محو القاهرة.. تدمير ذكريات المدينة
أزمة التطوير الجاري لأجزاء واسعة من القاهرة أنه لم يحترم خصوصية المدينة ولم يفهم جوانب تفردها
تمر القاهرة بلحظة تحول مع سياسات “التطوير” التي تتبناها الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة، وتشمل معظم المناطق الأثرية والتراثية. وهي لحظة غير مسبوقة في تاريخ القاهرة التراثية التي لم تشهد مثل ثقل التدخل الحكومي الحاصل الآن، الذي يشبه مبضع جراح قرر أن يجري عمليات جراحية عدة في جسد المريض دفعة واحدة! المدهش هنا أن المدينة التي عرفناها وعشنا فيها تبدو أقرب للزوال، فالصور التي تراكمت في ذاكرة القاهريين المهتمين تبدو قريبة من المحو، فقاهرتنا التي كنا نعرفها ونشعر بالألفة معها تبدو غائبة لصالح مدينة أخرى تحل محلها جديدة وبلا روح.
كما أي تطوير أو تحديث فالأمر ينقسم بين مؤيد ومعارض. وإن كان فريق المعارضة لما يجري هو الأكثر علمية في نقده. لكن هنا سننظر إلى الأمر من منظور مختلف. منظور الذاكرة التي كونتها أجيال من القاهريين الذين ارتبطوا بعلامات بعينها في المدينة. وعندما فقدوها فقدوا معها تعريفهم للمدينة، وبديلا عن الشعور بالألفة باتوا يشعرون بالغربة. فالأماكن علامات تم محوها أمام عجلة التطوير التي تمتلك فلسفة قائمة على عدم احترام تراث المدينة. والحفاظ عليه بقدر الرغبة في تسييله وتحويله إلى سلعة استهلاكية تجلب دخلا. حتى ولو أدى ذلك إلى محو بعض معالم المدينة واستبدالها بأشكال ومبان مبتذلة المعمار.
هناك عدم فهم لتراث القاهرة، بعض القائمين على التطوير لا يتقبل فكرة القدم والعراقة والأصالة. كل ما هو قديم مهان عنده، يريد للمباني أن تكون نظيفة حديثة (كما لو أننا نقرأ شعارا بلا معنى على سور إحدى المدارس). أمر يتحقق لكن بأي كلفة؟ تدمر مناطق تراثية كان يمكن تطويرها والحفاظ على طابعها التاريخي. مثل عرب آل يسار لإنشاء مجموعة من المباني الممسوخة بلا أي روح ولا جودة في اختيار المواد المستخدمة. لتكون النتيجة بنايات جديدة نظيفة. لكنها بلاستيكية بلا روح ولا هوية ولا جودة، يخلق هذا صورا جديدة للمدينة لا تعكس روحها ولا عمق تاريخها، تفصل بين محبيها وعشاقها وتراثها.
***
طمس العلامات هو الحدث الجاري في القاهرة الآن، فعند قيامك بجولة في جبانات القاهرة سترى هذا الأمر عيانا، مقابر تزال وطرق تمد. والنتيجة أننا نفقد الدروب والطرق والعلامات التي كنا نُعرّف المكان بها، سيحل شعور الغربة ويجثم على المنطقة. كل المقابر المهمة والتي تشكل مداخل ربط الجبانات بتراثها الموجود في الكتب ستزول. سيتحول زوار الجبانات من المهتمين إلى مجموعة من العميان الذين يتحسسون الطريق الذي كان واضحا في يوم قريب!
الأمر يتكرر هذه المرة في مشاهد آل البيت، والتي افتتح منها مشهد السيدة نفيسة وسيدنا الحسين والسيدة زينب، بعد مشروع “التطوير”، فقد الثلاثة معالم الألفة مع المترددين. بات البريق الزائف هو السائد، أشكال بلاستيكية بلا روح تسيطر على شكل المشاهد التي باتت تشبه بعضها البعض. كأنها مستنسخات مقلدة باتت تغزو القاهرة كسرطان ينشر خلاياه في جنبات المدينة. بلا أي تعمق أو فهم حقيقي لخصوصية المدينة وتراثها الذي يمكن الاستثمار فيه وتنميته بديلا عن حذفه والبحث عن نماذج جاهزة تفتقد للذوق والجمال والتناسق مع روح المدينة.
من لم يشاهد القاهرة ولم يستوعب تراثها ستعجبه أشكال “التطوير” الجارية. فهو تربية منظومة علمته احتقار ذاته والظن أن كل قديم؛ فقير حقير يجب التخلص منه. لكن الأمر ليس كذلك ولا هكذا تدار المدن التاريخية، فمدينة بعراقة القاهرة تستحق أن نبذل الجهد في تفهمها وتفهم أزماتها فلا ينكر عاقل أن المدينة غارقة في المشاكل منذ قرون. وأنها تحتاج إلى تطوير، لكن أي تطوير؟ لذا يبدو موقف المهتمين بتاريخ المدينة وتراثها مفهوما فهم في حالة رثاء للقاهرة التي عرفوها وخبروها على مدار سنوات. والتي تبدو الآن إلى زوال، لترحل معها ذكرياتهم وعلاماتهم الاسترشادية في دروب المدينة.
***
إن أزمة التطوير الجاري لأجزاء واسعة من القاهرة أنه لم يحترم خصوصية المدينة ولم يفهم جوانب تفردها. فضلا عن عدم احترام ذكريات القاهريين مع المدينة، خصوصا أن التطوير يستخدم معايير متدنية ما أنتج تصورات بلاستيكية ومعمار فقير. لا يعكس التنوع الهائل لتجربة القاهرة المعمارية الممتدة على مدار أربعة عشر قرنا.
هذا أضر بذاكرة العديد من أبناء القاهرة الذين يشتكون من غربة ما عندما يتجولون في شوارع المدينة بفعل الكباري والطرق الجديدة غالبا. لكن هذه الأزمة الشعورية تتعاظم عند محبي المدينة من العارفين بأسرارها. هنا يشعرون بلحظة غربة مكانية مكثفة، يشعرون بأن مدينتهم تبدلت، تم اختطافها واستبدالها بمدينة أكثر استهلاكية وأقل أصالة.
تتبدل معالم القاهرة سريعا ومعها تنهار ذاكرتنا الجماعية عن المدينة؛ على مستوى المهتمين على الأقل؛ وعندها ستكون المدينة في أضعف حالاتها. إذ يمكن للحكومة وقتها أن تبدل ما تشاء في معالم المدينة، أن تتعامل معها بلا روح ولا أفق يتفهم تراثها. وقتها سنكون خسرنا معركة الذاكرة والحفاظ على تراث القاهرة، لذا لا بد أن تتعالى الأصوات الرافضة للاستهانة الحكومية بالمدينة وتراثها. وأن نسعى لشرحه لغير المتخصصين والعمل على توعية غير المهتمين لتوسيع مدى ذاكرة المدينة وخلق رأي عام رافض بناء على وعي. هنا فقط يمكن أن تكون بداية وقف المحاولات الجارية لمحو القاهرة.
اقرأ أيضا:
من جديد.. معاول الهدم تستأنف إزالة الجبانات التاريخية بعد وقف الدفن بها