متاهة القبح في مصر: عقل المقاول وعقل المعماري(1/2)
يبدي بعض المثقفين على قلتهم في مصر، بين الحين والآخر، آراء ومشاعر السخط، والحزن على تدهور ثقافة العمران في المدن، وتخطيطها وفوضاها. وفي بعض الأحيان حول الطابع العشوائي الذي يمثل شخصية البناء بالأسمنت والطوب الأحمر في القرى، ومدن المحافظات المريفة.
غالبا ما يتم استدعاء، وسط المدينة الكوزموبوليتانية للإسكندرية، وقاهرة القرن التاسع عشر- القاهرة الخديوية- ومعها تخطيط الطرق، والأنماط المعمارية الأوروبية المستعارة من المرجع المعماري الأوروبي. وتذكر أسماء المعماريين الإيطاليين والأجانب الفرنسيين، وبنائهم لبعض المساجد الشهيرة، ومعهم بعض المهندسين الشوام، والمصريين.
يبدو وسط المدينة كمركز للذاكرة المعمارية، ومخيالها الجمالي في إطار التخطيط العمراني للأنسجة المعمارية، والفراغات، ونمط المقاهي الأوروبية على النمط الفرنسي، أو المقاهي الشعبية!
**
لا يقتصر الأثر على الأبنية، وأماكن اللهو، إنما أماكن العبادة- المساجد والكنائس، وغالبا ما تثير بعض الأفلام القديمة، الأبيض والأسود. هذا الحنين للمدينة، وجمالياتها، ونظام الزى الغربي الأنيق للسيدات، والرجال، والأطفال، حنين مشوب بالأسى، والحزن، والشكوى من ضياع الحالة الحضارية في البناء الجميل، والسلوك الاجتماعي للفئات الاجتماعية الوسطى- العليا، والوسطي- الوسطى، وطبقة الأفندية التي صعدت مع ثورة 1919 وما بعد!
هناك أيضا الحنين إلى مدينة الإسكندرية. وصور لكروت البوستال القديمة للمدينة الكوزموبوليتانية، التي وصفها الممثل الفرنسي الشهير “إيف مونتان” عام 1951، بأنها أجمل من مرسيليا!
العالم الكوزموبوليتي المتعدد الثقافات المتفاعلة والمتعايشة داخل فضاءات المدينة، لازال جزءا من بعض الذاكرة الجماعية للأجيال كبيرة السن التي اعتراها. وهن الشيخوخة، وتحولات السياسة والثقافة والاجتماع المصري طيلة أكثر من سبعين عاما مرت بالبلاد، وتقلباتها واضطراباتها، والتغير الاجتماعي الذي شمل ثقافة المدينة، والسلوك الاجتماعي للقاطنين فيها أو العابرين لنزهة صيفية، أو إنجازا لعمل. حيث تحولت إلى مدينة مريفة، وكتل أسمنتية قبيحة على شواطئها، وكباري معلقة، وانتهاك لحرمة البحر، وشواطئه وفضاءاته، وتخييلاته للمارة والعابرين والمصطافين.
نظرا لهجرة الريفيين من المحافظات القريبة، أو القادمين من صعيد مصر سعيا وراء الرزق. وهي كتل اجتماعية يسرت على الحركة السلفية تمددها. ودعواها الدينية الشكلية، والطقوسي والمحافظة. والمتشددة في تأويلاتها الوضعية الموروثة من السرديات التاريخية التأويلية لبعض من مدارس الإسلام السني!
**
تشوه الأنسجة المعمارية، ترافق مع السلوك الاجتماعي الريفي، والقيم القدرية المحمول عليها، جعل الأنسجة المعمارية، ونظام الزى تقدم صورة نقيضه لعالم المدينة الكوزموبوليتانية التاريخية التي تبددت. ورحلت عن عالمها المعماري العشوائي، والقبيح. إلا بعض من بقاياها، يتم هدمه من قصور، وفيلات. كنتاج لتفشى الفساد في الوظيفة العامة، أو لبناء الفنادق والعمارات العالية التي تبنى لتطل على البحر المتوسط. وتزيد القبح المعماري المسيطر في المدن الكبرى.
تبدو ظاهرة ترييف المدن، جزءا من الاستقطاب الحضري، والهجرة من الأرياف إلى المدن سعيا وراء الرزق. وهي ظاهرة بدأت بشائرها، وعلاماتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والثانية، واتسع نطاقها بعد 1958 في عهد نظام يوليو 1952. وبعد هزيمة يونيو 1967. ثم في العقود الثلاث الأخيرة من القرن الماضي، والعقدين الماضيين من القرن الحادي والعشرين.
أدى اتساع ظاهرة التريف، إلى هجرة المتعلمين أيضا في ظل اتساع قاعدة التعليم مع نظام يوليو. ورغبة خريجي الجامعات والمعاهد العليا، والمعاهد الفنية. وذوي التعليم المتوسط في الحياة داخل هوامش القاهرة والإسكندرية علي نحو أدى إلى اتساع مناطقها العشوائية.
**
من ناحية أخرى تمدد العشوائيات في المدن الريفية بالمحافظات المختلفة كنتاج للهجرة إليها من القرى، وأيضا لعودة العمالة المصرية المؤقتة من السعودية والخليج والعراق وليبيا. وتفشى ظاهرة البناء دون ترخيص، واللجوء إلى بعض الإجراءات لتسوية أوضاع الأبنية غير المرخصة. والأخطر البناء على أراض زراعية على نحو ما حدث منذ عقد السبعينيات وكأن ظواهر البناء العشوائي، وسمت شكل العمارة القبيحة، واللاتخطيط العمراني. هو عالم الطرز المعمارية العشوائية السائدة في البلاد الذي يكشف عن فساد متسع في بعض الوظائف العامة. من قبل الموظفين العموميين، وأيضا المشاركة الجماهيرية الواسعة– من فئات اجتماعية مختلفة– في ظواهر الفساد الاجتماعي، وداخل أجهزة الدولة!
هي ظواهر نبه إليها بعض الكتاب، والخبراء مذاك، وإلى الآن. ودونما ردود أفعال جادة من الحكومات المتعاقبة. أدى أيضا لجوء أجهزة الدولة إلى آلية التصالح، ودفع بعض المصاريف والتعويضات إلى اهتزاز فكرة دولة القانون، وهيبته لدى الجمهور. وهي ظاهرة بالغة الخطورة في جهاز الدولة، ولدى الجموع الشعبية الغفيرة، والفئات الوسطى– الوسطى، والوسطى العليا!
من الظواهر العشوائية في سياسة جهاز الدولة المختص بالإنشاءات، والعمران، والطرق والكباري، والبنية الأساسية، غياب الدراسات المستقبلية، والمتكاملة بين التخصصات المختلفة، من مهندسي الإنشاءات، وخبراء الطرق والمرور، ودراسة الكثافات المرورية المستقبلية وتطوراتها المحتملة. مع ظواهر الانفجارات السكانية المستمرة، والمستقبلية، والجوانب الجمالية، والتخطيط العمراني، والعلاقة بين البنية الأساسية في منطقة ما، وبين الفراغات والأنسجة المعمارية والجوانب المرتبطة بالنمو في الاستثمارات….. إلخ والجوانب البيئية.
**
اعتبارات متعددة تحتاج إلى دراسات متكاملة من خبراء مشهود لهم بالكفاءة، والخبرة، والنظرة المستقبلية، والرقابة على أعمال التشييد، والتنفيذ وإقرار ما تم وفق المواصفات الفنية التي تمت الموافقة عليها مسبقا. لأن بعض التسرع والخفة والفساد في التنفيذ. بدت في عديد الحالات السافرة، ولا تحتاج التي خبرات لبيان ذلك، وخاصة في رصف الطرق والكباري!
ثمة نزوع لدي السلطة السياسية من عصر السادات إلى مبارك، تنحو إلي إعطاء امتيازات لبعض النوادي المهنية للنقابات، والنوادي الرياضية الكبرى، منافذ لها علي شاطئ نهر النيل لبناء نوادي نهرية. وهو ما شكل مساهمة في تلوث بيئة النهر، من بعض المخلفات، والأخطر حجب النهر من عيون الغالبية العظمى من المصريين إلا من خلال الكباري الكبرى علي النهر بالقاهرة.
ومن ثم قصر التمتع بالنيل على فئات اجتماعية ذات امتيازات عن غيرها من المواطنين؟ أو التحول إلى إقامة مقاهي. أو مطاعم غالية الثمن علي الشاطئ. أو ما أطلق عليه “ممر أهل مصر” وذلك بدفع رسم للدخول لا تستطيع الأسر المعسرة أن تدفع هذه الرسوم!
**
من هنا يبدو بوضوح المساس بمبدأ المساواة بين المواطنين المنصوص عليه في النظام الدستوري المصري!
السؤال الذي نطرحه هنا ما هي أسباب الفوضى المعمارية العشوائية وسيطرتها على الحالة المصرية، والحاملة للقبح في الشكل والطرز والبناء وما وراءها؟
ثمة عديد الأسباب فيما وراء ثقافة القبح المعماري، والأنماط العشوائية في البناء يمكن رصدها فيما يلي:
أولا: البناء العشوائي ظاهرة قديمة:
يبدو الشائع التركيز في المخيال الجماعي للأجيال الأكبر سنا على نمط المدينة الكوزموبوليتانية في القاهرة، والإسكندرية، والمنصورة، وغيرها. جزءا من الخيال شبه الجمعي للنخب، وبقاياها. وشكلا بين أشكال القنوط إزاء الحاضر المعماري المشوه، والارتحال السوسيو/ نفسي إلى ثقافة المدينة الحديثة، قبل ترييفها وعشوائيتها!
ثمة احتفاء، وولع بمواقع صور القاهرة، والإسكندرية في المرحلة شبه الليبرالية والتوثيق المادي لكلا المدينتين، وعالم الأناقة في نظام الزى للرجال، والنساء، وشكل الطرق. والفراغات بين الأنسجة المعمارية، ومعها دور السينما، وإعلانات الأفلام الأجنبية والمصرية، وصالات الشراب واللهو. وشكل السيارة الخاصة والمركبات العامة، والترام، ومحال بيع الملابس والسلع والأثاث مثل شيكوريل، وصيدناوي، وبونتريمولي. وبيع المصنوعات المصرية، ومحال بيع المشغولات الذهبية……. إلخ. هي حالة سوسيو نفسية، وبعضها سوسيو- سياسي ينطوي على نقد الناصرية، ونظام يوليو 1952 التسلطي.
**
ظاهرة تمجيد الماضي أو ما أطلق عليه في اللغة الدارجة “حلاوة زمان”. وغالبية هؤلاء من الطبقات الوسطى العليا، أو الوسطى- الوسطى، وبعض المثقفين من أبناء المدن! وممن صعدوا اجتماعيا في ظل نظامها! ومع هؤلاء بعض الأقباط ممن يرون في الناصرية فرطت في تقاليد 1919 السياسية، والاجتماعية. بخصوص الحقوق الدينية، والمساواة، والمشاركة السياسية.
من هنا نحن إزاء ظاهرة أزمات سوسيو – سياسية، وسوسيو – نفسية من الأجيال الأكبر سنا. من الخمسينيات إلى ما بعد!لأنها كانت بعضا من بقايا ذاكرتهم. أو حياتهم في المدينة وأحيائها، وجزءً من استعادة هذا الماضي.
أما أبناء الفئات المعسرة من العمالة البسيطة، وصغار الموظفين، والبرجوازية الرثة– غالبا كانت القاهرة الخديوية، والإسكندرية في مركزها، وحول الشواطئ. وبعض إحيائها جزءا من بعض حياتهم اليومية في العمل. أو التنزه في أوقات الفراغ، إلا أنهم لم يعرفوا الحياة في العمارات الخديوية، ومثيلاتها في الإسكندرية. وإنما تركزت حياتهم في قاع المدينة، وأحيائها الفقيرة، وامتداداتها العشوائية. ومن ثم كانت هذه الأحياء المكتظة بالميسورين والوافدين من الأرياف سعيا وراء الرزق. هي حياتهم ونمطها المغاير في القيم وبعض أشكال السلوك الاجتماعي السائد داخلها.
**
كانت العشوائيات العمرانية داخل حارات المدينة. وأحيائها الشعبية، تعبيرًا عن الحاجة الوظيفية للسكن. وليست جمالياته أو تخطيطه العمراني.
ظاهرة القبح المعماري لسكن الفقراء في المدن كانت هي الأبرز. مع بعض البيوت ذات الطابع الإسلامي الموروث من عصور سابقة من حيث البناء، والفراغ من الداخل، والشبابيك المطلة على الداخل، والمشربيات على الشوارع الضيقة، والتي تميزت بجمالها المعماري الموروث. والمعبر عن نظام القيم المحافظة، والذكورية، ونظام الزى، المحدود للمرأة في الأحياء، ومكوثها في المنزل لأداء أدوارها الوظيفية في إطار نظام الأسرة الذكوري!
هذا النمط من الطرز المعمارية، كان يسود أحياء مصر الإسلامية حول الأزهر، والحسين، والسيدة زينب.. إلخ والأحياء المجاورة لهم.
كان السكن معبرا عن هوية المكان ونظامه القيمي، وذكوريته المهيمنة. من ثم كانت أدواره الوظيفية متسقة مع ثقافة المكان، من المساجد التاريخية التراثية الجميلة، وأيضا المحال، وأيضا ضمن الحارات!
ظلت الأحياء في القاهرة القديمة رهينة مبادرات الأهالي في البناء، والتراخيص، والعشوائية. في ظل بناء القاهرة الخديوية، وتنظيمها في عصر إسماعيل باشا وما بعد حتى المرحلة شبه الليبرالية!
**
مع تمدد المدينة إلى أحياء جديدة في مصر الجديدة والدقي والعجوزة والجيزة. ثم حلوان والمعادي، كانت هذه الأحياء مخططة عُمْرَانِيًّا، ودخل إليها بعض التطورات في الطرز المعمارية الجديدة. وفي العلاقة بين الكتل العمرانية، والفراغات في ظل انتقال الفئات الوسطى إلى هذه المناطق. وبعض التعدد الديني والثقافي في إطار ثقافة التعايش وتفرعاتها من المرحلة شبه الليبرالية. مع سيطرة الزى المديني للرجال والنساء والأطفال مع بعض من الزى الشعبي- كالجلباب– لبعض من يعملون في هذه الأحياء.
مع ثورة يوليو 1952، والهجرة إلى المدن. تزايدت أعداد الريفيين في القاهرة والإسكندرية، مع تزايد أعداد السكان، تزايدت مشكلات المعروض من السكن خاصة في ظل التعديلات المتعاقبة على قانون إيجارات المساكن. ثم قلة المعروض من الوحدات السكنية وتمدد عقد الإيجارات بقوة القانون. ثم دخول الدولة إلى مجال بناء المساكن الشعبية كما كان يطلق عليها للتخفيف من حدة الأزمة السكانية، واستيلاء شركات التأمين على بعض العمارات التي تم تأميمها في الأحياء الراقية.
كان لجوء الدولة لبناء المساكن الشعبية من أجل استيعاب بعض الطلب على السكن نقطة تحول في تغلب الاعتبارات العملية في البناء. وخاصة مع شركات المقاولات من الباطن من القطاع العام. وتغلب عقلية المقاولين على عقلية المهندسين المعماريين والإنشائيين في تصميم هذه الكتل السكنية وفق تأثر بعض ما كان يتم في الدول الاشتراكية. أو ما كان يطلق عليه بنمط أسنان ستالين “stalin teeth” أو العمارة الستالينية أو الكلاسيكية الاجتماعية ما بين عامي 1933م، وعام 1955م. مع تأسيس الأكاديمية السوفيتية للعمارة في عهد خروشوف. وكان استخدامها استعاري. لأنها عمارة ذات طابع وظيفي يرمى إلى إسكان العمال، والموظفين محدودو الدخل. وهو ما أدى إلى نقص المعروض من الوحدات السكنية للقطاع الخاص.
**
من هنا تمددت المناطق العشوائية داخل المدينة، وعلي هوامشها في ظل فساد بعض الأجهزة المحلية، والبناء دون ترخيص، وعدم الاهتمام بالاعتبارات الهندسية، أو التخطيطية، وبالطبع الطرز المعمارية، وجمالياتها، وهوية المكان!
لاشك أن ذلك أدى إلى فوضى معمارية لا نظير لها، خاصة بعد هزيمة يونيو 1967. وبعد حرب أكتوبر 1973، والهجرة إلى النفط، وتزايدت عمليات البناء العشوائي دون ترخيص، بطول البلاد وعرضها، والاعتداء على الأراضي الزراعية، والبناء عليها على خلاف القانون.
مخيلة زمن المدينة الجميلة في طرزها المعمارية. ونظام الحياة والسكن هو تعبير عن الحنين لتاريخ المدينة الحديثة، ونسيان الوجوه الأخرى، خارج مراكز المدينة، ونسيان عالم قاع المدينة وهوامشها، وعمارتها العشوائية، ومعها الفضاءات العشوائية في مدن المحافظات والقرى!
اقرأ أيضا
مدخل لعالم الشاعر عبدالحفيظ طايل: شعرية الهذيان (3-3)