متحف القاهرة.. حلم يكشف غياب الرؤية
القاهرة مدينة عريقة مسكونة بالتراث، نافذة عريضة على تاريخ المصريين في ألف عام، وجودها القاهر سيطر على إيقاع حياة أبنائها لعشرة قرون ولا يزال، مدينة عريقة تحتوي طبقات تاريخية مدهشة، منسوجة بمداد البشر ومرسومة على حجارة من مختلف الأزمان، متحف مفتوح لعمارة المصريين في عهود مختلفة تصنع لوحة يقف أمامها أعتى المستشرقين منبهرا. مدينة الحكايات صنعت المجد فوق المجد فصارت عنوانا له. مر عليها الخلفاء والسلاطين والأمراء والباشوات والحرافيش والفتوات فاستهلكتهم في طريق عظمتها، أدباء وساسة وعوالم من البشر لا تنتهي. ورغم كل هذا لا نجد متحفا يحمل اسم القاهرة، فأي إهانة هذه؟
***
حتى يوم الناس هذا لا نجد نية لإنشاء متحف يحمل اسم مدينة القاهرة. أمر لا يطرح للنقاش العام، فالعاصمة المصرية والمدينة التي لا يحتاج اسمها لتعريف. لا تزال بلا متحف يعبر عن الزخم الذي صنعته على مدار ألف عام. فالمدينة تضم تراثا طولونيا وإخشيديا وفاطميا وأيوبيا ومملوكيا وعثمانيا وأوروبيا في رحلة تعكس التنوع الهائل الذي عرفه عمران القاهرة. خصوصا إذا أضفنا لها تراث العواصم السابقة واللاحقة عليها والتي ابتلعتها في ما بعد؛ مثل: الفسطاط والقطائع وقلعة الجبل.
الغريب أن لدينا الكثير من المتاحف باسم المدن والمحافظات في مصر، إلا مدينة القاهرة الأكثر عراقة ومراكمة للتاريخ. فهل هذا مقصود؟ هل يعقل أن مدينة مثل نيويورك لها متحفها والقاهرة المعزية لا متحف لها؟ ألا نشعر بالغيرة من مدينة مثل إدنبرة لديها متحفها الخاص الذي يعرض أصولها وأساطيرها المؤسسة؟ القاهرة تستحق متحفها الخاص والغياب هنا له ما يبرره إذ يبدو أن هناك رغبة في طمس القاهرة وتراثها العريق لصالح مدينة زجاجية بلاستيكية الروح.
***
إرادة تغييب القاهرة كواقع يتجلى في تفتق ذهن القائمين على إدارة المتاحف، عن فكرة لمتحف عواصم مصر، المقام بمدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة. الرؤية القاصرة نجدها في التعريف الرسمي على موقع وزارة السياحة والآثار الإلكتروني. إذ يقول إن المتحف يعرض “قصة العواصم المصرية وتطورها عبر تاريخ مصر، من أقدم مدينة عاصمتها ممفيس إلى أحدث عاصمة. يعد المتحف فريدا من نوعه في مصر. حيث يركز بشكل أساسي على العواصم المصرية”. هكذا على ما في العبارة من ركاكة إذ كان الأفضل أن يكتب “من أقدم عواصمها ممفيس إلى أحدث عاصمة”.
ويتابع التعريف: “تم اختيار ست عواصم رئيسية لتكون أبرز ما في المعرض: ممفيس، طيبة، تل العمارنة، الإسكندرية، القاهرة الإسلامية، والقاهرة الخديوية. حيث لعبت هذه العواصم دورا مهما في التاريخ المصري. يحتوي المتحف على قاعتين رئيسيتين؛ أحدهما مخصصة للعواصم المصرية. والأخرى توضح المعتقدات المصرية القديمة والحياة الأخرى”. أي أن نصيب القاهرة هو الخُمسين تقريبا من نصف مساحة المتحف الصغير. وهي مساحة أقل ما يقال عنها إنها لا يمكن أن تعبر عن القاهرة وتنوع طبقاتها التاريخية.
***
تغييب متحف القاهرة مقصود منذ زمن طويل. فلا يوجد مسؤول يريد أن يتعهد بحماية تراث هذه المدينة متعدد الجوانب. لأن فكرة متحف القاهرة تعني تمثيل المدينة وسكانها والحفاظ على تراثها وحمايته من العبث الحكومي عبر تسجيل كل ما يتعلق به. ووضع خطط واضحة وتعريفات محددة لتراث هذه المدينة والتعريف به بصورة مستمرة. واحتواء وتمثيل كل أوجه التراث المادي واللا مادي المتعلق تاريخ المدينة والسعي للحفاظ عليه. وحض المواطنين على التبرع بمقتنيات شخصية قيمة يمكن ضمها للمتحف. باعتبارها تشكل بعض هوية المدينة وتاريخها من زوايا مختلفة.
***
ولما كانت الحكومات المصرية المتعاقبة تتعامل بازدراء كامل مع تراث القاهرة وتنظر له نظرة تجارية رخيصة. لم يكن لوجود هيئة تمثل جهة دفاع عن تراث المدينة مبررًا بل أن تغييب مثل هذه المؤسسات هو شاغل السلطة على الدوام. إذ يعكس ذلك تغييب صوت المواطن في مختلف نواحي الحياة الأخرى.
لذا تظل المطالبة بمتحف القاهرة واحدة من المعارك التي يجب أن يخوضها كل معني بتراث هذه المدينة. فلا يوجد أفضل من متحف متخصص ليضم تراث المدينة الذي يباع على الأرصفة. ويحمي ما يتم هدمه بفعل حكومة عابثة، ويجمع القصص الشعبية والتراث الحي عن المدينة من أفواه أهلها. فوجود المتحف سيخلق فضاء يجمع كل المهتمين بالقاهرة وتاريخها وعمرانها. فبجانب دوره الترفيهي سيلعب دوره الأساسي للتعليم والتثقيف وتحفيز الشباب على الاهتمام بتراث مدينتهم والتفاعل معه. عبر التواصل مع مختلف طبقات تاريخ المدينة وطبيعة تفاصيلها المعقدة والمركبة والتي تصنع حالتها الخاصة.
***
ولكي لا يكون الكلام في الفراغ. نقترح تخصيص مبنى قراقول الجمالية المعروف حديثا بقسم شرطة الجمالية والواقع في بيت القاضي، والذي أخلته وزارة الداخلية وسلمته لوزارة الآثار منذ العام 2016. وأهمية هذا المبنى المهمل حتى يومنا هذا بلا أي اهتمام من وزارة السياحة والآثار،.تكمن في أنه يحكي الكثير من تاريخ القاهرة وأسرارها. فالمبنى الذي يعود إلى عصر الخديو إسماعيل، استخدمت في بنائه -بحسب ما ذكر علي مبارك- حجارة استخرجت من بقايا قصر الزمرد الذي يعد جزءا من قصر الخلافة الفاطمي. أي أن هذا المبنى الواقف أمام أعيننا في حي الجمالية يحكي قصة القاهرة كما يجب أن يكون. فبعض أحجاره تحمل لنا رسالة ذكرى من لحظة تأسيس المدينة قبل أكثر من ألف عام. فهل يوجد مكان أفضل من ذلك ليكون مقرا لمتحف مدينة القاهرة المعزية؟
ولا حجة هنا لمن يتذرع بوجود خلاف قانوني بخصوص جزء من الأرض المقام عليه مبنى القسم والذي يعود لورثة الأمير ذو الفقار كتخدا. فمن المفترض أن تتحمل الدولة ممثلة في المجلس الأعلى للآثار، تكلفة التعويض وفقا لما توصلت إليه فتوى مجلس الدولة في 2021. مع عدم جواز هدم المبنى المسجل أثرا منذ 2009. وهناك الكثير من المواقع المتوفرة بعد انتقال الحكومة إلى العاصمة الإدارية وتركها العديد من المقار خلفها بلا استخدام في قلب القاهرة. وبعضها يصلح بلا شك لاستضافة متحف مدينة القاهرة.
لكن المهم النية، وأظن أن لا نية للحكومة الحالية في الاضطلاع بمشروع مثل هذا. لأنه يتعارض مع الخطط الجارية لتسليع مدينة القاهرة والتخلص من تراثها والتعامل مع آثارها بخشونة وفظاظة. لذا ستلقى هذه المهمة على المجتمع المدني، الذي يجب أن يوحد جهوده الأهلية للدفع في اتجاه إنشاء متحف مدينة القاهرة. ليكون نواة صلبة لأي حراك مستقبلي في الدفاع عن تراث المدينة العظيمة التي لا يعرف الكثير من أهلها قدرها ومكانتها الكبيرة في ميزان التاريخ والتراث الإنساني.
اقرأ أيضا:
الأزبكية.. حديقة تراثية تنتظر المجهول
للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي: