ما بين شاشوتب “الفرعونية” وشطب “الأسيوطية”.. تاريخ صمد لآلاف السنين
تصوير: أحمد دريم
*ولاد البلد الشريك الإعلامى للمتحف البريطانى فى تغطية فعاليات كتاب “أسيوط المدينة الحارسة”.
هى رحلة استغرقت 20 دقيقة من المدينة لا أكثر، ولكن عند الوصول والوقف أمام مدخل القرية، تكتشف أن الوقت الذي يفصلك عنها ليس دقائق بل هي عصور مرت بها ولا تزال تعيش فيها، فهنا ترى ملامح العصور الوسطي، تتجسد في التلال التي تبنى عليها الطرقات، وفي ضيق الشوارع التي تنحصر بين مبانيها التى بنيت من الطوب اللبن على الأكثر ولا تزال تصمت، وفي جدرانها التي تصبغ باللون البني بلون طمي النيل، وفى تفاصيل النقوش على أبوابه منازلها الفرعونية.. أنها قرية شطب إحدى قرى مركز أسيوط.
شطب قديمًا
سميت شطب قديمًا بمدينة شاشوتب القديمة، فهي كانت المدينة التي تقع على ضفة النيل الغربية على بعد خمسة كيلو مترات جنوب شرق جارتها الغنية أسيوط، عاصمة الولاية الحادية عشرة من ولايات الصعيد، وصغرى مقاطعات مصر الإثنين والأربعين، الولاية الحادية عشر التى لا يزبد حجمها عن نصف حجم الولاية الثالثة عشر “أسيوط”، وتبدأ من دير درنكة في الشمال وتنهى بأبوتيج في الجنوب.
في قلب القرية، تسود حالة من المعرفة البسيطة لتاريخ القرية، ولكن هناك شعور بالعظمة لفكرة أن هناك تاريخ لقريتهم التي تبدو بسيطة ولكنها تحمل بداخل قاطنيها تاريخا شفهيا، يسرده كل على حسب عدد سنين تواجده فى القرية.
80 سنه ذكريات
فى هذا المنزل المكون من دورين، حيث المضيفة ذات “الدكك” الخشب بالدور الأول، وغرف المعيشة بالدور الثاني، التي تصعد إليها بسلم من الخشب “درابزين”، تجد أم محمد، 85 عامًا، تجلس على سريرها النحاس ذات الأعمدة، في غرفة يصل الدولاب الخشبي إلى سقفها؛ ومن لمبة “الجاز” ينبعث ضوء خافت يساعدها على العودة بسهولة إلى ذكريات الماضي.
“ولدت فى القرية والتى لم تتغير أبدا سواء فى شكل بيوتها ولا حتى فى نفوس أهلها، قريتنا تختلف عن باقي القري، فنحن نعلم قيمة تاريخها، وكان والدي يتجمع مع الرجالة بالليل ويحكوا سوا” تقول أم محمد.
وتوضح أن لكل منهم ذاكرة معينة عن تاريخ هذه القرية فهي نفسها تعلم أنها تمتد من العصر الفرعوني، وبأن هناك شخصيات كانت تسكن المنازل وهي التي بنتها وصممتها بهذا الشكل، لذا حرصت هي وزوجها على عدم تغيير أي تفاصيل في المنزل وعدم الانصياع لحداثة العصر والتى تراها من وجهة نظرها “مضيعة للزمن”.
يذكر كتاب “أسيوط المدينة الحارسة” الصادر عن المتحف البريطاني في الجزء الثاني “شاتوتب: أقرب الجارات لأسيوط” أنه جاء أول توثيق لذكر شاتوتب في الأسرة العاشرة في مقبرة بالجبل الغربي تنتمي لحاكم أسيوطي، وهو خيتي الثاني، حيث ذكر اسمها كنقطة انطلاق للأسطول الذي تم تسييره للدفاع عن حدود المملكة الشمالية “هيراكليوبوليس” ضد المعارضة في طيبة جنوبًا.
وقد تأكدت مكانة شاتوتب، كعاصمة إقليمية، من خلال نقوش وجدت فى مقابر دير ريفا، بناها حكام ولايات محليون ووجهاء المدينة أبان الدولة الوسطي، بجانب مقابر تعود للدولة القديمة والفترتين الانتقاليتين الأولي والثانية والدولة الحديثة، وبفضل خاصية غريبة تمتاز بها شطب عن مدينة أسيوط فقد قدر لتاريخ شاتوب أن يرى الضوء، فتعتلي شطب وهى التسمية الحديثة لشاسوتب، قمة تلة من البقايا الأثرية تكونت منذ إنشائها.
وصف مصر
رصدت خرائط “وصف مصر” فى منطقة أسيوط، أن أكوام أسيوط هى الأعلي بارتفاع ثلاثة عشر، فيما تحتل شطب المركز الثاني إذ يصل ارتفاع أكوامها إلى أحد عشر مترًا، وبين أكوام الأنقاض الكثيفة ترقد حكايا شعب ومدينة صمدت لآلاف السنين.
تشرح المهندسة هبة شامة، المنسقة بشركة تكوين، والتي كلفها المتحف البريطاني للعمل على مشروع توثيق القرية، شطب في سطور قائلة: إن شطب كانت مأهولة بالسكان من أكثر من أربعة آلاف سنة، وموجودة الآن فوق أنقاض شا سحتب القديمة، والتي كانت تعد عاصمة إقليم المقاطعة الحادية عشر في صعيد مصر الفرعونية، حيث اكتشفت مقابر أثرية بالقرب من دير ريفا أسماء من عاشوا في شا سحت، وذلك طبقا لدراسات النصوص القديمة.
كجسر يربط بين الجنبين اليميني واليساري بنيت السقيفة والتي هي غرفة ذات مساحة متوسطة لا يوجد لها عمدان بل هي تربط منزلين مقابلين، ويوضح المهندس عادل، من ضمن مجموعة تكوين، أن من ضمن محتويات القرية والتي تميزها بشكل خاص السقيفة، والذي يقوم الأهالي ببنائه بين منزلين مقابلين بعضهم، ولكن شرط أن تكون ملك لشخص واحد.
من مواليد النيل
تشير بيئة شطب إلى دلائل على تطورها من تلة رملية نيلية إلى جزيرة اندمجت مع النباتات النهرية على مر الزمن، فحين يواجه النهر تلة رملية ينشطر إما تجاه اليمين أو اليسار متسببا فى سرعة التيار وجارفا معه الرواسب على طول الطريق، وحين يجتاز العقبة يهدأ التيار فعيد ترسيب التلة الرملية، لتنبت البذور التى أتى بها الطير، لتشكل في النهاية نواة متينة للحياة النباتية.
جرت ترعة نيلية على الجانب الغربي من شاشوتب فى العصرين البطلمي الروماني، إذ انهمك القوم في إنتاج الزجاج والطوب وربما المعادن على امتداد ضفتيها وتظهر خرائط القرن التاسع عشر التى وضعها أعضاء فى حملة نابليون، الترعة وهى تجري شمالًا بين شطب وجبال درنكة مارة بغرب أسيوط رغم اختفائها اليوم، فكانت شطب قريبة من فرع النيل الرئيسي فى نهاية الفترة الوسطي.
وإلي جانب الماء اللازم للزراعة والبناء والصناعة، فقد وفر النيل أكفأ السبل لنقل البضائع التجارية والإمدادات، وكانت أيضًا طريقة ممتعة للقيام بالمهام الميدانية الرسمية، وتصف نقوش مقبرة الأسرة الثانية عشرة وقت حكم أمنمحات الثالث كيف أن “نائبًا” أسيوطيًا يدعي خيتي يبحر من أسيوط إلى شاشوتب.
تشير العينات المأخوذة من حول منطقة كوم شطب أنها كانت ذات يوم جزيرة فى النيل أن الرواسب المرتبكة التي أنتجت في المراحل الأولى لنشوء الجزيرة تحتوى على نسب عالية من معدن “ميكا” وهى مادة تتشكل حول جذور النبات، تكون مؤشرًا جيدًا على أن المنطقة كانت ذات يوم مجاورة للماء.