محمد حسنين هيكل مؤرخا.. إرث محل جدال
عاصر محمد حسنين هيكل (1923-2016)، عوالم تاريخية مدهشة، وتحولات عالمية فاصلة. تفتحت عيناه على عالم الدول الاستعمارية المهيمنة وهو في أيامه الأخيرة. ثم عاش حدث بحجم الحرب العالمية الثانية التي غيرت المشهد الدولي وقلبته رأسا على عقب. فبدأ عالم سياسي جديد وحركة سيولة مع صعود الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي إلى قمة النفوذ الدولي، وميلاد نظام عالمي جديد ثنائي القطب، في افتتاحية زمن الحرب الباردة التي شهدت عصر السلاح النووي، وموجات الاستقلال الوطني التي وصلت إلى شواطئ العرب، بالتوازي مع ميلاد الكيان الإسرائيلي.
كل هذه الأحداث عاصرها هيكل في الشطر الأول من حياته الصحافية، وفهم سريعا أن لها جذرها التاريخي. لذا كان طبيعيًا -وهو الذكي حد العبقرية- أن يُيمم وجهه شطر التاريخ ينهل منه ويجلس في مقاعد درسه. يقرأ التاريخ بنهم لا يحد، يعرف أن الأخير مهم في خلفية العمل الصحافي وفهم ملابسات ما يحدث على الساحتين الدولية والإقليمية. لكن هيكل الصحافي مع انغماسه في الأحداث واقترابه من الزعيم جمال عبدالناصر، لم يعد شاهدا على تاريخ البشرية في لحظة تحول عالمية فقط. بل أصبح مشاركا في صناعة التاريخ، ومن هنا اكتسب ما يكتب أهمية خاصة.
***
كتب هيكل الكثير من الكتب ذات الطابع التاريخي، كتبها بمزاج شاهد العيان، ما يجعله مؤرخا أصليا. إذ أن المؤرخ من شاهد الحدث التاريخي وسجله، بغض النظر عن جودة عملية التسجيل من عدمها، يختلف عن باحث التاريخ الذي عادة ما يدرس الأحداث التاريخية التي عاصرها أو لم يعاصرها بأدوات منهجية. يبدو هذا التعريف كلاسيكيا في التفريق بين المؤرخ والباحث التاريخي. استخدمه هنا وإن كان بتحفظ، لأن المرء بات على اقتناع أكبر بالتداخل بين التعريفين. فالباحث التاريخي عندما يتناول الأحداث التي لم يعاصرها يلقي عليها أسئلة عصره وزمنه، ويعيد تأويلها بما يتناسب مع أزمات عصره. في المحصلة النهائية تظل جودة العمل النهائي حاكمة، وإدعاء الحياد والموضوعية الكلية محض سراب.
على كل حال، تحول هيكل إلى مؤرخ سواء أراد ذلك أم لم يرد، عندما قرر أن يكتب الكثير من الكتب التاريخية عن عصره. قدم نفسه فيها باعتباره شاهد الأحداث، لكن الواقع أننا أصبحنا أمام التاريخ كما أراده هيكل. أو بشكل أكثر دقة الأحداث التاريخية كما رأها هيكل وانغمس فيها. استند في دعم روايته للأحداث بوثائق أصبحت شبه سرية، بسبب عدم رغبة السلطات المصرية في الإفراج عن وثائق الأحداث التاريخية الفاصلة في تاريخ مصر. كما ضمن هيكل كتبه حوارات مهمة مع شخصيات تاريخية وفي مقدمتها جمال عبدالناصر نفسه.
***
كتب هيكل أول كتبه التاريخية في العام 1951، بعنوان (إيران فوق البركان)، كان شاهدا على الأحداث في ذلك البلد المهم في لحظة فارقة في تاريخ الشرق الأوسط كله. ومنذ هذه اللحظة توالت كتبه، فقد اتضح أن مصر هي الأخرى كانت فوق البركان كذلك، والذي سرعان ما انفجر فاستولى الضباط الأحرار على السلطة. واقترب هيكل سريعا من عبد الناصر. وبدأت كتبه تتوالى، لكن أهمها تلك التي بدأها بعد الخروج من السلطة عقب خلافه الشهير مع السادات في منتصف السبعينيات. ليقدم لنا هيكل أكبر مجهود للتأريخ لمصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا، وهو مجهود فرض نفسه على أي باحث تاريخي يريد دراسة هذه الفترة، وأي مهتم أو مشتبك مع قضايا العالم العربي.
ترك هيكل تراثا تاريخيا ضخما، يحتاج إلى التعامل معه بحذر وحرص، فالرجل مشتبك في الأحداث وهو أحد صناعها. كما أنه مر برحلة تطور في الكتابة يجب أن تؤخذ في الحسبان. إذ بدأ صحافيا يكتب المشاهدات والانطباعات على الأحداث كما في (إيران فوق البركان)، و(العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط)، و(ماذا يجري في سوريا؟). ثم وصل إلى مرحلة النضج الفكري بأعمال أكثر تركيبية وتاريخية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. والتحولات الإقليمية والدولية في فترة الثمانينيات والتسعينيات. وفي مقدمتها مجموعته عن حرب الثلاثين عاما التي تضم أربعة كتب تؤرخ للصراع المصري الإسرائيلي، وهي أهم مجموعة كتب تؤرخ لهذه الفترة باللغة العربية.
***
لا يعني كل هذا التسليم لهيكل في كل ما يقول، فهو مثله كغيره من المؤرخين وشهود العيان على الأحداث التاريخية والذين كتبوا شهاداتهم وتركوها في ذمة التاريخ. فالتعامل مع هيكل يكون أساسا بالتدقيق في كل حرف كتبه، ومعرفة خلفية ما كتب، وأين كان موقف هيكل لحظة كتابة ما كتب. إن تفكيك ما يكتبه هيكل من الأمور الضرورية جدا، لأن ما كتبه أخطر من أن يسلم له في المطلق. بل أن التدقيق يجب أن يكون هو الشعار في كل تناول لكتب الأستاذ المؤرخ، ولكن هذا يعود بنا إلى أن من يقوم بهذه المهمة يجب أن يتحلى بالمنهجية العلمية من ناحية. وأن يبتعد عن محاولة تصفية الحساب الأيديولوجي مع هيكل من ناحية أخرى.
تعود أحد أهم الأحكام على منتج هيكل التاريخي، إلى الدكتور رؤوف عباس حامد، أحد أهم المؤرخين الأكاديميين في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين. إذ كتب عن منتج هيكل التاريخي: “ورغم أهمية ما كتبه هيكل إلا أن الباحثين في التاريخ يتعاملون معه بحذر. فالكاتب كان طرفًا في الأحداث التي كتب عنها، وكانت له علاقات متفاوتة في درجة القوة مع صناع تلك الأحداث. ومن ثم انعكست هذه العلاقات على رؤيته للأحداث وعلى تحليله لها، يلقي أضواء باهرة على بعضها، ويترك البعض الآخر محاطًا بالظلال. ولا بأس في ذلك على أي حال، فالرجل لم يدع يومًا الاشتغال بالتاريخ. ويؤكد دائمًا أنه يقدم شهادته عن الأحداث التي شارك في بعضها، واقترب من بعضها الآخر”.
***
نتفق مع هذا الحكم في خطوطه العريضة، فهيكل مؤرخ لا شك في ذلك، لكنه لم يكن باحثا تاريخيا. أي أنه كمشاهد ومشارك في الأحداث ترك شهادة تاريخية، وأرخ للكثير من الوقائع المحلية والإقليمية والدولية. لكن مسألة البحث التاريخي ليست فقط في عملية الرصد والتسجيل ومحاولة التحليل وإصدار الأحكام. بل محاولة تفهم ما جرى وكيف جرى ولماذا جرى، ودوافع اللاعبين السياسيين على الساحة. من المنطلق الأخير سيتحول هيكل -باعتباره أحد اللاعبين الكبار- وما يكتبه إلى مادة دراسية ضخمة جدا للباحثين التاريخيين في المستقبل. عندما يتم فتح ملفات هذه المنطقة بعقلانية وبلا أي صبيانية أو مناكفات أبناء التيارات السياسية المختلفة.
سيظل الجانب التاريخي لهيكل الجورنالجي، الجانب الأكثر بقاء وإثارة للجدل في مسيرة الرجل الذي شغل الناس لعقود. ورغم تأثيره الطاغي في عالم الصحافة والفكر. فإن الصفة التي سيعرف بها مستقبلا وستثير دائما الجدل ومحاولات الاشتباك والدراسة هي صفة المؤرخ.
اقرأ أيضا:
ملف| محمد حسنين هيكل: الروائي الكامن.. والشاعر المقموع
غرفة هيكل: تاريخ العرب الحديث بين أربعة جدران
«سنلتقي من جديد».. قصة أول مقال لـ«هيكل» في آخر ساعة
«الناصرية» بين يوسف حلمي ومحمد حسنين هيكل