محمد حسنين هيكل في زيارة إلى العميد: صومعة عقل
أمضيت ساعة ممتعة مع الدكتور طه حسين قبل أن يسافر إلى أوروبا. إن الجو في مكتبة الدكتور طه حسين غريب مثير.. إن المكتبة أشبه ما تكون بصومعة.. صومعة عقل!
غرفة لا تبين جدرانها لأن رفوف الكتب ارتفعت إلى السقف، غرفة فيها آثار أشبه ما تكون باللمسات السحرية. تمثال هنا للدكتور طه حسين.. وتمثال على الناحية الأخرى لملاك نشر أجنحته ولكنه بلا رأس.. رأسه مكسور! صورة لقرينة الدكتور طه حسين عندما التقى بها أيام الشباب في فرنسا، قطعة من قماش أثري ذات لون أحمر تتدلى على قطعة من الجدار لا تزدحم عليها الكتب. مصباح يشع نورا أحمر خافتا.
وفي وسط هذا كله.. على مقعد كبير.. الرجل الذي مزق حجب الظلام الكثيفة المحيطة به لكي يستقبل النور الخالد.. ويعكسه إلى الملايين بعد أن يضفي عليه شيئا آخر.. شيئا من ذات نفسه! وكان في المكتبة مع طه حسين ضيفان اثنان من الآباء الدومنيكان.. بملابس الرهبان السائحين في الأرض ويبحثان عن المعرفة حيثما يمكن أن يكون التاريخ قد نسيها في طوافه حول الأرض!
- وقال لي طه حسين: هل تحب أن تسمع شيئا ليس فيه أخبار.. وليست فيه سياسة!
- قلت بحماس: جدا!
- قال: إذن فأجلس وشاركنا في الحديث، وجلست ولكني لم أشارك في الحديث لقد اكتفيت بالسماع!
كان موضوع المناقشة هو الحب في الدين الإسلامي والحب في الدين المسيحي. وكانت المناقشة بمزيج عجيب من الفرنسية الفصحى والعربية الفصحى، فقد كان الأبوان الدومينيكيان.. من المستشرقين أيضا! واستمعت في شغف إلى طه حسين وهو يدلل كيف أن الإسلام اهتم بالقلب قدر اهتمامه بالعقل!
**
وثم سمعته يقول إنه لا فرق بين الإسلام والمسيحية تجاه الحب. ثم يخرج من هذا إلى أن القرآن والإنجيل تعبير عن إشعاع واحد مقدس.. ثم يستشهد بالآية الكريمة: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
ويقول بعدها: اختلاف العقائد إلى درجة التعصب في رأيي اختراع من صنع رجال الدين.. في كل دين.. له هدف واحد.. أن يكون وسيلة رزق لهم! وانتقل الحديث بعدها إلى الشيخ بخيت.. وقال الدكتور طه ضاحكا: ربما كان شيخ الأزهر يريد أن يجعل من الشيخ بخيت وزيرا! ثم روى لنا كيف أن الأزهر ثار مرة على الأستاذ أمين الخولي، كمثل ثورته اليوم على الشيخ بخيت.. وكان هناك اتجاه إلى محاكمته.
وقال طه حسين: إن المرحوم أنطون الجميل لقيه ذات يوم وقال له: من رأيي أن تقابل إبراهيم عبدالهادي (كان يومها رئيسا للديوان الملكي) وتقول له: في عهد الملك فؤاد حوكم الشيخ على عبدالرازق بسبب بحثه عن الإسلام وأصول الحكم.. والشيخ على عبدالرازق اليوم وزير في الوزارة. فهل تريدون بمحاكمة الشيخ أمين الخولي.. أن تجعلوا منه وزيرا.
**
وضحك الدكتور طه حسين وقال: قابلت إبراهيم عبدالهادي وقتها وشرحت له رأي أنطون الجميل.. ويظهر أنه عز عليهم أن يجعلوا أمين الخولي وزيرا.. فإنه لم يقدم إلى المحاكمة بعدها! واستأذن الأبوان الدومينيكيان في الانصراف. وكان على أحدهم أن يلحق طائر مسافرة إلى أفغانستان.
لقد سمع أن في كابول مخطوطا عربيا أثريا وهو يريد أن يراجع بعض ما فيه.. هل سمع شيخ الأزهر وعلماؤه.. الجالسون هنا في صحن الأزهر يحاكمون الآراء ويعتقلونها.. ويلفون حبل المشنقة حول رقبتها؟ ليتهم يسمعون.. وليتهم يعون الدرس.. ولو حتى من الآباء الدومنينيكان!
11 يوليو 1955- أخبار اليوم
اقرأ أيضا:
ملف| طه حسين عميد الأدب العربي.. البصير الذي جاء ليقود خطانا إلى النور
«من رسائل العميد» إلى توفيق الحكيم: من أين يستمد الأدب المصري الحياة؟