مدينة ماضي الأثرية: أطلال عمرها 4000 عام في طي النسيان

تعتبر مدينة «جيا»، التي تعرف الآن باسم «مدينة ماضي»، من أهم وأروع المواقع الأثرية بالفيوم. تقع على بعد مائة كيلو متر جنوب غرب القاهرة، ولها تاريخ طويل وعريق يمتد لأكثر من 4000 عام. تحتوي المنطقة على المعبد الوحيد في مصر الذي يعود تاريخه إلى الدولة الوسطى، كما تضم المدينة معالم أثرية أخرى من العصور البطلمية والرومانية والقبطية. وأقيمت بها أول حديقة أثرية وطبيعية في مصر، التي تم افتتاحها في عام 2011 للزوار.. هنا جولة في المدينة للتعرف عليها وعلى تاريخها العريق.

اكتشاف مدينة ماضي

يقول أحمد عبد العال، مدير عام الآثار الأسبق بالفيوم لـ«باب مصر»: “تم اكتشاف مدينة ماضي في الثلاثينات على يد عالم البرديات الإيطالي الشهير “أكيلي فوليانو”. عُرفت المدينة عند تأسيسها باسم مدينة “جيا”، ثم أطلق عليها الاسم اليوناني “نارموثيس”، وتُعرف الآن باسم “مدينة ماضي”. قام فوليانو بإزالة الرمال عن المدينة خلال ست حملات تنقيب جرت ما بين عامي 1935 و1939، ثم انقطعت أعمال التنقيب بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية.

تم استكمال الحفائر منذ عام 1978 بواسطة بعثة جامعة “بيزا” الإيطالية، وتوالت بعد ذلك العديد من الاكتشافات الهامة في المدينة، التي لا تزال تكشف عن كنوزها المدفونة تحت الرمال، وتعد من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين.

«جيا» مدينة أمنمحات الثالث

تشير الدراسات الأثرية إلى أنه تم تكريس المعبد الذي شيده الملك أمنمحات الثالث في “جيا” لعبادة كل من “رننوتت” الكوبرا، رمز الحصاد عند المصري القديم، و”سوبك” التمساح المقدس إله الفيوم، الذي أصبح اسمه فيما بعد “كريكوديلوبوليس”. وأكمل الملك أمنمحات الرابع المعبد وكرس لعبادة الإلهة “إيزيس”. يُعد المعبد الوحيد الباقي من عصر الأسرة الثانية عشر. ومنذ حوالي 7 أو 8 قرون، في نهاية الدولة الحديثة، هجر السكان المدينة وغطت الرمال المعبد، مما أدى إلى فقدان أهميته، ولحق الخراب بأجزائه الظاهرة.

العصر البطلمي “نارموثيس

يقول عبد العال: “مع العصر البطلمي استعاد إقليم الفيوم أهميته مرة أخرى على يد بطليموس الثاني وخلفائه، ونهضت مدينة “جيا ” مرة أخرى، لكن تحت اسم يوناني جديد هو “نارموثيس” مدينة “رننوتت هير موتيس”. تم ترميم وإعادة بناء معبد أمنمحات، حيث تم توسيع مساحته من جهة الجنوب والشمال، كما تم إضافة معبد جديد وبناء سور طويل حول أرض المعبد المقدسة.

وخلال فترة العصر الروماني، ظلت المدينة حية ومنتعشة. في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الميلادي، بدأ السكان في هجر منطقة المعابد القديمة تدريجيا، وغطت أكوام الأتربة والرمال والأحجار أرضها. انتقل السكان تدريجيا إلى المنطقة العمرانية الجنوبية، حيث سكنوا المنازل القديمة، وبنوا مساكن جديدة عند أطراف المدينة. وفي نهاية القرن الثالث الميلادي، خلال حكم الإمبراطور دقلديانوس، تم بناء حصن “نارموثيوس” العسكري، الذي استقبل جنود الوحدة العسكرية الرابعة “نوميداروم”، مما يعزز قيمة نارموثيوس الاستراتيجية”.

العصر القبطي وما بعده

وبحسب المعلومات المكتوبة على اللوحات الإرشادية بمركز الضيافة بمدينة ماضي، الذي يحكي تاريخ المدينة ويضم العديد من الصور الأولى للحفائر وأعمال البعثات المختلفة. استقر السكان في المنطقة الجنوبية من المدينة خلال العصر القبطي. وتحديدا بين القرنين الخامس والثامن الميلادي، وقاموا بتشييد الكنائس التي تميزت بتخطيط فريد. وكانت المدينة مركزًا هامًا للديانة المانوية، ومن المرجح أنها كانت تسمى آنذاك “ترنوت”.

ومنذ بداية القرن الثامن حتى الحادي عشر، أقام العرب أجزاء من المدينة، لكنهم سرعان ما هجروها. وعُرفت المدينة بعد ذلك باسم “مدينة ماضي”، وهو الاسم الوارد على خرائط الفيوم في كتاب “وصف مصر” (1802 – 1810) الذي ألفه فريق العلماء المصاحب للحملة الفرنسية.

اكتشافات متوالية

ويكمل الباحث الأثري: في عام 1938، عثر أكيلي فوليانو مكتشف المدينة على أكثر من 1500 “أوستراكا”، وهي قطع “شُقف” من الفخار عليها كتابات منقوشة بالهيراطيقية واليونانية والديموطيقية تعود للقرن الثاني الميلادي. كانت تلك الشقفات محفوظة في آنيتين ضخمتين من التراكوتا “الطين المحروق” داخل أحد المنازل. وكانت جامعة ميلانو الحكومية مسؤولة عن الحفائر في الفترة من 1966 وحتى 1969، وفي عام 1978حصلت جامعة بيزا على امتياز للقيام بأعمال الحفر بالمدينة. عثرت على “كوم ماضي” الذي يبعد عن المدينة بمقدار كيلو متر، كما عثرت على معبد أنوبيس، ومقصورة “إيمحوتب”.

وتابع: تم العثور على مقصورة أخرى تضم رسومات ذات طابع مصري – يوناني، كانت مكرسة لعبادة أحد الأسر الحاكمة. وفي عام 1984، استمر التنقيب في المنطقة الجنوبية للمدينة “القبطية”، حيث تم العثور على 10 كنائس تعود للقرن الخامس والسادس، وتعد من الاكتشافات الهامة في تاريخ العمارة المسيحية بالفيوم.

وفي عام 1995 و1999، تم اكتشاف معبد جديد يقع جهة الطرف الشرقي، بواسطة بعثة جامعة بيزا. وكان المعبد مكرسًا لعبادة الإله “سوبك”. وعاودت بعثة جامعة بيزا اكتشافاتها في عام 2007. حيث اكتشفت بقايا معسكر “نارموثيوس” الذي يعود لفترة حكم الإمبراطور دقلديانوس، بالإضافة لاكتشاف شبكة قديمة للري. لكن البعثة غطت بنايات المعسكر بالرمال من جديد بهدف حمايتها والحفاظ عليها. ومن المقرر أن يكون موقع الحفر القادم في المنطقة التي تقع شمال غرب الميدان الروماني، حيث لم تتم أعمال التنقيب هناك حتى الآن.

صالة هراقلدورس وترانيم “إيزيدوريس

في عهد بطليموس التاسع، بنى هراقلدورس بن سوستراتوس، وزوجته إيزيدورا، صالة كبيرة عند نهاية طريق الاحتفالات في مدينة “جيا” (التي أصبحت فيما بعد مدينة ماضي)، وكانت للواجهة تمثالان مميزان. كانت هذه الصالة مخصصة لعبادة الإلهة رننوتت (هيرموثيس) والإله سكنوبيس (سوبك – حابي).

في عام 1035، اكتشف أكيلي فوليانو أربع ترانيم مكتوبة باليونانية على جدران مدخل صالة هراقلدورس، وكان مؤلف هذه الترانيم هو إيزيدوريس، المصري الذي كان يتمتع بثقافة يونانية واسعة. وكان هذا الاكتشاف أهمية أثرية ودينية وثقافية، لأنه يظهر كيف أن المصريين تعلموا النصوص الثنائية في العصر البطلمي.

في ترانيمه، مدح إيزيدوريس الملك أمنمحات وقدراته الخارقة.  وذكر في إحداها كيف أن الملك كان قادرا على فهم لغة الطيور، ويرسل غرابا كساعي بريد، فيقول:

أجناس الطير أجمعها كانت له طائعة

فالذين قرءوا ما في الكتب المقدسة

يقررون أنه يومًا كان قد أرسل غرابًا

ويقولون أنه قد عاد برسالة في خطاب

فما كان رجلًا هالكا ولا ابن ملك هالك

بل كان سليل إله عظيم خالد سوخوس (سوبك) القدير

***

ويشير إيزيدوريس إلى معجزة للملك أمنمحات يرويها ويقول:

أنا بعدها علمت من الآخرين بمعجزة مذهلة

فقد كان يسبح على الجبل بالعجلات والشراع

ولعلمي علم اليقين من أناس في ذاك الشأن سألتهم

فقد قمت بكتابة كل هذا بنفسي وبذلك كان بمقدوري

بيان قدرة الملك الإلهية للإغريق

تلك القوة التي لم تكن يوما ما لأحد من الهالكين

ويوجد بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية جميع الأحجار المدون عليها تلك الكتابات. حيث نقلها فوليانو في عام 1936، بقصد حمايتها من التلف. وتم استبدال تلك الأحجار الأصلية بأخرى جديدة موجودة الآن في مدينة ماضي.

عربة تسير بقوة الرياح

في فناء المعبد الأول، اكتشف فوليانو بقايا عربة خشبية ذات عجلات صغيرة وسارية مركزية تشبه الشراع. ما يشير إلى أنها كانت تستخدم قوة الرياح للتحرك. وأُعتقد أن هذه العربة تتعلق بما ذكره إيزيدوريس في ترانيمه عن الملك أمنمحات.

حضانة التماسيح

في الجهة الشمالية من المعبد، يوجد مبنى صغير يعلوه قبو. المبنى في حالة جيدة، وله نافذة صغيرة في الواجهة. هو مقسم إلى قسمين عن طريق جدار فاصل من الحجارة مكسو بالملاط بارتفاع متر ونصف. كما يوجد حوض مربع عمقه 30سم، له درجتان منخفضتان، ومجرى تصريف يصب في حوض آخر من الحجر خلف الجدار.

على جدران بيت الضيافة بالمدينة، وفي أحد الصناديق الزجاجية، يوجد عدد من البيض. في عام 1999، تم العثور على حفرة عمقها 60 سم، كان بداخلها 30 بيضة من بيض التماسيح، مغطاة بطبقة من الرمال. المدهش أن كثيرا منها كان يحتوي على أجنة بعضها مكتمل النمو.

أدى اكتشاف بيض التماسيح إلى معرفة أن هذا المبني كان عبارة عن “حضانة للتماسيح المقدسة”، حيث كانت التماسيح الصغيرة التي خرجت من البيض تقضي بعض الوقت في ماء الحوض. كانت وظيفة الجدار الفاصل منع تلك التماسيح من الخروج من المكان المخصص لها. تشير أدلة كثيرة إلى أن المصريين القدماء كانوا يقومون بتحنيط التماسيح ويقدمونها كقربان لحجاج وأتباع المعبود سوبك، حيث كانت توضع في مقصورة التماسيح المقدسة.

الوضع الحالي للمدينة

تقف منازل ومعابد مدينة ماضي وحديقتها الأثرية المفتوحة شامخة، تتحدى الزمن لتخبرنا بأنها كانت مدينة عظيمة ذات شأن. وأنها لا تزال تخفي الكثير من الأسرار في انتظار من يكشف عنها.

يمكن للزوار الوصول إلى مدينة ماضي عبر طريق صعب يمتد من جهة الشرق عبر قرية أبو جندير. وهناك طريق آخر جهة الغرب يربط المدينة الأثرية بمحمية وادي الحيتان، وهو طريق بطول 28 كيلو مترا، ويرتفع 75 مترا فوق سطح بحيرتي وادي الريان.

وبالرغم من أهمية المدينة، وكونها المدينة الوحيدة الباقية بمنازلها ومعابدها بشكل كبير ومبهر، إلا أنها تعاني من الإهمال. ففي منازل المدينة وداخل المقصورات الخاصة بالمعابد، توجد القمامة والأوراق والحشائش.

اقرأ أيضا:

حمام كرانيس بالفيوم.. تاريخ يحتاج إنقاذ عاجل

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر