت شدة الأثر الداخلي للضربة في استدعاء المضروب لشقيقه من المصيف في مدينة الإسكندرية. ولا أحد يفعل ذلك إلا لشدة ما يعانيه نفسيا. ولا أحد يقطع رحلته الصيفية، ويغادر الإسكندرية في أسرع وقت ممكن إلا لشعوره هو الآخر بأهمية الحدث. حتى الضارب نفسه يدرك القيمة الرمزية لتلك الضربة. وتوقع عنفا مضادا لا أحد يعرف مداه. ومن ثم فقد استعد جيدا وهو ينزل للقاء أسرة المضروب وبعض الجيران الذين توافدوا للتوفيق بين الطرفين وإنهاء المشكلة بالتصالح.
الحقُّ الذي يحقق الرضا هنا هو العقاب بالمثل. أي رد الضربة إلى الضارب، أو إحضاره إلى مكان المضروب خاضعا معتذرا، أو كليهما معا. وقد وافق الضارب على الاعتذار لكنه رفض التعرض للضرب من قِبل شقيق المضروب. وقد توقع حدوثه، وأعد العدة لرفضه مهما كان الثمن.
رفضُ الضارب للعقاب بالمثل يعتبر من السمات الهامة التي تميز العقاب القانوني عن العقاب العرفي. لأن العقاب الذي يصدر عن المؤسسات منضبط ومتوازن وأخف في قيمته الرمزية من العقاب الصادر عن الأشخاص. فالإهانة التي تأتي من المؤسسات شيء، والتي تأتي من الأشخاص شيء آخر حتى لو كانت واحدة.
رفض الضارب للعقاب بالمثل يعتبر من أهم مساوئ الثأر الشخصي. لأنه يؤدي إلى توسيع نطاق العنف بدلا من السيطرة عليه. حيث يلجأ الضارب في كثير من الأحيان إلى الضرب مرة ثانية. وبشكل أشد وهو ما حدث في تلك الواقعة.
**
لقد امتدت يد “سامي” إلى جسد “حسن بخيت” فاعتبرها الأخير عدوانا لا عقابا. خاصة في ظل تواجد بعض سكان المنطقة، كما اعتبرها بادرة لضربات أخرى، في ظل وجود الشقيق الثاني. هكذا تضخم المعنى الرمزي للضربة أو “الزغدة” في الصدر حسب قول أحد الشهود. وهذا التضخم هو الذي دفع المضروب إلى إخراج سلاحه الناري والتهديد باستخدامه.
رفع السلاح في حد ذاته تم اعتباره عدوانا آخر، لأنه يعني إخضاع الآخر بالقوة، أو استعراض البأس الشخصي. ومن هنا حاول “سامي” الاستيلاء على السلاح. وهنا دخل الأمر في منظومة أعراف البلطجية. أو كما تقول هايدي في شهادتها: “خالي كان عايز ياخد المسدس، وفى عُرْف “حسن” وعرف البلطجية ماحدش ياخد سلاحه من إيده، وقام بإطلاق الطلقة الوحيدة”.
وإطلاق العيار الوحيد في جسد “سامي”. ثم طعن “أمير” بالكزلك.
**
تظهر الثقافة الثأرية في موقف “وليد” من مقتل شقيقيْه، فهو لم يفكر في إبلاغ الشرطة، وقرر أخذ حقه بيده، وقام بقتل القاتل. أي أن اجتناب الطريق القانوني لا يرتبط بالمشكلات الصغيرة. بل يشمل المشكلات الكبيرة أيضا. والموقف الثأري هنا يبدو متناغما تماما مع ثقافة وليد التقليدية رغم إقامته في مدينة ظهرت إلى الوجود حديثا.
الظهور الأعمق لثقافة الثأر يتجلى في وقوف “حسن بخيت” وعدم قيامه بالفرار من مسرح الجريمة، واستسلامه بعد سقوطه على الأرض، وتشجيعه لشقيق القتيليْن ليقوم بقتله. وقد تم تفسير سقوطه بسببين، الأول هو انزلاق قدمه بسبب ضغطها على الدم المسفوك في الشارع، والآخر تأثره بكرة البلياردو التي تم تسديدها في وجهه. والسببان في تقديري لا يمنعانه بشكل حاسم عن القيام مرة أخرى وهو يواجه الموت. والأمر في تقديري يرتبط بدلالة رمزية للسقوط تعكس حالة من التعب الداخلي، أو السقوط الداخلي الذي تم ببطء عبر أحداث معينة. مثل دخوله السجن لمدة طويلة، وهروبه من المستشفى قبل إجراء عملية في الظهر خوفا من تعرضه للعجز الكامل.
وفي النهاية قبِل “محمد بخيت” موت شقيقه على يد “وليد” كسلوك طبيعي، بل عبر عن امتنانه لموقف شقيقه الذي لم يترك وراءه دما أي ثأرا.
**
وأخيرا تظهر الثقافة الثأرية كثقافة جماعية في رضا أهالي المنطقة عن السلوك الثأري لوليد. رغم أنه تجاوزَ حدَّ القتل إلى العبث بالجثة، وموالاة التعدي على المجني عليه بعصا البلياردو وتهشيم رأسه بعد أن توفي إلى رحمة الله.
ويبلغ رضا الجماعة ذروته في مظاهرة الحب التي انطلقت عبر صفحات التواصل الاجتماعي، و أثناء دفن القتلى، خاصة بالنسبة لحسن بخيت الشهم الجدع!! رغم قيامه بقتل رجلين.
تظهر خصوصية الممارسات الثأرية في وجودها مع غياب المصطلح بخلاف الأمر في الصعيد. وقد ظهر ذلك أثناء حواري مع بعض الأشخاص حيث رفض أحدهم اعتبار ما فعله “وليد” ثأرا، في الوقت الذي اعتبره أخذ حقٍ. وقد يرجع ذلك إلى ارتباط كلمة الثأر في الصعيد بدلالة إيجابية، وارتباطها في العاصمة بدلالة سلبية نتيجة ثقافة المدينة التي تعتبر الثأر الشخصي سلوكا خاطئا أو متخلفا.
كما تظهر في التنفيذ العشوائي بسبب ضعف الخلفية التراثية الخاصة بالثأر وأعرافه أو آدابه، أو الاعتماد على خلفية ثقافية مستقاة من الأعمال الفنية لا من الواقع والتلقين المباشر من الأعمام والأجداد والأقارب كما هو الحال في الصعيد.
وتظهر العشوائية هنا في الهجوم التلقائي الذي قام به وليد، ولجوئه إلى أقرب الأدوات لمتناوله حتى لو لم تكن قاتلة بطبيعتها مثل كرات البلياردو. وكذلك عدم الاكتفاء بموت القاتل، وموالاة التعدي عليه بعصا البلياردو بعد وفاته. الأمر الذي يعتبر عارا في أعراف الثأر.
ولا شك أن الوصول إلى خصوصية الثأر في القاهرة يحتاج إلى دراسة حالات كثيرة، أرجو أن تسمح ظروفي بتناولها، وأتمنى أن تهتم بها المؤسسات البحثية المتخصصة والمعنية بالعنف والتراث وعلم الاجتماع وغيرها.
اقرأ أيضا
مذبحة حدائق القبة: حكاية البلطجي النبيل (3-4)