مدد| جلال الدين الكندي والوصايا العشر


“شيء لله يا سيدي جلال، مدد يا صاحب البلد”.. يرددها أهالي دشنا، صغارًا وكبار، مع تداول مرويات أجدادهم بأن الشيخ جلال أحد أبناء قبيلة كندة، التي شاركت في فتح مصر، وولد في دشنا وعاش بها ولذلك فهو يكني بالدشناوي، معتقدين أن الضريح المحتضن جسده أقدم أضرحة دشنا، وبحسب ما ذكر الأدفوي في كتابه الطالع السعيد، فقد كان الكندي إماما وفقيهًا وانتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي بقوص.
من هو الكندي؟
بحسب ترجمة الإمام الأدفوي (658-748 هجرية) في كتابه “الطالع السعيد في ذكر نجباء الصعيد”، هو أحمد بن عبدالرحمن بن محمد الكندي الدشناوي، ويكنى بـ”جلال الدين”، من مواليد دشنا عام 615 هجرية، وتعود أصوله إلى قبيلة كندة، وهي كبرى قبائل العرب العاربة باليمن.
في تعريفه أورد الأدفوي “كان إماما عالما، جمع بين العلم والعمل، والعقل الذي لا خبل فيه ولا خلل، مع نسك وزهادة، وورع وعبادة، حتى قيل إنه من الأبدال، لما اشتمل عليه من صالح الأعمال”.

جاءت وصايا الإمام جلال الدين الكندي لابنه “حرفيا” كما وردت في كتاب الطالع السعيد كالتالي:
“ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، يا بني أرشدك الله وأيّدك، أوصيك بوصايا إن أنتَ حفظتَها وحافظتَ عليها رجوتُ لك السعادة في دينك ومعاشك بفضل الله ورحمته؛ فأولها وأولاها: مراعاة تقوى الله العظيم بحفظ جوارحك كلها من معاصي الله عز وجل حياء من الله، والقيام بأوامر الله عبودية لله، وثانيها: ألاّ تستقر على جهل ما تحتاج إلى علمه، وثالثها: ألاّ تعاشرَ إلا من تحتاج إليه في مصلحة دينك، ورابعها: أن تنتصف من نفسك ولا تنتصف لها إلا لضرورة، وخامسها: ألاّ تعاديَ مسلما ولا ذميا، وسادسها: أن تقنع من الله بما رزقك من جاه ومال، وسابعها: أن تُحسِن التدبير فيما في يدك استغناء به عن الخلق، وثامنها: ألاّ تستهين بمِنَنِ الناس عليك، وتاسعها: أن تقمع نفسك عن الخوض في الفضول بترك استعلام ما لم تعلم، والإعراضِ عما قد علمتَ، وعاشرها: أن تلقى الناس مبتدئا بالسلام، محسنا في الكلام، منطلق الوجه، متواضعا باعتدال، مساعِدا بما تجد إليه السبيل، متحببا إلى أهل الخير، مداريا لأهل الشر، مبتغيا في ذلك السنّة، اللهم أهّلْه لامتثالها.

وحول الخلفية العلمية للكندي يشير الأدفوي، إلى أنه سمع الحديث من الشيخ العلامة بهاء الدين أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة والمكني بـ”ابن بنت الجميزي”، والذي انتهت إليه مشيخة العلم بالديار المصرية وتوفي في سنة 649 هجرية، ومن القشيري والمنذري، وقرأ عليه الشيخ العز بن عبدالسلام الفقه على المذهب الشافعي، ودرس الأصول على يد الشيخ الأصبهاني حين كان حاكما بقوص، وتعلم النحو على يد الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي.
وطبقا للأدفوي فقد زامل الكندي الفقيه الشهير ابن دقيق العيد في دراسة المذهب الشافعي، وأثنى عليهما الشيخ بن الطباخ حين قال للعز بن عبدالسلام “ما أظن في الصعيد مثل هذين الشابين”، وكان يعني جلال الدين الكندي وابن دقيق العيد، فرد عليه ابن عبدالسلام قائلا: “ولا في المدينتين”، ويروي الأدفوي أن الشيخ ابن عبدالسلام كان يميل أكثر إلى جلال الدين الكندي.
تراثه
يشير الأدفوي إلى أن الإمام جلال الدين صنف مقدمة لطيفة في النحو، وجمع موانع الصرف في بيت واحد، فقال: “يا صاح زن وصف عدل الجمع إن عرفا، وزد وأنث وركب هجمة وكفى، كما صنف شرحا في كتاب “التنبيه” للإمام الشيرازي، فوصل فيه إلى مناسك الصيام في مجلدين لطيفين، كما شرح مناسك الحج، وسمعت عليه بالقاهرة، فسن قاضي القضاة، الشيخ القماح سمعها عليه، فالكندي صنفًا مختصرا في أصول الفقه، انتهت إليه الرئاسة في الفتوى والتدريس بقوص.
تلاميذه
ويورد الأدفوي أن الإمام الكندي انتفع منه خلائق كثيرة، منهم ابنه الشيخ تاج الدين محمد الكندي، ومحيي الدين القوصي، وجمال الدين الأرمنتي، وزين الدين الشريشي والذي يعرف أيضا بالسويسي، وعلم الدين بن الشيخ تقي الدين القشيري، وشرف الدين محمد وأخوه علم الدين ابنا الشيخ أبي المنا القنائي.
أقاربه
وترجم الأدفوي لعدد من النجباء حملوا نفس كنية الكندي، منهم  أخوه عبد المحسن بن عبد الرحمن الكندي، الذي سمع الحديث من ابن بنت الجميزي والشيخ بهاء الدين وتوفي في سنة 645 هجرية.
وابن عم الشيخ جلال عبدالرحمن بن موسى بن عبدالرحمن بن محمد الكندي الدشناوي، وينعت بـ”الأمين”، تفقه على مذهب الإمام الشافعي، ودرس في المدرسة النجمية بقوص، وناب في الحكم عن قاضي عيذاب، وأم بجامع قوص، وصحب الشيخ مسلما، وكان تقيا ومتدينا، توفي في 718 هجرية.
وأفرد الأدفوى ترجمة وافية لابن الشيخ جلال الدين، الشيخ تاج الدين محمد الكندي، وتعرض إلى الوصية ذات العشر بنود التي تركها الكندي لابنه قبل وفاته.
الكندي الشاعر
يلمح الأدفوي إلى أن الإمام كان له شعر متوسط على طريقة الفقهاء الصالحين، وقال قرأت بخط يد ابنه تاج الدين هذه الأبيات:
يا لائمي كف عن ملامي  عن انعزالي عن الأنامِ
إن نذيري الذي نهاني   يخبر حالي على التمامِ
رأى مشيبي ووهن عظمي  قد أدنياني من الحِمامِ
وما تزودت لارتحال  ولا لدار بها مقامي
وفاته
يقول الإمام الأدفوي إن الكندي سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فمرض شيخه القشيري، فذهب الشيخ تاج الدين لزيارته فقال له القشيري: يا تاج الدين أخبر أباك إذا أتى من حجة مع جملة العباد والزهاد أهلا وسهلا بالذين أحبهم.. وهم من الدارين جل مرادي، ثم لم يلبث القشيري ومات ودفن خارج المقابر بقوص.
كانت تلك إشارة من شيخه أن يدفن بجواره في قوص، وبعد عودته من الحج حزن الكندي لوفاة شيخه وقال: لو علمت أن الشيخ سيموت ما سافرت هذا العام، ولم يمر عام إلا وتوفي الكندي في سنة 677 هجرية والذي وافق يوم الاثنين في غرة شهر رمضان، بعد أذان الفجر، ودفن خارج المقابر بجوار شيخه أبي الحسن القشيري بقوص.
الوصايا العشر
يوثق الأدفوي نقلا عن الشيخ تاج الدين، وصية ذات عشر بنود تركها الإمام الكندي لابنه، تشتمل على نصائح دنيوية وأخروية ، ويقول في ديباجتها: “أوصيك بوصايا إن أنت حافظت عليها وحفظتها، رجوت لك السعادة في دينك ومعاشك”.
ويتابع: فيوصي ابنه بتقوى الله بحفظ جوارحه والذي يورث الحياء من الله، ثم حثه على طلب العلم، ومعاشرة الصالحين، ومحاسبة النفس قبل محاسبة الناس، وفي الوصية الخامسة يوصيه بالذميين، فيقول: “ولا تعادي مسلما ولا ذميا”، ثم يوصيه بالقناعة في طلب المال والجاه، وألا يستحقر ما أسداه إليه الناس من معروف، وتاسع وصية ينهاه فيها عن الخوض في فضول الكلام، وأخيرا يوصيه بأن يلقى كل الناس بشوشا بادئا بالسلام ومحسنا في الكلام ومتواضعا ومعينا على الخير ودارئا للشر.
اقرأ المزيد
https://bit.ly/2HuMKxS
أين دفن الكندي؟
طبقا لما أورده الأدفوي دفن الكندي خارج المقابر بقوص بجوار شيخه مجد الدين القشيري، ومع ذلك يعتقد الأهالي بدشنا، أن الكندي مدفون بجوار الشق الفوقاني، بالجبانة القديمة بدشنا والتي كانت تمتد من جنوب مسجد التحرير حتى شمال المعادي.
بحسب زغلول عبدالدايم، خادم ضريح الشيخ جلال، من مواليد 1945، فقد كان الضريح عبارة عن قبة من الطين اللبن، يتوسطها نعش خشبي، مدفون تحته الإمام، ملمحًا إلى أن الاعتقاد السائد أن الشيخ جلال الدين كان يعقد مجلس علم في نفس المكان الذي دفن فيه، ويعتقد البعض وجود رفات سبع فتيات كن من تلاميذه بجوار مدفنه.
ويوضح عبدالدايم أنه لم يتبق من آثار الجبانة القديمة سوى أضرحة الأولياء وهم الكندي والجنيدي والشيخ عامر النجار، والشيخ عطي والشيخ عيسى والشيخ حجي، لافتا إلى أن الجبانة القديمة هجرت قبل حلول القرن التاسع عشر واستبدلت بالجبانة القبلية، فلا يمكن الجزم حقيقة أن المدفون تحت الضريح هو جلال الكندي أم أن الضريح هو ضريح رؤيا؟، كما أن القول بإن المدفون هنا هو ابنه مردود عليه بشهادة الأدفوي، الذي أشار في كتابه إلى أن تاج الدين مدفون في قوص، وربما كان المدفون هنا هو أخوه عبدالمحسن أو ابن عمه موسى الكندي، حيث لم يشر الأدفوي صراحة في ترجمته لهما إلى مكان دفنهما.
الساحة والمولد
ويتابع عبدالدايم: أنه في مطلع الثمانينات، تشارك الأهالي بتجديد وإحلال ضريح الشيخ، كما ألحق بالضريح  قطعة أرض أقيم عليها ساحة للشيخ، وتم عمل برزخ للقبر، لافتا إلى أنه حتى خمسينيات القرن الماضي كان مولد الشيخ جلال هو المولد الوحيد بدشنا، والذي كان يشهد توافد جميع أبناء قرى دشنا، وكانت فعالياته متنوعة من مزمار وتحطيب وخيول وليالي إنشاد وفرق استعراضية وولائم وحلوى، مشيرا إلى أن أولى احتفالات المولد النبوي تنطلق سنويا من دشنا؛ إذ اعتاد الأهالي أن يبدأوا احتفالاتهم بمولد الكندي في غرة شهر ربيع وتختتم في يوم 12 ربيع وهي ذكرى المولد النبوي، بخروج ثوب الشيخ جلال يجوب إرجاء البلدة مبشرا بمولد النبي، وكأن الشيخ جلال الدين يستفتح الاحتفالات من ساحته حتى تتوالى فيما بعد وتنتقل من أضرحة الصالحين تباعا في جميع أنحاء الجمهورية.
ويتابع عبدالدايم: أن الأهالي بالرغم من ضعف الإقبال على المولد مازالوا يحافظون على عادة إقامة 12 ليلة لإحياء المولد النبوي ومولد الشيخ جلال معا، تتوسطهم الليلة الكبيرة في 6 ربيع من كل عام، والتي يحييها المنشد العالمي وعميد الإنشاد الديني ياسين التهامي.
لقراءة المزيد https://bit.ly/2HtkZG8
صاحب البلد
يلمح عبدالرحيم الغول، خليفة خلفاء رفاعي، 50 سنة، إلى أن أحد الألقاب المقرونة باسم الشيخ هو “صاحب البلد”، لاعتقاد الأعالي أنه القطب الموكل بشؤون دشنا، وبعضهم يعتقد أنه حاز الغوثية، ويروي الغول بعض كرامات الكندي ومنها أنه عندما سرق بعض الأشقياء صندوق النذور الخاص بالشيخ، لم تمض أيام وشوهدوا وهم يقتتلون فيما بينهم حتى افتضح أمرهم وبعدها لوحظ عليهم أنهم أصيبوا بالجنون عقابا لاعتدائهم على مخصصات الشيخ.
ويتابع الغول: ومن كراماته أنه إذا حضر من يسئ الأدب داخل ساحته أو بجوارها، لا تمض فترة كبيرة حتى يتوقف عن الحضور، ملفتا إلى أن أهم كرامات الشيخ جلال أن مجالس الذكر والعلم لا تنقطع بساحته حتى في غير أيام المولد، إذ يحرص المتصوفة بشكل عام وأبناء الطريقة الرفاعية بشكل خاص على عقد رواتب أسبوعية، يتخللها النصائح الدينية والصلوات والأحزاب الصوفية والمدائح النبوية.
لقراءة المزيد https://bit.ly/2HrvrC1
هوامش
– الطالع السعيد في ذكر نجباء الصعيد – “بي دي أف” – للإمام الأدفوي – من ص 81 إلى ص 85.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر